۱۹۸
شعراء الحياة والمناقب القبلية
خمس عشرة سنة ، وقاد الجيوش مظفّراً. ولما قامت المشاحة بين بكر وتغلب واحتكموا إلى عمرو بن هند، وقف عمرو بن كلثوم مدافعاً عن قومه ، وما إن فرغ من إنشاد قصيدته حتى ظهر له أن هوى الملك مع بكر، فانصرف وفي نفسه ما فيها. ثم خطر في نفس ابن هند أن يكسر من أنفة تغلب بإذلال سيدها عمرو بن كلثوم ، فدعاه هو وأمه ليلى، وأغرى هنداً أمه أن تستخدمها في قضاء أمر ، فصاحت ليلى : ( واذلاه ! يا لتغلب، فسمعها عمرو بن كلثوم فثار به الغضب وقتل ابن هند في مجلسه ، ثم رحل تواً إلى بلاده بالجزيرة الفراتية، وأضاف إلى معلقته قسماً بين فيه سخطه على عمرو بن هند، وأشار إلى الحادث إشارة واضحة.
وقد عُمر عمرو بن كلثوم طويلاً، وقيل إنه بلغ من العمر مئة وخمسين سنة ، وتوفي نحو سنة ٦٠٠ م .
معلقته
القسم ۱ – مضمونها : معلّقة عمرو بن كلثوم نونية على البحر الوافر في نحو مئة بيت ، قال الأول منها يوم الاحتكام والقسم الثاني بعد ما ثار بعمرو بن هند وقتله . أما القسم الأول فقد طواه الشاعر على مقدمة تقليدية ذكر فيها الخمرة كما ذكر الحبيبة وخاطبها ووصفها ، وطواه بنوع خاص على المفاخرة دفاعاً وتهديداً .
وأما القسم الثاني فكلام الثورة العارمة على عمرو بن هند ، وفيه كثير من الفخر ، والأنفة ، والتأبي للعار.
والجدير بالذكر أنّ هذه القصيدة من أشهر الشعر الجاهلي وأشده سيرورة ، لا لأنها من أحسنه أو من خير ما فيه، بل لأنها عامرة بالحماسة ، عامرة بروح ا ولأنها ذات جرس موسيقي في الوزن والقافية . تغلب يكثرون من التغني بها حتى قال فيهم أحد البكريين متهكماً : أَلْهَى بَنِي تَغْبٍ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ قَصِيدَةً قَالَهَا عَمْرُو بنُ كُلْثُومٍ الأنفة والعزة ، سریع العلوق بالأذن والحافِظة . وكان بنو
يفاخرونَ بها من كانَ أُولُهُمْ
با للرجالِ لِفَخْرٍ غَيْرِ مَسْعُومٍ
۱۹۹
في قطب حرب البسوس : الحارث بن حلزة – عمرو بن كلثوم أما مطلع القصيدة فهو : ألا هي بِصَحْتِكَ فَأَصْبَحينا ولا تبي حُمُور الأندرينا ….
٢ – صحة نسبتها إلى صاحبها : لا شَكٍّ أنَّ في اضطراب أبيات هذه المعلقة ، وفي الفروق الشديدة بين الروايات، وفي التكرارات السهلة، والمعاني السخيفة التي نلحظها من وقت الى آخر، ما هو الدليل الواضح على أنّ الأبدي لم تحفظ القصيدة سليمة من التحريف والتبديل، ولاسيما أن الموضوع حماسي والوزن سهل الانقياد ، والموسيقى ملحمية تحمل على النظم والزيادة والتحريف.
خمور ٣- بلاغة الشاعر في دفاعه : إفتح الشاعر قصيدته بذكر الحبيبين: الحمرة والمرأة أما الخمرة فأندرينية ذات قيمة وشأن إنها شامية، من أقصى بلاد الشام ، وليست من الطائف أو بعض النواحي الأخرى من شبه الجزيرة، وإنها مشروب الأثرياء والأشراف. يشربها هو وقومه بالأقداح الكبيرة الواسعة لسخائهم وعلو منزلتهم . وأما الحبيبة فهي بنت الفكر ومطلع الوحي، وهي الصلة التقليدية بين الشاعر وموضوعه : ألا هُنِّي بِصَحْبَكَ فَأَصَحِينَا وَلَا تُبقي حُمُورَ الأَندرينا مُعْشَعَةٌ كَأَنَّ الحُصَّ فِيهَا إذا ما المَاءُ خَالَطَها سَخينا
وينقل الشاعر بين الحمرة والتباهي بشربها، وبين وصل الحبيبة وصرمها ، حتى يصل إلى موضوعه الذي يهدف إليه ، والذي قصد بلاط الحيرة للدفاع عنه ، وإذا به يشن هجوماً فيه عنف وعنفوان . يتوجه إلى عمرو بن هند ويخاطبه مخاطبة الند للند ، بل يخاطبه في استعلاء ومكابرة، وكأنَّ كلامه استفزاز وتهديد . إنه سيد تغلب ، وتغلب سيف بتار في عنق كل عنيد جبار . وهي موتورة ، سير عمرو بن هند جماعةً منها ومن بكر في بعض أموره ، فافتقد أبناؤها في الطريق ، ولا شك أن البكريين هم الغادرون والمجرمون ، ولا شك أنّ سيّد الحيرة الذي أطاعته قبائل العرب هو المسؤول عن النكبة
الصحن القدح العريض أصبحينا : اسقينا الصبوح وهو شرب الحمور في الغداة الأندرين: جمع الأندر وهي قرية في الشام جمعها بما حواليها . ٢ – : اللؤلوة .
شعراء الحياة والمناقب القبلية
الي . حلت بقبيلة تغلب فعليه الاقتصاص من البكريين وإلا فالسيف والحرب ! أما السيف فينو تغلب أصحابه ، وأما الحرب فهم أربابها ، يباشرونها برايات بيض لا تلبث أن تصدر حمراء تقطر بالدماء. وسطوة تغلب من أقاصي الجزيرة إلى أقاصيها ، ومجدهم عريق بطاعتون دونه حتى ببين ويجزون في سبيله الرؤوس في غير رحمة ولا لين.
لم يوفق الشاعر في دفاعه لأنه عصبي شديد التأثر ، ولأنه معتد بنفسه شديد الاعتداد ، ولأنه يتحدى الملك في عقر داره، ولأنه كالسيل الجارف فلا يراعي مقتضى الحال، ولا يقيم للسلطان وزناً والسياسة والرزانة في مثل تلك الحال أقوى حجة للإقناع والاستمالة . فكأني بالشاعر ينطلق في أجواء الفخر والحماسة أو في معمعان حرب دامية فيعدد الأمجاد ويهدد ويتوعد، ويظهر بذلك أنه وجماعته على غير صراط الحق . وأنه وجماعته ممن لا يستنام إليهم ولا يؤمن جانبهم . وهكذا أخطأ الشاعر الهدف وجر على قومه الوبال
قيمة أدب عمرو بن كلثوم :
١ – في معلقة عمرو بن كلثوم تمثيل للتجربة النفسية التي عاناها الرجل، تلك التجربة الصاخبة التي تتغلب فيها العاطفة وتتدفّق في غير روبة ولا اعتدال فابن كلثوم شديد التفاعل مع واقع القبيلة وواقع الحياة الجاهلية، شديد الانفعال، يتأثر بسرعة ، ويتضخم تأثره بقدر ما ينفعل ويتفاعل مع انفعاله، فيهاجم الملك مهاجمة بطل من أبطال الأساطير ، لا يقيم له وزناً ، ولا يرعى له حرمة ، ويناديه مناداة تحد، ويشير إليه بالتريث والتأني ريثما يسمع أخبار اليقين. وما أخبار اليقين سوى مشاهد متتالية من أعمال تقتيل وهول سجّلها تاريخ تغلب وبسطها للرؤساء والملوك عبرةً فلعلهم يعتبرون .
والقصيدة ثورة عاطفة وثورة خيال وثورة ألفاظ وموسيقى. إنها خالية من وحدة التأليف، فلا ترابط بين الأجزاء، ولا تساوق في المعاني ، ولا تطور في الأفكار إلا نادراً وجزئياً حيث يوض الشعر ما سبقه أو ينم ما جاء فيه . فابن كلثوم لا ببني ولا يؤلف، وإنما ينساق انسباقاً لا وعياً في تبار معانيه ، انسياقاً لا يُسيطر عليه عقل ولا إرادة ، فكأنه دفع من عاطفة جياشة وخيال وتابٍ ، وكأنَّ الهم كلَّ الهم أن يتجسم الهول أمام ابن هند فينقاد للإرهاب في غير تردد ولا عناد. Y
في قطب حرب البسوس : الحارث بن حلزة عمرو بن كلثوم
٣- وفي عصف العاطفة الجامحة لا يتسنى للشاعر أن يُعالج الاستطراد شأن الجاهليين، أو أن يلجأ إلى الأوصاف التشيبية شأن أصحاب المعلقات. فقصيدته أنشودة فخر وحماسة ، تتسابق فيها الأبيات زاخرة بمواقف العصبية الجاهلية، ومواقف التقتيل والسيطرة والقوة في غير هوادة ولا اقتصاد وفي زحمة من الألفاظ الحرية ، وموسيقى القتال التي تخلو من كل رزانة .
وابن كلثوم ينطق الحوادث والمشاهد بالمعاني التي يطوي عليها شعره فهو لا يصرح بمعانيه تصريحاً، وإنما يبسط المشاهد والمواقف : رايات نُورد بيضاً وتُصدر حمراً ، وملوك تترك على السيوف المُهَج والأرواح ، وبيوت منشورة تحت كل سماء …. ولهذه المشاهد والمواقف دلالات ومعان، ولها من ورائها أصوات ترهيب وتهويل. إنها ولا شك لمحات ملحمية ، ولكنها لمحات مقتضبة ، غير متلاحقة ولا متلاصقة ، هي جزئيات ملحمية لا تجمعها الوحدة ، ولا يبسطها التفصيل ، ولا ترتفع من ثم الى جو الخوارق المدهشة التي تفوق مستوى القوى البشرية. لا شك أنها حافلة بالتضخيم والتجسيم ، ولا شك أن هذا التضخيم ملحمي، ولكن ملحميته تبقى ضمن نطاق التضخيم الحيالي الذي تنفخ فيه الحدة العاطفية، ولا يتجاوز حدود هذا النطاق الى حدود العقيدة التي تجمع بين عالم البشر وعالم ما فوق البشر.
أضف إلى ذلك أنّ الحماسة الملحمية في القصيدة تتضخم إلى حد أنها تُصبح طفولية بدائية . فجد الرؤوس، والسيوف المحاريق بأيدي اللاعبين، والرحى التي تجعل الناس شيئاً من طحين … كل ذلك بدل على بدائية هي من مميزات الشعر الملحمي ؛ وكل ذلك أيضاً يتناغم والبيئة الجاهلية التي تسيطر فيها القوة، والتي تقترن القوة في
بعض نواحيها بالوحشية الضارية : نطاعن ما تَراحَى النَّاسُ عَنَّا بستر من قنَا الخَطي لدن
ونَضْرِبُ بالسُّيوفِ إذا غُشِينا دوابِلَ، أَوْ بِبيض يَعْتَلِينَا
تراخی تباعد عشينا فاجأنا العدو السمر: الرماح الخطي : نسبة الى بلدة الخط على ساحل البحرين تجلب منها الرماح اللدن : اللية. القوابل : اللية البيض: السيوف
شعراء الحياة والمناقب القبلية
شق بها رؤوس القوم حقاً ونخليها الرقاب فبحني وسوق بالأمامير يرلمينا
كان حجم الأبطال فيها تجد رؤوسهم في كان شوقنا فينا وفهم. فما يفرون ماذا يلقونا مخاريق بأيدي لا عيناه ين بأرجواني أو طلب كان لابناء منا ومهم
وفي القصيدة أساس تاريخي ، يقف على باب الأسطورة.. فهنالك تلميحات إلى مواقع ، وذكر الأسماء أبطال في غير تعريف، ولا تفصيل، ولا رصف ، والأساس التاريخي من مميزات الملاحم المشهورة، ولكنه يبقى في معلقة ابن كلثوم شيئاً من إشارة عامضة ، وشيئاً من تلميح بعيد المدلول فيما نراه حلقة من سلسلة في الملاحم، وعنصراً من عناصر العمل القصصي.
والشاعر في المعلقة بطل الموقف ولسان القبيلة يظهر على مسرح القول والعمل، وليس الأمر كذلك في الملاحم، وإنما القول والفعل لأبطال العمل القصصي، وذلك أن الشاعر الجاهلي ذاتي لا تنفصل شخصيته عما يقول ، وهو ، بصفة كونه شاعراً ، لان القبيلة ، يحمل المسؤولية القبلية، ويتحمل هو وقبيلته تبعات قوله
وتصرفه .
الرقاب: أي نقطع بها الرقاب يختلين : يقطعن، والضمير يعود إلى السيوف. للسيوف وسوق جمع وسق وهو الحمل الأماعرج الأرض الصلبة الكثيرة في غير رحمة ولا شفقة.
بعد تقطع في غير
المخاريق ج محراق وهي المديل أو الحرفة تلف ويضرب .
الشاعر قومه وأعداءهم بالبسالة ورشاقة الغرب.