يجلس رفيقنا أبو عصام على كرسيِّه في شرفة بيته في شارع الخوري، حيّ وادي النّسناس بحيفا، كعادته في كلّ صباح، يرتشف قهوته الصّباحيّة ويتصفّح “ويُفَلِّي” صحيفة الاتحاد وينظر بعيدًا إلى ما وراء الجبال التي تُحيطُ ساحل خليج حيفا بنصفِ دائرة من الشّرق، كالقمر الزّاهر، الوضّاح في هلاله حيث يُبشّر بشهر جديد أو كمنجل حصّاد يحصد سنابله في موسمها، رأسه الحادّ في رأس النّاقورة وقبضته في مدينة حيفا، ومن الغرب أفق مفتوح يبعث الأمل، ويُبيِّن خطًّا مستقيمًا وواضحًا يفصِلُ بين البحر والسّماء، ويملأ هذا المنظر الخلاب قلبه بالسّرور والغبطة، خاصّةً حين تكون الرؤية واضحة، فيرى جبل عامل تتمّة جبال الجليل، وتبرُز خلْفَه قمّة جبل الشّيخ. لقد كان يرى تلك القمة البهيّة البيضاء النّاصعة في طفولته، كقلوب أهل تلك المنطقة، حين كان يسكن قرية صفد البطّيخ، مسقط رأسه، قضاء بنت جْبَيْل، محافظة النّبطيّة، في الجنوب اللبناني الصّامد..
هناك، وُلِد رفيقنا عبّاس محمّد حسين زين الدّين، أبو عصام، في العام ألفٍ وتسعِمائةٍ وخمسة وثلاثين. فكانت له وما زالت قمّة جبل الشّيخ تقع في وسط العالم، النّصف الأوّل هناك، في الجنوب اللبناني والنّصف الثّاني هنا، فلا هناك سوى هنا ولا هنا سوى هناك، حيث هناك وهنا وحدة واحدة لا انفصام فيها، على أمل أن يجتمعا معًا ويصبحا سويَّةً هنا، لأنّ بلادنا كلّها هنا.
يعشق الرّفيق أبو عصام رؤية قمّة الحَرَمُون البيضاء من شرفته في حيفا، لأنّها تُذكِّره بطفولته في صفد البطّيخ، حين كان يراها من شرفة بيته الآمن، حيث يأمل أن يراها ثانيةً وأن يراها قمّة القِمم، فهي مرآة حياته بكلّ مراحلها..
كانت بلاد الشّام تضمّ سوريا ولبنان وفلسطين ومنطقة شرقي نهر الأردن
وتشكِّل وحدة جغرافيّة وقوميّة عربيّة واحدة، حيث كان التّنقّل بين مناطق الوطن الكبير مفتوحًا وشعور الانتماء واحدًا، فقد تداخلت العائلات بعضها ببعض لتجد كثيرًا من العائلات في فلسطين لها أقارب في الأقطار الشّقيقة المجاورة والمتاخمة، وكذلك تجد العكس، إلا أنّ اتّفاقيّة العام ألفٍ وتسعِمائة وستّة عشر، سايكس بيكو، والموقّعة بين فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصريّة في مدينة بيتروغراد (سانت بطرسبورغ، لينينغراد سابقًا)، المُتآمرة على وطننا العربي الكبير مزّقته وأحكمت السّيطرة عليه وعلى ومقدّراته، لدرجة أنّهم ركبوا على ظهورِنا ومدّوا (دَنْدَلُوا) أرجلهم براحة فائقة. وقد أدّى انتصار الثّورة الاشتراكيّة العُظمى في روسيا القيصريّة إلى فضح الاتّفاقيّة والمؤامرة، حيث تنازل الاتحاد السّوفييتي عن حصّة روسيا القيصريّة في اقتسام أراضي الرّجل المريض العُثماني (عن استانبول ومضيق البسفور وقسم كبير من الأناضول) بينما قسّمت فرنسا وبريطانيا باقي الوطن فيما بينهما.
قوّتهم في تفرُّقِنا وضعفُنا في تفرِقَتِنا وعجزُنا في عدم اعتصامنا بحبل الوحدة وبهذا يجد الطّاغوت إلينا سبيلا.
لقد قام رفيقنا عبّاس وعائلته بزيارة لأقاربه في مدينة النّاصرة في أواخر العام ألفٍ وتسعِمائة وسبعة وأربعين. وحين سقطت البلاد، في عام النّكبة، سقطت إمكانيّة الرّجوع إلى مسقط رأسه بعد أن أُقفِلت الحدود بإحكام تامّ. وبدأ بترتيب عودته إلى لُبنان، لكنّ قيادة الشّبيبة الشّيوعيّة طلبت منه البقاء في بلادنا، لحاجتها الماسّة لنشاطه النّوعي، بعد أن انضمّ إلى صفوفها، فرع النّاصرة، عام ألفٍ وتسعِمائة وتسعةٍ وأربعين، فبقي في القسم الجنوبي من وطنه حيث وجد أنّ لزامًا عليه البقاء في البلاد لمقارعة الاحتلال والعمل على عودة اللاجئين.
” لقد عملتُ في النّاصرة في مصنع الكازوز بمرتّب زهيد وكان يعمل في المصنع بعض الرّفاق منهم الرّفيق غسّان حبيب الذي كان يشرح للعمّال أثناء فرصة
الغذاء، عن أمور سياسيّة لم أفهمها وأمور أخرى كانت لي واضحة، وعندما
بدأت أشاركه النّقاش طلب منّي الانتساب للشّبيبة، وهكذا كان”.
سكن في النّاصرة مع عائلته في الحارة الشّرقيّة، وبدأ نشاطه في توزيع كلمة الحزب، الاتّحاد، حيث كان على الرّفاق قراءة الجريدة قبل توزيعها حتى يتسنّى لهم معرفة فحوى الجريدة، لإقناع النّاس وإعطائهم الجواب الشّافي لكلّ سؤال، والعمل على شراء الصّحيفة، فقد كانت تُوزّع صحيفة الاتّحاد داخل النّاصرة وفي قضائها، كذلك في القُرى البيضاء، التي لم يكن فيها فروعٌ للحزب، كعيلوط ودبّورية واكسال وعين ماهل. ووضعوا نُصب أعينهم هدفًا نبيلاً، هو إيصال الكلمة إلى كلّ النّاس لأنّها صحيفة كلّ النّاس، لذلك كانوا يذهبون، أيضًا، إلى تلك القُرى مشيًا على الأقدام وكانت تقوم منافسة بين الرّفاق، من يوزّع أكثر.
يذكر أبو عصام أنّه قامت شلّة من زعران المباي من مدينة النّاصرة، حزب بن غوريون، بالاعتداء على الرّفيق غسّان حبيب سكرتير فرع الشّبيبة في النّاصرة، آنذاك، “مُحاولين منعنا من النّشاط بين الجماهير، لكنّنا لقَّنَّاهم درسًا عرفوا من بعده مع مين علقانين”، لقد كان الزّعران مسلّحين أمّا سلاح رفاقنا فقد كان قلوبًا ثائرة وحجارة من بلادنا، “حيث صعدنا أسطح المنازل وبدأنا بِرَمْيِهم بالحجارة من كلّ صوب الأمر الذي أخافهم ففزِعوا من عددنا وبأسنا وفرّوا هاربين إلى جحورهم. وبعدها بدأنا بتوزيع صحيفة الاتّحاد بشكل تظاهريّ في منطقة الكراجات وبمجموعات كبيرة لنُفهِمهم أنّ إرهاب السّلطة وعملائها لم يمرّ ولن ندعه يمرّ”.
لقد أُعجبَ الرّفيق أبو عصام بحيفا التي فتنت ناظِرَيْه كثيرًا. فقد رآها أوّل مرّة حين أتاها من النّاصرة رفيقًا، مشارِكًا في مهرجان ومُخيّم الشّبيبة الشّيوعيّة على سفوح جبال الكرمل، فقرّر الانتقال إلى حيفا عام ألفٍ وتسعِمائةٍ واثنين وخمسين بعد أن حصل على توصية من الرّفيق سهيل نصّار للعمل في قوت الكادحين، وكان عمره ستّة عشر عامًا، وكما هو معلوم كان عليه أن يُصدِر تصريحًا يسمح له الانتقال من النّاصرة إلى حيفا. فذهب إلى مكتب وزارة الدّاخلية في النّاصرة،
لإصدار التّصريح، وحين وقف في صفٍّ طويلٍ ينتظرُ دورَهُ للدّخول إلى غرفة
التّصاريح، جاءه شرطيّ عربيّ، إبن النّاصرة، وطلب من الموجودين الالتزام بالوقوف في الصّف. وكان من بين المنتظِرين دخولَ الغرفةِ طالبًا التّصريحَ رجلٌ مسنٌّ، فاقترب منه ذلك الشّرطي ودفعه إلى الحائط بقوّة على مرأى من الحضور الأمر الّذي لم تتحمّلهُ شهامة الرّفيق أبو عصام، فقد تخيّل أنّ الشّرطيَّ يُهين والده المُتوفَّى أبو أحمد، فصرخ في وجه الشّرطيّ شاتِمًا ومؤنِّبًا على تصرّفه مع هذا الرّجل المُسنّ الّذي يمكنه أن يكون في جيل والد ذلك الشّرطيّ، عندها أخذه إلى غرفته وصفعه على وجهه وصادر هُوِيّته قائلا: “خلّي أبوك ييجي يوخد هويتك”. وحين كان الرّفيق عبّاس يتيمَ الأب، فكيف له أن يُحضِر والده لأخذ الهويّة، ومن أين سيدبِّرُ أبًا. فذهب إلى الرّفيق صليبا خميس، سكرتير المنطقة آنذاك، وأخبره بتفاصيل الحادثة حيث قام بدور أبيه وذهب معه إلى المسكوبيّة (مركز الشّرطة) وحرّر هويّة أبي عصام. وبعدها حصل على التّصريح وانتقل للعمل والعيش في حيفا، حيث بدأ عمله في الجمعيّة التّعاونيّة قوت الكادحين، ورُفِّع إلى صفوف الحزب عام ألفٍ وتسعِمائة وخمسة وخمسين، وتعرّف على مشاكل العمّال وروّاد المطعم وصادقهم، الأمر الذي ساعده في إدارة أكبر خليّة للشّبيبة العاملة في حيفا، حيث كان لسنوات عديدة عضوَ لجنة منطقة حيفا للحزب الشّيوعي.
أمّا قوت الكادحين فهي جمعية تعاونيّة، غير استثماريّة أو رِبْحِيَّة، أقامها “مؤتمر العمّال العرب” بقيادة الشّيوعيّين بعد الاحتلال، في أوائل خمسينيّات القرن الماضي، على مستوى القُطُر، ليضمن لقمة عيش العمّال، ليعيشوا بشرفٍ دون مِنّةٍ من أحد، من خلال فتح بقّالة تعاونيّة تحمي جمهور العاملين والكادحين، من اليهود والعرب، من منشار “السّوق السّوداء” في زمن شراء المواد الغذائيّة مقابل بطاقات تموين من دائرة التّموين، حيث كانت تمنح هذه الجمعية أعضاءها، احتياجاتهم الغذائيّة بأسعارٍ مُراقبَة كالطّحين والحليب ومنتجاته والبيض والسّكّر والملح والقهوة كُلاًّ حسب حاجته وفي موعدٍ مُحدّدٍ، في وقت كان بعض أصحاب البقالة الآخرين يخزنون بضاعتهم ويبيعونها بعد ذلك بأسعارٍ عالية حين كانت تنقص من السّوق، حيث وصل عدد المشتركين في الجمعيّة إلى ستِّمائة وستين مشترِكًا.
يروي الرّفيق عباس زين الدّين حادثةً:
“كنتُ أذهب إلى السّوق لشراء الخضار والفواكه للجمعيّة على أن أدفع المبلغ بعد بيعِ البضاعة. وبعد أسبوع أتيتُ لشراء الخضروات الأسبوعيّة، ثانيةً، كما هو مُتّفقٌ، وإذ بأحد عملاء السّلطة يأتي إلى مقرّ الجمعيّة، المطعم، يُطالبني بدفع الدّيْن المستحقّ ويُهدِّدني بكذا..إذا لم أدفع المبلغ له. وكان الرّفيق رياض المعلّم (عودة) حاضِرًا الاستفزاز، فأتى سائلاً عن الإشكال وعن طبيعة تهديد هذا الشّخص (المعروفة هويَّته) لي، وما أن بدأ بالتّطاول وإذ باللكمات تنزلُ على أنفه ورأسه وجميع أطرافه من أبي نوّاف المعلّم الأمر الّذي دعا هذا العميل إلى الهروب مُستنجِدًا بشلّته الّتي أتت إلى الجمعيّة في شارع الخوري، حيث هدّدوني بطلقة رصاصٍ من مسدّس أحدهم في جبيني، إذا لم أعترف لهم عن الرّفيق رياض، فقلتُ لهم انّه مُجرّد عابر سبيل لا أعرفه فأنا لا أستطيع معرفة كلّ الزّبائن الّذين يرتادون المطعم، وهكذا كان اعترافي في المحكمة الّتي لم تجد دليلاً لتجريمِ أيّ شخص”.
وفي حادثة أخرى يسردها أبو عصام: “أنّه حين طُعِنَ أحد المُعتدين من شِلَّة اليمين بسكين داخل المطعم، كان المُتّهم حينها الرّفيق يوسف عبده، حيث أنكر المُتّهم ورفاقه هذه الحادثة أمام الشّرطة وأمام القاضي في المحكمة الّتي كان يدافع فيها عن رفاقنا محامي الأرض حنّا نقّارة، وخلال سؤاله لأحد الشّهود على عمليّة الطّعن وعن مكان وجوده خلال الطّعن، وكيف رأى المُتّهم عمليّة الطّعن من مكان وقوفه! فقام أبو طوني بدعوة القُضاة للمكان ليُعاينوا الموقع حيث وجدوا أنّه من المستحيل رؤية المكان من الموقع الّذي أشار إليه الشّاهد فكم بالحريّ رؤية عمليّة الطّعن. وهكذا أنقذ أبو طوني الرّفيق من التّهمة. وحُرّرَ المُتّهم بشهادة براءة من كلِّ إثم أو ذنب، وهكذا درأ مُحامي الأرض الحدود بالشّبهات.
ذات مرّة غَزَت قوّة من سلطة البثّ المطعم وذلك لعدم وجود ترخيص لجهاز
الرّاديو الموجود هناك، وحرّرت مُخالفة لجمعيّة قوت الكادحين، فما كان من الرّفاق إلا الذّهاب إلى المحكمة مع جهاز راديو قديم، قد أكلت القوارض نصفه، وحين رأى القاضي ذلك الجهاز الّذي أكل الدّهر عليه وشرب مع بقايا القوارض أعفاهم من كلّ جزاء.
لقد قامت منطقة حيفا للحزب الشّيوعي، قبل ثلاثة أعوام، بتكريم الرّفاق القُدامى
وذلك على شرف الذّكرى الحادية والثّلاثين ليوم الأرض الخالد وانعقاد مؤتمر
الخامس والعشرين لحزبنا. وقد كان رفيقنا أبو عصام من الرّفاق المُكرّمين وقد
جاء في كلمتي التّكريميّة: الرّفيق عبّاس زين الدّين رفيق إيثاري خدم أحياء الفقر في حيفا بدون حساب لوقته أو راحته وبدون ملل أو كلل حيثُ ساعد سُكّان هذه الأحياء على كيفيّة انتشال الماء من البئر العميقة وانتزاع اللقمة من فم الأسد وحافظ على جريدة الاتّحاد وعلى كلمة الحزب ونشرها بين النّاس.
حين أذهب إلى بيوت السُّكان في منطقة شرق حيفا، منطقة شارع العراق، لدعوتهم للذّهاب إلى صندوق الاقتراع للتّصويت، أيّام الانتخابات، كنت ألقى جوابًا يُثلِجُ الصّدرَ، “لن أذهب دون أبي عصام” وطبعًا كنتُ أحاول إقناعهم أنّني من حزبه وهو الذي أرسلني لكن دون فائدة، لقد حفِظوا الدّرس وأتقنوه كما يجب.
لقد شَغَلَ الرّفيق عبّاس منصِب رئيس لجنة العمل البلدي، التّابعة للحزب، لعدّة
سنين حيث قدّم كلّ ما يملك من طاقات من أجل إيجاد مساعدات لتلك المنطقة،
وحلّ مشاكلها الكثيرة، حيثُ اعتبروه واحدًا منهم. كذلك كان عضوًا فعّالاً في لجنة الإسكان في حيّ وادي النّسناس حيث تتوّج نشاطهم بإقامة وحدة سكنيّة ضخمة في شارع الخوري. كذلك نظّم عملاً تطوّعيًّا مكوَّنًا من رفاق حزبنا وشبيبتنا في حيفا ووفد شبابيٍّ من ألمانيا الاتّحاديّة في الأحياء العربيّة الحيفاويّة وذلك في شهر آذار عام ألفٍ وتسعِمائة وسبعة وثمانين حيث كان ناجحًا وموفَّقًا في تنفيذ برنامجه..
لقد كانت صحيفة الاتّحاد تأخذ حيِّزًا هامًّا من حياته وحياة أفراد عائلته خاصّة زوجته طيِّبة الذّكر الرّفيقة عفيفة، أم عصام، التي رافقته مسيرته في ضرّاء وسرّاء الحياة متحديّة جميع الصّعاب، حيث كان البيت يَومَيْ الاثنين والخميس، ورشة عمل، وعَمَلُ خليّةِ النّحل يصغرُ عندهم. فقد كانوا يُحضِرونها إلى بيتهم وكانت العائلة تُنظِّم طيَّها حسب الصّفحات وترتيبها ورزمها وإرسالها إلى ساحة الخمرة، أو الحناطير، إلى محطّة باصات النّاصرة لنقلها إلى جميع مناطق الجليل وكذلك في التّاكسيّات إلى جميع مناطق جنوب حيفا حتّى النّقب، أمّا أم عصام فكانت تدعو جاراتها للعمل في طيّ الجريدة المُرسلة إلى الخارج، حيث كانت تُطوى بشكل مستطيل حتّى تدخل في كيس أبيضٍ صغير وتُرسل إلى البريد في اليوم التّالي صباحًا إلى خارج البلاد، هذا عدا عن أنّها كانت توزّعها مع رفيقاتها في الحيّ. لقد كانت صحيفة الاتّحاد واحدًا من أفراد العائلة..
كانت توزّع الاتّحاد أيّام السّبت في القُرى المجاورة لحيفا، وذات مرّة حين قام الرّفيق أبو عصام بتوزيعها في قرية جسر الزّرقاء، سأله أحد السُّكّان: ما الفرق بين هذه الصّحيفة والصُّحُف الأخرى؟ أجابه بعد أن أشار له إلى عنوان عريض في أوّل الصّفحة، “جريمة هدم ثلاثة بيوت في طمرة”، قال له: “هذا هو الفرق، أنّني أتحدّى أن تصف أيّة جريدة أخرى هدم البيوت بالجريمة، لأن “الإتحاد” هي
الجريدة الوحيدة التي تُدافع عن قضايا جماهيرنا”.
وحادثة أخرى في نفس القرية “كنتُ أُوزِّع الجريدة مع رفيق الشّبيبة خالد كركبي (الآن أصبح طبيبًا) ومررنا برجال يجلسون تحت شجرة حيث قاموا جميعًا بشرائها وقد استبشرنا خيرًا، لكنّنا عُدنا بعد أسبوع وكانت عودتنا وخيمة، حيث تقدّم أحدهم منّي وشتمني دون سبب، وقمتُ بنهيِه عن الشّتم وبشرح هدف الصّحيفة وما تصبو إليه والهدف من زيارتنا للقرية وكم هو مهمّ أن يكون الفرد في مجتمعنا واعيًا..
وحين أرخى الليل ستاره وأردنا العودة إلى حيفا كانت في انتظارنا تحت عامود الكهرباء، في مدخل القرية مجموعة من الشّباب أرادت الاعتداء علينا، فأتى من خلفي شخص، أحاطني بذراعيه متوسِّلاً بترك المكان لأنّ هذه المجموعة تُحضِّر لنا كمينًا، لقد كان هذا الشّخص سائق سيّارة لبيع مواد بناء، وكان رفيقًا من باقة الغربيّة، وقد تابعنا توزيعها في القرية كلّ يوم سبت”..
حين نفت سلطات الاحتلال إلى قرية عسفيا الرّفيق محمّد حسنين، أوكل الرّفيق زاهي كركبي، أبو خالد، رفيقنا أبا عصام، بزيارته هناك والتّواصل معه وإيصال الصّحيفة إليه وتزويده بكلِّ ما يحتاج إليه، وبهذا كُسِر طوق النّفي والعُزلة.
ذات مرّة أعتدت مجموعة من شباب عسفيا على إبني، عضو الشّبيبة عادل زين الدّين (الآن أصبح طبيبًا) عندما كان يوزّع الصّحيفة هناك، بحجّة مُضايقتهم في بيعها، وحين صعد الرّفاق لتقصّي حيثيّات الحادثة حتّى لا تُعاد كَرَّة الاعتداء، قال أبو عصام للمُعتدي في بيته: “كيف تضربه في بلدك، هذا عيب، أتريد أن تُضربَ حين تأتي إلى حيفا، فأجابني إنّ الشّرطة قد أشارت إليهم بالاعتداء على الشّيوعيّين إذا أتوا البلدة، وحينها علا صراخ والده عليه الذي أنكر أن يكون قد تلقّى تعليمات كهذه، لكنّنا تابعنا وداومنا على توزيع الاتّحاد هناك دون إحباط أو خوف”.
بعد احتلال العام ألفٍ وتسعِمائة وسبعة وستّين، بدأت أوامر الإقامة الجبريّة.. فقد مُنِع الرّفاق من دخول الَضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة وكذلك صحيفة الحزب، لكنّه سُمِح بتوزيعها في مدينة القدس فقط، وأوكلت مهمّة إيصالها إلى القدس لأبي عصام حيث يُسلِّمها تسليم اليد لرفيق من رفاقنا في القدس لضمان وصولِها، وهناك كانت توزّع بشكل سريٍّ إلى باقي مناطق الضّفّة، كما كانت توزّع عندنا أيّام الحُكم العسكريّ، وهذه كانت أضمن وسيلة إيصال كلمة الحزب لشعبنا الرّازح تحت الاحتلال، هناك.
رحّبت منطقة حيفا باقتراح رفيقنا الشّاعر الكبير سميح القاسم بإقامة هيئة للدّفاع عن المقدّسات الإسلامية، عام ألفٍ وتسعِمائة وأربعةٍ وسبعين، حيث تبلورت في أعقابها فكرة “جمعيّة المبادرة الإسلامية” وقد انسجم هذا الاقتراح، لاحقًا، مع اقتراح قامت به الرّفيقة بنينا فاينهاوز، حين اقترحت على رفاق الحزب إقامة لجنة للعمل البلدي لمواطني حيفا عامّةً وللعرب خاصّةً. وتأسّست الجمعيّة ونشطت وأنجزت إنجازات كبيرة وكثيرة، تعتزّ جماهيرنا بها، ودافعت بكلّ ما أوتيت به من عزيمة عن المقدَّسات والأوقاف الإسلاميّة، وكشَفَت المؤامرات التي حيكت من قِبل لجنة الأمناء، لسرقة الأوقاف وبيعها للشّركات الإسرائيليّة والمؤسّسات الحكوميّة وكان رفيقنا أبو عصام أحد دعائم الجمعيّة المُدافعين والمثابرين والمواظبين.
لقد واكب رفيقنا عبّاس زين الدّين صحيفة الاتّحاد أكثر من خمسة عقود، في جميع محطّاتها من بستان الشّيوعيّة إلى قاعة مؤتمر العمّال العرب في شارع مار يوحنّا إلى شارع الحريري وجميعها تقع في منطقة حيّ وادي النّسناس، وكان عضوَ إدارتها ستّة وثلاثين عامًا أو يزيد. كذلك واكب مسيرة جميع قادة الحزب والأدباء والشّعراء والصّحفيّين والمثقّفين الذين كانت الاتّحاد منبرهم ولم يكن لهم منبرٌ غيرها.
عمل أبو عصام على تثقيف ذاته بالفكر الماركسي ورأى فيه سلاحًا قويمًا وجديرًا يتحدّى فيه كلّ الصّعاب ويحلّ من خلاله أسئلة التّطوّر الاجتماعي والعدالة الاجتماعيّة وحقوق العمّال والفلاحين، لذلك أرسله الحزب إلى المعهد الدّولي في موسكو عام ألفٍ وتسعِمائة وخمسة وسبعين لمتابعة عمليّة الدِّراسة والتّثقيف الذّاتي، فقد مثّل الحزب والجبهة عدّة مرّات في وفود تمثيليّة في عدّة دول أوروبيّة.
رفيق دائم العطاء وحريص الوفاء، صابر على الضّيم وقابض على الجمر، خدم وما زال يخدم قضايا الجماهير اليوميّة في عمل دؤوب وصعب لنصرة قضايا شعبنا المحليّة والقطريّة، إنّه مثالٌ نادرٌ للتّفاني والتّواضع وإنكار الذّات، ذو إيمان راسخ وثابت بأنّ هذا الطريق هو الوحيد الذي يوصلنا إلى برّ الأمان وشاطئ الاطمئنان والسّلام، مهما عصفت الرّياح الشّديدة ومهما كانت الأنواء عاتية ومهما أنكر المتطاولون صمودنا وتضحياتنا ومثابرتنا.
يكتب الرّوائي عبد الرّحمن منيف في مقدّمته لكتاب “وجوه..لا تموت” للكاتب الشّيوعي اللبناني محمّد دكروب ص 8: “هذه الكتابة تصدُر عن معرفة حيَّة، تتجلّى بشكلٍ أساسيّ باستعادة المناخ والإلمام بالتّفاصيل وببعض الخفايا، ولذلك تعتبر أقرب إلى البورتريه بالكلمة، خاصّةً وأنّ أجزاءً غير قليلة من الملابسات والمعلومات التي أحاطت بالأثر الفنّي ليست مدوَّنة، وبالتّالي غير معروفة إلا في نطاق ضيِّق، ومؤقَّتًا، الأمر الذي يجعلها عرضةً للزّوال بمُجرّد غياب الشّهود”.
لنقل لهم:
مِطَّاوِل عَ الشُّيُوعِيّة خايِب مِيِّة بِالمِيِّة..
في الصورة:
وفد جبهوي إلى ألمانيا الديمقراطيّة سابقًا، ويتألّف من الرّفاق والأصدقاء من اليمين إلى اليسار:
لطف حاج، عبّاس زين الدّين، غسّان حبيب، أحمد الخطيب والمرافق الألماني.
ووراءهم: نايف سليم، محمّد عزوني وفيصل أبو يونس.