دَور الكلمة في الإصلاح والتغيير (تجربة صلاح عبدالصَّبور) أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

لقد عبَّر الشاعر (صلاح عبدالصَّبور، -1981) عن انتمائه، وإيمانه بحقِّ الفقراء في أموال الأغنياء، تعبيرًا واضحًا وصادقًا من خلال مسرحيَّته “مأساة الحَلَّاج“؛ مستغلًّا قِصَّة (الحلَّاج) ليُصوِّر للقارئ قضيَّة الالتزام الاشتراكي.  بل ليُصوِّر، عبر الحلَّاج، قضيَّتَه هو، وقضيَّة معاصريه، ممَّن يُحَتِّم عليهم الالتزامُ الصمودَ بالكلمة الملتزمة في وجه السَّيف الظالم.  وبهذا فقد كانت المسرحيَّة ذات دلالتَين: إحداهما انتماء عبدالصَّبور إلى الاشتراكيَّة مذهبًا اقتصاديًّا في الحياة، والأخرى إيمانه بدَور الكلمة والالتزام في سبيل إحقاق الحقِّ ودرء الظلم، ووجوب تضحية الأديب وكفاحه من أجل وظيفته تلك حتى الموت.  وهو يقول: “قد كنتُ أُعاني حيرةً مدمِّرةً إزاء كثيرٍ من ظواهر عصرنا.  وكانت الأسئلة تزدحم في خاطري ازدحامًا مضطربًا، وكنتُ أسأل نفسي السؤال الذي سأله الحلَّاج لنفسه: ماذا أفعل؟  وهنا ألقتْ المسرحيةُ قضيةَ دور الفنَّان في المجتمع، وكانت إجابة الحلَّاج هي أن يتكلَّم… ويموت.”  ويكشف صاحب المسرحيَّة علاقة هذا الطَّرْح به وبمعاصريه، فيُضيف: “كان عذاب الحلَّاج طرحًا لعذاب المفكِّرين في معظم المجتمعات الحديثة، وحيرتهم بين السيف والكلمة… وكانت مسرحيَّتي مأساة الحلَّاج معبِّرةً عن الإيمان العظيم الذي بقي لي نقيًّا لا تشوبه شائبة، وهو الإيمان بالكلمة.”(1)

والملاحظ أنَّ الشاعر قد أخذ يعبِّر عن نفسه، وعن موقفه من أوضاع عصره، على لسان بطل مسرحيَّته (الحلَّاج).  وهو موقف الشاعر نفسه، المتألِّم لما يرى في عصره من فقرٍ، وظُلْمٍ، وكَتْمٍ للحُرِّيَّات، إلى غيرها من تلك الأوضاع المتردِّية التي تُلِحُّ على الأديب/ على الكاتب/ على مَن يملك سلاح الكلمة.. أن يتكلَّم، وأن يبوح بمطالب أصحاب المطالب الإنسانيَّة، ويُصرِّح بمناوأة أهل الظُّلم والفساد، وإن استطاع أن يغيِّر فِعْلًا فليَفْعَل؛ فالكلمة وحدها قد لا تكفي.  ومن أجل هذا يتَّخِذ (صلاح عبدالصَّبور) من سلوك (الحلَّاج) في تأليب الرأي العام، ومراسلته (أبا بكر الماذرائي) و(حمْد الطولوني) و(القنائي) للانتفاض ضد السُّلطة الجائرة، رمزًا لواجب الملتزِم، ومَدخلًا غير مباشر للدَّعوة إلى التحرُّر من رِبقة الكبت والجَور والتعسُّف بأشكاله كافَّة.  وتلك وظيفة الالتزام.

وفي حِوارٍ ساخنٍ بين الملتزِم، المتمثِّل في (الحلَّاج)، وغير الملتزِم، المتمثِّل في (الشِّبلي)- بين مَن يرَى الشرَّ مِن صُنع أيدي البَشَر، ويجب أن يكون رفعه أيضًا بفعل أيدي البَشَر، ومَن يرَى الشرَّ قديمًا في الكون، مقدَّرًا لا حيلة في الوقوف ضِدَّه؛ لأنَّه يمثِّل بعض إرادة الخالق في خلقه- ومع أنَّ لهجة (الشِّبلي) فيها شيءٌ من العُنف، واختلال الوقار الصُّوفيِّ في الكلام عن قضاء الله- رغم تلطيف هذه النبرة العنيفة بذِكر الحِكمة في إلقاء الشَّرِّ على العالم: “كي يعرف ربِّـي مَن ينجو ممَّن يتردَّى“- فإنَّنا نلحظ في ذلك الحِوار الطويل تصويرًا حيًّا لموقفَي الرَّجلين: موقف صُوفيٍّ يريد أن يتنصَّل من مشكلات الحياة والتزامه فيها ليهرب إلى عالمه الصُّوفيِّ الخاصِّ، وهذا هو الشِّبلي، وموقف آخَر، يُكابِد في صراعٍ نفسيٍّ دراميٍّ بين خِرْقَتِه الصُّوفيَّة وواجبه الحياتي، لكنَّه يفضِّل أخيرًا أداء هذا الواجب والالتزام به، ليدفع حياته ثمنًا لالتزامه في نهاية المطاف.

وهكذا يضرب كاتب “مأساة الحلَّاج” مثلًا من أمثلة الملتزمين، ويصوِّر فلسفة الالتزام تصويرًا حيًّا نابضًا، مستغلًّا بطل مسرحيَّته للتعبير عن فكره هو وموقفه من قضايا عصره، نافذًا عبر مواقف البطل لبَثِّ عقيدته الاشتراكيَّة، عارضًا لوحاتٍ ناطقةً عن حياة ابن الشعب المسكين، وحياة الحُكَّام الجَوَرَة، وكيفيَّة تسيير الأمور المعيشيَّة في المجتمع المختلِّ.  وعلى امتداد المسرحيَّة تعلو صيحةٌ، هي صيحة المؤلِّف، قبل أن تكون دعوة (الحلَّاج)، إلى رفع الظُّلم، وإحقاق الحق، وحفظ الحُرِّيَّات.  ولذا كان الشاعر يُضطَـرُّ- كي يُعرِب عن رأيه- إلى أن يُطيل في الحِوار أحيانًا، أو أن يُنْطِقَ الأشخاص بما يريد وما يخدم أهدافه أحيانًا أخرى.(2)  ومن هذا صُوَرٌ شتَّى في النصِّ، لا يتسع المقام لعرضها هاهنا.  وقصارَى القول: إنَّ الشاعر (صلاح عبدالصَّبور) قد أعطى القارئ، من خلال “مأساة الحلَّاج“، خير مثالٍ على مذهبه في الالتزام، وتصوُّره لمهمَّات المُلتزِم، الاجتماعيَّة والفكريَّة والسياسيَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  عبدالصَّبور، صلاح، (1969)، حياتي في الشِّعر، (بيروت: دار العودة)، 119- 120.

(2)  انظر، مثلًا، (حِوار القضاة قبل محاكمة الحلَّاج): عبدالصَّبور، صلاح، (1972)، ديوان صلاح عبدالصَّبور، (بيروت: دار العودة)، 2: 553- 561.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .