الصور البلاغية في معلقة امرئ القيس
1 – تخلو قصيدة امرئ القيس من البناء الشامل ، فالموضوعات شتى ، والهدففي كل قسم منها غير واحد ، ومن ثم فليس هنالك وحدة تأليفية تعبر عن وحدة المعاناة ، ولكن هنالك امرأ القيس في شخصيته المزدوجة ، وفي سلسلة ذكرياته التي يتكون منهابعض حياته .
٢ – ويخلو كل جزء من أجزاء القصيدة من التسلسل المعنوي ، ففي وصف الليل مثلاً تكلم الشاعر على هول الليل وامتداده ، ثم خاطبه ، ثم عاد الى طوله وجمود كواكبه . ومرجع هذا الاضطراب الفكري الى رواية الرواة الذين روى كل منهم الأبيات على هواه ، ثم مرجعه الى الفن الغنائي الوجداني نفسه الذي لا يضبطه نظام بل يسير مع الحياة في تنزيات متباينة ، أضف إلى ذلك أن الشاعر جاهلي تغلب البداءة فيه على عمل العقل ، وأنه مغرم بالصورة يقتنصها ويثبتها حيثما تقع له في غير ما نظر إلى نظام البناء .
3 – وقصيدة امرئ القيس شديدة الصلة بحياته ، يصور كل جزء منها جزءاً من تلك الحياة ، ولهذا تعددت الحالات العاطفية فيها وكانت صادقة ، صريحة تجري في غير اعوجاج ولا تمويه . إنها باكية أمام الطلول ، متوثبة مضطرمة في خدر عنيزة ، كالحة في ظلمة الليل ، مشرقة فياضة أمام الفرس . وأي شيء أدل على دفء الحياة وعلى الخضوع اليائس لأقدارها من قوله : « وان شفائي عبرة مهراقة … ؟ » وأي شيء أدل على فيض الحياة من قوله : «أغرك مني أن حبك قاتلي …؟» وأي شيء أدل على انقباضة الحياة من قوله للذئب : « ومن يحترث حربي وحرتك يهزل … ؟ وأي شيء أدل على فيض الحياة من قوله في وصف الفرس : « مكر مفر مقبل مدير معاً … متى ما ترق العين فيه تسقل » ؟ .
4 – وسر الجمال في قصيدة امرئ القيس إنما هو في الخيال الذي يصور ويلون ، ويجسم ويحيي . إنه خيال خصب لا ينضب له معين ؛ فهو يتتبع المشاهد ويحاول أن إمعاناً وكأني بالشاعر راض كل الرضى عما يفعل ، معجب بصوره وكثرتها وتنوعها ؛ وهو لا يسير فيها على نظام الرصف والبناء بل ينقلها نقلاً دقيقاً، ويمعن في التصوير على طريق الفوضى ، وهكذا فالصورة لا تتكامل عنده عن طريق النمو والتطور ، بل عن طريق العناصر المنثورة هنا وهناك في غزارة لا تخلو من تكرار .
وخيال امرئ القيس خلاق يهوى الجديد من الصور كما يهوى تجديد الموروث منها ؛ فهو أول من قيد الأوابد بسرعة الخيل ، وشبه المرأة ببيضة الخدر ، وتراثيها بالمرآة وشعرها بعناقيد النخل …. وهو صاحب الوثبات الخيالية التي ست الديار ، وتسيط الشفاء بالدمعة المهراقة ، وتقطر الجنى المعلل من شفتي عيزة ، ونقسم الرباح رسوم الفؤاد الهيان إلى نصفين : نصف قتيل ونصف مكبل بالحديد …
مادي يعالج المادة الجاهلية صور حال 6 – وخيال امرئ القيس خيال حسي ورونق ، وهكذا فرسوم الديار ميدان تنسج عليه الرياح صورة الصراع بين البقاء والفناء ، والشاعر أمام تلك الرسوم كأنه ناقف الحنظل ، يعالج انفعال نفسه ودموعه ولا يجد صورة أشد وأدق تعبيراً من مشهد ناقف الحنظل . ولا يتأتى امرؤ القيس عن ذكر بعر الآرام الى جانب دموعه المنهمرة ليتم المشهد الحسي الصحراوي . وهكذا بمضي في أوصافه المادية من شحم الناقة الحريري ، الى الترائب المصقولة كالمرآة ، الى عبي وحش وجرة ، الى الشعر الأثيث كقنو النخلة ، الى الوادي الذي يشبه جوف العير ، الى غير ذلك مما هو كثير. وهذه الصور الحسية تقوم أكثر ما تقوم على التشبيه والاستعارة وهذا التشبيه مادي في ركنه الثاني ، أعني المشبه به ، حتى إذا كان الركن الأول غير مادي ، ذلك أن الشاعر البدائي بفسر كل شيء بالظاهرات التي تحيط به لعجزه عن
التفسير العقلي التجريدي . والتشبيه عند امرئ القيس مفرد في غالب الأحيان ، وقد يود تمثيلياً مركباً كما في قوله «كجلمود صخر حطه السيل من عل». والشاعر ينزع في تشيبه منزع | الأداء الدقيق ، وإن لم تقم المعادلة في الحجم والضخامة بين المشبه والمشبه به . وهكذا فإننا نلمس عند شعراء الجاهلية عنايتهم بالصناعة الفنية ولكنها صناعة قريبة الى الطبع ، بعيدة عن الكلفة ، ممسوحة بمسحة السذاجة العدية.
– وامرؤ القبس مغرم بالصورة المتحركة الحافلة بالحياة ، ولاسيما في وصف الفرس ، والحركة عنده تارة الدفاق جارف كالسيل في المنحدر ، وتارة انزلاق خاطف على الصحرة الملساء ؛ تارة جيشان كغلي المرجل ، وطوراً تجمع لشتى أنواع العدو … إنها الحركة التي يتعشقها الإنسان ولا سيما إذا كان فطرياً بدائيا ، والتي تدل على الحيوية والنشاط وهما من مفضلات الناس في كل زمان ومكان .
والى جانب هذا كله تجد في شعر امرئ القيس موسيقى لفظية وإيقاعية ترافق المعنى في شتى ألوانه ؛ فهي ثقيلة بثقل الليل ، ومديدة بامتداده ، وهي مشرقة ضاحكة في حدر المهفهفة البيضاء التي « تصد وتبدي عن أسيل ، وتتقي … ، وهي كرارة فزارة مع الفرس ، زلالة ، جياشة ، سحاحة في عدوه ؛ وهي جميلة ساحرة إلا في بعض المواقع حيث يلجأ الشاعر الى ألفاظ ذات حروف متنافرة كالمتعثكل ، أو إلى إقواء في القافية كما في قوله « ونصف في الحديد مكبل »
معلقة امرئ القيس أسلوب القصص والحوار ، في واقعية واعترافية ، خاليتين من كل تحفظ أو مداورة . إنها بدائية الفن للفن، وتمهيد للطريق التي اتبعها بعد الملك الضليل شعراء الإباحة من مثل عمر بن أبي ربيعة شاعر الغزل في وأخيراً نجد في عهد بي
من هذا كله يتجلى لنا أن امرأ القيس رائد الوصف النقلي المادي في الأدب العربي . ومرجع براعته إلى دقة نقله ، والى تلك الوجدانية التي تطل من وراء المادة صدق وسذاجة وعذوبة . ولئن رفعه النقاد الأقدمون ومن أخذ إخذهم من المحدثين إلى أعلى الرتب ، ولئن قال ابن سلام انه «سبق العرب الى أشياء ابتدعها » ، ولئن قيل انه « أول من وقف واستوقف ، وبكى واستبكى » و « أول من قيد الأوابد » … فما ذلك كله إلا من قبيل الإعجاب المتحمس الذي لم يرافقه العقل العلمي في مجاهل الجاهلية الأولى التي سبقت امرأ القيس ، ومهدت له الطريق حتى لم تكد تترك للشعراء « من متردم » . ومما لا شك فيه أن امرأ القيس حلقة من سلسلة طويلة سبقته ، وقد تدرج معها الشعر العربي حتى وصل إلى الكمال النسبي الذي عرفه في الجاهلية الثانية ، جاهلية المعلقات .