بكر وتغلب قبيلتان شقيقتان دارت بينهما حرب ضروس عُرِفَت بحرب البسوس ، وقد دامت أربعين سنة ، وأراد عمرو بن هند ملك الحيرة أن يتدخل في أمر الصلح بين
القبيلتين بعد تلك الحرب المشؤومة، فأخذ من كلا الفريقين رهائن من أبنائهم ؛ وحدث أن سرّح الملك ركباً من تغلب في بعض حاجته ، فزعمت تغلب أن الركب نزلوا على ماء لبكر فأجلوهم عنه ، وحملوهم على المفازة فماتوا عطشاً ، وزعمت بكر أنهم أرشدوهم الى الطريق ولكنهم تاهوا وهلكوا ، فذهب الفريقان يتدافعان عند عمرو بن هند، وكان في أول أمره ميالاً مع تغلب ، وكان شاعر تغلب عمرو بن كلثوم ، وشاعر بكر الحارث بن حيّزة ، فأنشد كل منهما قصيدته أو قسماً منها ، ولكل واحد منهما أسلوبه الخاص وبلاغته الخاصة . مدافعاً عن قومه ،
١٩٥
في قطب حرب البسوس : المحارث بن حلزة عمرو بن كلثوم أ- الحارث بن حلزة (توفي نحو سنة ٥٨٠) :
تاريخه
هو الحارث بن حلزة اليشكري البكري. لا نعرف من أخباره إلا أنه اغتاظ يوم الاحتكام لانحياز ملك الحيرة الى تغلب، وانه كان في المجلس مستوراً عن الملك بستار لما كان فيه من البرص، وأنه أنشد قصيدته المعلّقة ، مرتجلاً بعضها ارتجالاً، ومفاخراً بقومه وما لهم من المآثر الحميدة، وأنه لشدة بلاغته استطاع أن يُسيطر على الموقف وأن يستميل الملك الى جانب بكر قيل إنه أنشد معلّقته وله من العمر نحو مئة وخمسة
وثلاثين سنة.
– معلق
هي همزية تقع في ٨٥ بيناً على البحر الخفيف مطلعها آشنا ببنها أسماء ربِّ نَاوِ يُمَلُ مِنْهُ القوالا
١- مضمون المعلقة المعلقة الحارث بن حلزة غرض دفاعي وطمع في استمالة الحكم، وقد ضمنها مقدمة تقليدية فيها غزل ووقوف بالديار ووصف للناقة ، ثم انتقل إلى دفاعه فقد أقوال التغلبين وبين ما في ادعاءاتهم من كذب وما في آرائهم من خطل وضعف، ثم أقام موازنة بين مفاخر البكريين ومخاري التغليين ، وراح بعد ذلك ، بدهاء وحذق ، يستميل عمرو بن هند بعد ما مهد له طريق الحكم بما سبق من قول ، فأحيا في نفسه الذكريات، وهاج في قلبه ما كان كامناً من حب و بغض وخط أمام عينيه صورة واضحة للتغلبين والبكريين وإذا أولئك أعداء للملك ، وإذا هؤلاء موالُونَ مخلصون ، وخدام أمناء ، وأنسباء أحباء. وهنا وهناك ينثر الشاعر المدائح للملك إلى أن بالظفر والنصر المبين، ينهي وراح الشاعر بعد ذلك يقرر الفكرة، ويعمل. أعداؤه خائبين و برجع شأن الخطيب الماهر والمحامي
تها بعراقها – رب تالو أي رب مقيم تُمل إقامته أما أسماء فلا
شعراء الحياة والمناقب القبلية
197
القدير – على إقناع الحكم بقوة الفكرة وقوة الحجة. وكانت فكرته قوية بترابطها وحسن سياقها ، وكانت حجّته قوية بحسن تسلسلها وحسن ترتيب براهينها ، وهو بعد ما فنّد أقوال الأعداء وأراجيفهم، بسط مفاخر البكريين فقرب القلوب إليهم لما هم عليه من الصيت الحسن والأيام الرائعة ، وأبعد كلَّ ما من شأنه أن ينفر النفوس من الارتياح إليهم ؛ وبعد ذلك انقلب على التغلبين ، وكأنه لا يريد نشر مخازيهم ، فنشرها بلطف ودهاء لاذع، وأظهر أنهم لا يستحقون أن يميل إليهم الملك ؛ ثم طعنهم طعنة قتالة ، إذ أظهر الصلة : صلة عداء قديم، فيما أن الصلة بين الملك وبين بكر بهم وبين الملك ، وهي . صلة قرابة وحسنى. هي
وهكذا كان الشاعر بليغاً شديد البلاغة جمعت لهجته الليونة والنعومة الى القوة ؛ والتلميح الى المصارحة ؛ والمدح الى الإثارة. فدخلت قلب الملك وبعثت فيه انقلابا على بني تغلب شنيعاً.
Y بلاغة الشاعر في دفاعه : افتتح الشاعر معلّقته بذكر الديار ووصف الناقة ، وكان في افتتاحه أشد كلاسيكية من عمرو بن كلثوم، وأعمق غنائية ، وأبعد أثراً في نفوس سامعيه. وقد درج في وصف ناقته وتشبيهها بالنعامة على خطة أكابر الشعراء لذلك العهد، وكان في وصفه ناقلاً واقعياً، شديد التعلق بالحس والمحسوس. وبعد المقدمة انتقل الشاعر الى موضوعه انتقالاً رفيقاً وهو انتقال الحكيم الذي يرافع البربح الدعوى لا ليتبجح الوسيلة عنده وسيلة في سبيل الهدف، وسيعمد الى وسيلة الفطنة ، والمنطق ، والدهاء ، والملاينة ، معالجاً نفس الملك معالجة بليغة ، بعيدة عن كل عنف ، حافلة بكل لين.
بدأ بوصف الأراقم من تغلب ، فقال : حملت إلينا الأنباء منهم أمراً جللاً عنينا به وقصد به الإساءة إلينا ، وذلك أن أولئك الإخوان يغلون فيما يقولون وينسبون إلينا ما لم نفعل ، فلا تنفع البرية براءته ، ولهذا تراهم يتلمسون لنا أي ذنب لإيقاظ الفتنة ، فيتشاورون في الليل في أمر حربنا والتعبئة له ، فلا يصبح الصباح حتى تكون لهم جلبة وضوضاء … وقد أبدى الشاعر في هذا المقطع كثيراً من الدهاء فهو في لباقته يجعل قومه أبرياء ويجعل الفساد كل الفساد في سوء نية الأراقم ، فيدرج المعنى على كتف المعنى ،
في قطب حرب البسوس : الحارث بن حلزة – عمرو بن كلثوم
۱۹۷
ويُقرع المعنى من المعنى، في تساوق وتصاعد، وفي ترابط ومنطق، حتى يصل إلى التعبئة ، فيرسم خطوطها في انتفاضة قلم ، وإذا المشهد تامّ على إنجازه، رائع في شدة
سبکه : أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عِشَاءٌ فَلَمَّا أصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ من مُنَادٍ ومن مُحِيبٍ ومَنْ تَصْهَا ل خَيْلٍ خِلَالَ ذَاكَ رُغاءُ ميزة أدب الحارث بن حلزة : أدبه هو أدب الرصانة والعقل المفكر ، والعقيدة القوية، والشعور الجبار الذي نسيره العقيدة ويخضع للعقل النير، وإننا إذا استثنينا حلزة ما لا نجده في غيرها من الهدوء والاتزان ، ومن الترتيب والتنسيق ، والتحليل والتحليل، وإقامة البرهان وإيراد الشاهد . وأدبه خطابي ملحمي يرمي الى الإقناع ويعتمد سرد القصص البطولي ، وذلك كله في جو من الموسيقى الشديدة الوقع ، التي تدوّي في هدوء وانطلاق ، وتماشي العقل والشعور والخيال فتزيدها قوة وعمق تأثير. المقدمة نجد في معلقة الحارث بن
في معلقة المغالاة الأجزاء. وعنصر ابن كلثوم مشاهد ملحمية كوصف التعبئة ، ووصف المعركة ، ومحاولة استمالة الحكم إلى قومه . إلا أن تلك المشاهد لا تخرج عن كونها لمحات بعيدة عن تصوير المواقف الكاملة ، بعيدة عن السرد القصصي المتلاحم ا عند ابن حلزة ألصق بالواقع وأقرب الى التجربة الحياتية منه عند ابن كلثوم ، فكأن الأول يقول ما كان في دنيا الواقع الحقيقي، وكأن الثاني يقول ما يكون في عالم الواقع
الحيالي. وهكذا فابن حلزة بعيد في شعره عن عنصر الخارقة المدهشة ، وإن بعث الدهشة في نفس السامع بالدقة الوصفية والروعة الفنية .
ب عمرو بن كلثوم (توفي نحو سنة ٦٠٠)
ا – تاريخه :
هو أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك التغلبي. وأنه ليلى بنت أخي كليب . نشأ عزيز الجانب أنوفاً مُعجباً بنفسه أشدّ الإعجاب، وساد قومه وهو ابن