امرؤ القيس شاعر الوصف والقصص :
1 – مشهد الطلول : في معلقة امرئ القيس عدة مشاهد وصفية أسلوبه فيها هو أسلوبه في سائر شعره . هنالك مشهد الطلول ، وقد «وقف فيه الشاعر واستوقف ، و بكى واستبكي » . إنه نظرة وعبرة : نظرة مرسلة في طوايا الماضي الذي أ المنزل والحبيب ، وعبرة مرسلة من عين حرى على قلب متلهب علها تشفي الجوى ، فلا أحيته رؤية آثار
تشفي من جوى ولا تُخفف من ألم . والنظرة سريعة مقتضبة تعنى بتحديد الموقع ، وتتمثل الأشياء في صور مادية محسوسة في غير عمق ذهولي ، وفي غير اختراق لسطح الظاهرة . والشاعر في هذا المشهد صاحب معاناة حقيقية يحاول الإلمام بها إلماماً وجدانياً ولكن جناحه لا يقوى على الانطلاق فيقع في المادة ، وإذا الوجدان و عبرة مهراقة » ، وإذا الشاعر محدود بحدود الأشياء والزمان والمكان ، وإذا هو طفولي في ظاهرته ، عذب في سذاجته
۲ – مشهد الحبيبة : وهنالك مشهد الحبيبة يصفها امرؤ القيس وصفاً غزلياً كان فيه خير مقدمة لغزل عمر بن أبي ربيعة . وقد تجاوز إليها أحراساً ومعشراً يضمرون له الشر، رقص لنا كيف وصل إليها ، وذكر الحوار الذي دار بينه وبينها ، وراح يعدد أوصافها ، وإذا لطيفة الحصر ضامرة البطن ، تلتمع تراثيها التماع المرآة المصقولة ؛ وهي بيضاء تشوب بياضها صفرة وقد غذاها ماء عذب صاف ، وهي في ذلك أشبه بدرة فريدة في قعر الماء لا تصل إليها الأبدي ، أما خدها فأسيل ، وأما عينها فأشبه بعيون ظباء وجرة أو مهاها اللواتي لهن أطفال . والفرع منها أسود فاحم طويل يشبه « قنو النخلة المتعثكل » . وهكذا يمضي الشاعر في الوصف مستعرضاً الأشكال والألوان ، في قصص وصفي ، وحوار قصصي ، ومعتمداً التشبيه الحسي المادي الذي يظهر فيه لكل شيء شيء يشبه . وهو في عمله أشبه بالنحات الذي يقيم لحبيبته تمثالاً . من مرمر ، فيعالجه بالإزميل ضربة هنا وضرية هناك في غير التزام ولا تقيد ، ويضخم حقائق الواقع تضخيماً يتمشى والمثالية الحالية لدى الجاهليين. وهكذا كان المشهد مشهد رصف أوصاف ، وإقامة مقارنات ، في نزعة بدائية حلوة ، وفي مادية سطحية ملموسة .
وصف حي قد تغلغلت فيه حياة الشاعر وعواطفه ، وانطلقت في ألفاظه وقوافيه غالية
الأجواء ثقيلة الوطأة .
وأنت أمام وصف وجداني فيه من الوجدان رقة وعاطفة نباضة ، وقد استحالت سدول الليل فيه الى سدول هم . وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة ، وانتقل الليل من الطبيعة الى النفس ، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة .
وأنت أمام وصف تصويري تشخيصي يجعل من الليل شخصاً يقسو على الشاعر ويحطم بقسوته كل أمل ، وهكذا فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادة حسبة ملموسة مستقاة من البيئة الجاهلية . وهذا التجسيد تضخيمي ي يريك واقع الأشياء مكبراً واقعا في غير تحليل ولا تفسير
وأنت أمام وصف موجز يعتمد اللمح اعتماداً ، فليس لليل إلا أبيات معدودة ولكنها أبيات إذا أجلت فيها النظر الفتحت أمامك أجواء وأجواء ، وأبصرت الجزئيات والتفاصيل .
مشهد الفرس : وهنالك مشهد الفرس رفيق الحياة في السراء والضراء.
وامرؤ القيس إذا عرض للفرس راح يذكر ويتمثل ، وإذا هو أمام الفرس منفعل ينطلق في ميادين الذكرى ، وكلها ذكر ازداد الفعالاً . وهو نظرة متنقلة من فوق إلى أسفل ومن أسفل الى فوق «منى ما ترق العين فيه تسهل»، وهو ريشة ترسم القد والسرعة ، والكر والفر ، واللون والقوة ، وما الى ذلك مما يجعلك أمام مشهد من . التمثيل الحسي ، أمام مشهد من مشاهد الحياة المنبثقة عاطفة الشاعر وصدق شعوره ، ويجعلك تلمس الدقة ، والإيجاز الإيحائي ، وصدق التصوير في سذاجة مشاهد من
الغلو .
وتلمس في وصف امرئ القيس شدة إعجابه بفرسه حتى لتراه يريد تمثيل الإعجاب بتكديس النعوت وتكثيف المادة التشبيهية والإيغال في إلهاب الأبيات والألفاظ : وهو في وصفه يستعرض أجزاء الفرس في غير تساوق وتلاحق ذلك أن المشهد . عنده أجزاء
مصقولة مصورة خالية من هيكلية البناء
وكما وصف امرؤ القيس حبيته وصف فرسه ؛ فهو فرس ماض في السير بقيد الوحوش بسرعة لحاقه لها ، عظيم الألواح والجرم ، عجيب في حيويته حتى ليجتمع الكر والفر والإقبال والإدبار جميعا في ذاته الفرسية :
یگر مفر مقبل مدير معاً كجلمود صخر خطه السيل من عل
وهو أحمر اللون الى سواد ، مكتنز اللحم منملس الطلب حتى ليزل لبده عن متنه كما إن الحجر الصلب المطر ، وهو « على الدبل جياش » تغلي فيه حرارة نشاطه على ذبول حلقه وضمور بطنه وكأن تكسير صهيله في صدره غليان قدر … ويذهب الشاعر في التقاط الألفاظ والتعبيرات كل مذهب ليوضح فكرة السرعة في ذهن القارئ ويمثلها شديدة الأثر في نفسه ، وكأني به ينحت تمثاله الفرسي وفي خياله شريط سينمائي تتلاحق فيه صور الإسراعات الحسية في الكيان البدوي ، وتتضخم فيه الخطوط والظلال تضخما بدائيا بحسب فيه البدوي روعة التعبير التصويري ، وجمال الصورة التعبيرية
خلاصة القول في وصف امرئ القيس : هكذا يأتي الوصف عند امرئ القيس صوراً إثر صور ، والهم كل الهم في تكثيف المادة المعبرة في إيجاز تلميحي عني الإيحاء 1
وهكذا امتاز امرؤ القيس في وصفه بالابتكار التشيهي فجد وراء المادة التشبيهية ، وطلب المشتبه به في بيئته ، ونقله من الواقع المحسوس نقلاً دقيقاً ، يجسد المشبه تجسيداً تمثيلياً ، ويظهره إظهاراً صادقاً وإن مضخماً.
قصصه وامتاز امرؤ القيس بالقصص والحوار ، فعمد إليها في مغامرات غرامه وصيده وقص علينا بها شتى الأحداث التي جرت في تلك المغامرات ، وكان في وجداني النزعة يعنى عناية شديدة بالناحية الوصفية ، ويكثر من النعوت والتشبيهات في الوصف المجرد وهكذا عندما أورد لنا في المعلقة خبر الصيد لزم جانب الاقتضاب في السرد ، وعمل على التمثيل الحسي ما استطاع الى ذلك سبيلاً. قال : فعن لنا سيرب كأن نعاجه عذارى دوار في ملاه مديل إنه قطيع من بقر الوحش كأن إناثه نساء عذارى يطفن حول النصب في ملاء طويلة
لذبول ، وقد شبه الشاعر المها في بياض ألوانها بالعذارى لأنهن مصونات في الحدور لا يغير ألوانهن حر الشمس وغيره ؛ وشبه طول أذيالها وسبوغ شعرها بالملاء المذيل ، ون حسن مشبها بحسن تبختر العذارى في مشيهن .
ثم قال : فأديرن كالجزع المفصل بينه يجيد معم في العشيرة محول
لقد أبصرت النعاج الفارس وفرسه ، فأديرت كالخرز اليماني الذي فصل بينه بغيره من الجواهر في عنق كريم الأعمام والأخوال . وقد شبه الشاعر بقر الوحش بالخرز اليماني لأن طرفه أسود وسائره أبيض ، وكذلك بقر الوحش تسود أكارعها وخدودها وسائرها أبيض ؛ وقد شرط كونه في جيد معم مخول لأن الجواهر في مثل تلك القلادة أعظم منها في غيرها ؛ وشرط كونه مفصلاً لتفرقهن عند رؤيته . وفي هذا كله تصوير حسي يضيع السرد في أشكاله وألوانه ؛ وفيه إيجاز إيحائي ، أو قل لمح تبرز من خلال كلماته وإشاراته القليلة صورة كاملة ترتسم في المخيلة ارتساماً مادياً ذا شعاب وامتدادات . وفي كلام امرئ القيس الى ذلك كله دقة تقييدية تتجلى أحياناً في تخصيص المشتبه به وحصره في حالة معينة ، فهو لم يقل مثلاً : « فأديرن كالجزع » ، ولكنه قيد الجزع بحالة كان فيها الحرز مفصلاً ، وكان في قلادة معم مخول .
وبعد البيتين السابقين عاد الشاعر إلى فرسه وسرعة عدوه ، وإذا المتقدمات والمتخلفات من قطيع البقر الوحشي مجتمعة بالنسبة إلى سرعته التي لا تدع للطرف محال التمييز والتفريق . وينقض الفرس فيوالي بين ثور ونعجة من بقر الوحش في طلق واحد . ولا يعرق عرقاً يغسل جسده لشدة نشاطه وفرط قوته . وهكذا ينتهي المشهد فجأة ، ويفهم أن الفارس صاد ثوراً ونعجة في جولته تلك ، وهكذا يورد الشاعر قصة صيده في خمسة أبيات تاركاً للسامع أو القارئ أن يسلسل الأحداث ، ويرد كل مسبب إلى سببه ، ويعلق كل أصل بفروعه .