– أدبه :
طبعات ديوانه ومضمونه : لامرئ القيس ديوان شعر طبع أولاً في باريس ثم في بومباي قصر واهتم له أخيراً حسن السندوبي فجمعه ورتبه وعلق حواشيه وطبعه بمصر 1930، وكانت هذه الطبعة أساساً للطبعات اللاحقة . وشعر امرئ القيس قسمان : قسم للهوه وتشرده ، وقسم لسخطه وطلب ثأره ؛ وهكذا تجد فيه «صورة كاملة من حياته وخلقه : ففيه عزة الملوك ، وتبذل الصعلوك ، وعربدة الماجن ، وحمية الثائر ، وشكوى الموتور ، وذلة الشريد . »
وأشهر ما في ديوانه المعلقة ، وهي قصيدة طويلة تقع في نحو 80 بيتاً من البحر الطويل ، كان لها شهرة واسعة ، وسارت في الناس مسير المثل حتى قيل : «أشهر من قفا بك»، وهذا مطلعها :
فقا تنك من ذكرى حبيب ومنزل يسقط اللوى بين الدخول فحومل
من ۲- سبب نظم المعلقة ومضمونها : كان يوم دارة جلجل السبب المباشر في نظم هذه المعلقة وقد التقى الشاعر بعنيزة بنت عمه شرحبيل خارجة مع من احتمل من الحي في جماعة من النساء والفتيات ، فنحر لهن ناقته ، ثم راح ينظم القصيدة واصفاً ذلك اليوم المشهود وما أتيح له فيه من لحظات الحب ومنع الغرام ، ومضيفاً الى ذلك – کله الذكريات ما تيسر له حتى كانت المعلقة سلسلة أحداث وأوصاف ، وكان يوم الغدير ، أي يوم دارة جلجل ، واسطة عقدها ونقطة دائرتها . وهكذا كانت المعلقة ثلاثة أقسام رئيسية : الوقوف بالطلول ، وذكرى اللقاء يوم دارة جلجل ، وأوصاف شتى المشاهد مختلفة تراءت له في حله وترحاله : الليل ، والوادي يعوي فيه الذئب ، والفرس ، والصيد ، والبرق والسيل …
3 – تحليل المعلقة : معلقة امرئ القيس أشهر المعلقات ، وامرؤ القيس في نظر الأقدمين أمير الشعر العربي ، ورأس العمود الشعري ، وقد قيل فيه أنه أول من أجاد القول في استيقاف الصحب ، وبكاء الديار ، وتشبيه النساء بالظباء والمها والبيض ،
وفي وصف الخيل بقيد الأوابد ، وترقيق النسب وتقريب ماخذ الكلام ، وتجويد التشبيه . الاستعارة وتنويع
1 – في الوقوف بالطلول وذكرى الحبيب والفناء على جنباتها ، وصفحة واسعة من صفحات الحياة القبلية في انتجاع الكلا والماء، والطعن والارتحال ؛ وجمع الفلد المنشورة هنا وهناك ، حيث كان الحيّ والأحياء ، وحيث درج الحب طفلا ، وشب يافعا . إن في المشهد حلم الصحراء الذي ينطلق من أغوار النفس وتغيب أواخره في الافاق التي تغرق في آفاقها الحدود .
مأساة الصحراء الكبرى ، وصراع البقاء
وها هي ذي الرسوم تنجلي شيئاً فشيئاً في مخيلة الشاعر ، وتطفو على سطح نفسه ، فترتسم حدودها على الرمال المتموجة في سقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة ؛ وها هي ذي الرباح تنسج عليها الرمال ذهاباً وإياباً ، في حركة منتظمة فتكتشف الواحدة ما دفنت الأخرى ، وإذا بعر الآرام كحب الفلفل ؛ وشجر الطلع الصحراوي يتكئ عليه الشاعر وقد فاضت دموعه وبلت محمله ، فكأنه ناقف الحنظل تنحدر الدموع من عينيه الحداراً ، وكأن اللوحة الصحراوية قد ظهرت خطوطها في ودقة يذوب الشاعر في مسرحها أسى ولوعة . وفي اللوحة حسية بدائية ملموسة ، وسذاجة فطرية عذبة : وصرح
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل فتوضح فالمقراة ، لم يعف رسمها كأني غداة البين يوم تحملوا
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لما نسجتها من جنوب وشمال
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
3 … ثم ينتقل الشاعر من موطن الجفاف واللوعة الى دارة جلجل حيث تتجلى حياة ترفه ، ونزوات هوه ، فتغور صورة الصحراء في صورة الحياة الملكية ، لا يتراءى منها إلا بعير على ظهره فتاة حسناء . والشاعر يقتحم الحذر في جرأة ، ويغرق في وصف ، فيعود الى البادية ، ويختار أجمل ما فيها بياضاً ، وعينا ، وجيداً ، وشعراً ،
T 1- لم يعف رسمها لم يسمح أثرها . حملوا : ارتحلوا والجنوب والشمال : ربما الجنوب والشمال.
وبنانا ، فيشيه بالبيضة ، ووحش وجرة ، وجيد الرئم ، وقنو النخلة ، ومساويك الإسحل . إنه مشهد الجمال البدوي الغارق في المادية والمحسوسية الفطرية ، وموقف الإباحة الملكية :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل تصد وتبدي عن أسيل وتنقي بناظرة من وحش وجرة مطفل وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كينو النخلة المتعثكل ” 4 ـ وها هي ذي صورة الليل القائمة بعد صورة النهار الوضاح ؛ وها هوذا البعير
يظهر من جديد ، وإذا الليل بعير منمط متثاقل ، يبرك على الشاعر ويعصره عصراً ، وإذا هو في ضيقته يراقب النجوم ، وإذا النجوم في مكانها ثابتة ، والليل طويل لا ينتهي ، والهم طويل لا ينقضي ، وإذا في ذهن امرئ القيس مشكلة الزمان الذي تدور نجومه حول الأرض – على ما يعتقده الأقدمون – ولا تدور في نظره الذي توقفت فيه حركة الزمان . وفي المشهد سذاجة الفطرة ، وتفلسف البداءة : ألا أيها الليل الطويل، ألا أنجل يصبح ، وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه بأمراس كتان إلى ضم جندل
ه ـ وها هي ذي مشاهد الملك الضليل قبل مقتل أبيه : واد يعوي فيه الذئب ، وبرق ومطر وسيل ، وجواد كهبوب الريح … أما الوادي فكجوف الغير ، لا شيء فيه ينفع ، ولا شيء فيه يبهج العين. إنه واد أجرد موحش . يعوي فيه الذئب عواء الجوع والشقاء، ويصغي إليه الشاعر إصغاء البؤس والبلاء. فقد طرده أبوه ، وتنكرت له الجماعة ، وتقطعت النياط بينه وبين الأهل والعشيرة ، فهام في هضاب نجد ، وأوغل في الفلوات ، يعيش عيشة الأعراب وينتهج منهج الصعاليك ؛ وها هوذا يصغي لصوت الذئب في الوادي المقفر ، وقلبه يصبح صياحه ، ونفسه تئن من ضيق . إنها ذئبان عاويان في وجه الزمان ، هذا عواؤه في حناياه ، وذاك عواؤه في حنايا الفضاء :
كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته ومن يحترت حزني وحرتك يهزل وأما الفرس فرفيق الشاعر في سرائه وضرائه ، وقد أكثر الشعراء قديماً من نعت الفرس والناقة بالسرعة ، وذلك أن السرعة أمر لا بد منه لمن يجتاز الصحاري والفلوات حيث لا ماء ولا غذاء، وحيث الأرض حرار ورمال ، والسماء نيران وجفاف . والمسافات شاسعة تمتد كلما امتد على صفحتها النظر . والسرعة أمر لا بد منه في مجتمع يكون أبداً غازياً أو مغزوا ، تنقض فيه القبيلة على القبيلة ، وتساق النساء والمواشي ، وهكذا فعامل الزمن السريع من مقتضيات الحياة في الجاهلية .
وفي وصف الفرس صور جاهلية مستوحاة من حياة البادية ، هنا « جلمود صخر يحطه السيل من عل » » ، والمطر في الصحراء عواصف هدارة تتحول بسرعة إلى سيول غدارة ، يعقبها الجفاف الجفاف العطش ؛ وهناك « أيطلا ظبي ، وساقا نعامة ، ومع وإرخاء سرحان ، وتقريب تتفل»… وكل ذلك من المجتمع الحيواني في البوادي ؛ وهنالك الإعجاب البدائي الذي ينقلك إلى عالم الطفولة الحلوة .
6 – نلمس في هذا كله روح امرئ القيس المشرفة الممراح التي تألف العذارى وتنحر لهن المطايا ، وتتباهى بالفحش في خدر المهفهفة البيضاء ذات الدلال والنعيم ؛ ونلمس أيضاً روح الضليل المشردة التي ترافق الذئب في الفلوات ، وتهيم مع الفرس في المفازات كما نلمس عالم الجاهلية في جوه المادي القاسي ، وحياته القبلية البدوية ، وفي نعيمه الحضري الثائر على التقاليد والعرف ، وفلسفته الفطرية ومعارفه البدائية .