د. خالد تركي حيفا
خمسٌ وثمانون ربيعًا ونيِّف لم يعرف الخريفُ طريقَه إليكَ، كنتَ ربيعًا دائمَ الإبتسامة، “دائمَ الخضرة يا قلبي”، خفيفَ الظِّلِّ، طيِّب المعشرِ، دمثَ الأخلاق، خلوقًا، مضيافًا، ترحِّب بكلِّ النَّاس، وكنتَ جارًا للجار، سميرًا للسُّمراء، نديمًا للنُّدماء، أنيسًا في “الليالي الحالكات”، مُجيرًا لكلِّ مستجيرٍ، كنتَ تُحبُّ مساعدة الآخرين..
كنتَ تحبُّ الحياة..
كنتَ ربيعًا بحال الورود والزُّهور والوديان، عطرًا زكيًّا ومعطَّرًا برائحة الزَّعتر البلديِّ والزَّعتر الفارسيِّ (دُقَّة العدس) والقندول والنَّرجسِ والبرقوق وعصا الرَّاعي وشقائق النُّعمان..
وكنتَ زهرة الحنُّون على مشارف حزُّور وقمَّة الكرمل..
إنَّ زهرَ الحنُّون أن يخون..
لكنَّ الجسد حين يخونُ صاحبَه ينقلب رأسًا على عقِب، فكيف للجسد أن يخون صاحبه، وبينهما عيشٌ وملحٌ أكثر من ثمانية عقود، “يخونُ العِشرة” وتهون العِشرةُ عليه، حيث كان دومًا يُطلق العِنان على “فيَّاله” لرغبات جسدِه، وهو الذي نشأ معه وتربَّى معه، وواجَها ظروف الحياة، بعُسرها ويُسرها، في سرَّائها وضرَّائها، بحُلوِها ومرِّها، خارجَين منها، غالبًا، بقامة مرفوعةٍ منتصِرَين..
كنتَ، ما أجمل ما كنتَ..
كانَ، ما أجمل ما كانَ..
يرسمُ على محيَّاه ابتسامةً رقيقةً، جميلةً، لا تفارق وجهه، تحمل بين طيَّاته كرمَه الأصيل، تتلخَّصُ بكلمة واحدةٍ “تفضَّل” وكان يعني ما يقول، و”مش رفع عتب”، تفضَّل يعني تفضَّل، لاحتساء قهوته الحاضرة العامرة، بنكهة القهوة العربيَّة الأصيلة وعبق حبَّات الهيل على وجه غلاية القهوة، أو للحديث مع الضَّيف، وحديثُه له شجون يجرُّ الحديث من حديثٍ إلى حديثٍ، من نقاشٍ إلى نقاشٍ، ويربطه بشكلٍ مشوِّقٍ يثير السُّرورَ والحبورَ في نفس كلِّ سامع وجالسٍ معه..
لكنَّ الخريف بعد أن يئس من صلابة جسده، وضع يده بيد الموت، ليحُدَّا من استمرار روح الرَّبيع فيه، ووجد الجسد نفسَه أمام تحدٍّ غير مسبوقٍ، بين امدادات الاطبَّاء له، ودعم من عُدَّةٍ وعتاد وعقارات طبِّيَّة وأدوية وسوائل ومصلٍ ومحفِّزات للتَّنشيط، وحنان العائلة الجميلة وعطفها ورقَّتِها، واحتضانها له ورعايته وعنايته برمش العين والأهداب، الأمر الذي دفعه يواجه عاتيات الزَّمن بقوَّة ونشاط وشجاعة وإباء، بابتسامة وترحابٍ، ومن شدَّة حبِّه للحياة اختار الصُّمود والمواجهة..
لكنَّ الموت الزُّؤام كان أقوى..
إنَّها إرادة الحنَّانِ المنَّان التي لا إرادة فوقها..
فقد غيَّب الموت بالأمس، في الثَّالث من آب، من هذا العام، الفين وإثني وعشرين، الرَّفيق المناضل فوزي جريس تركي داود عن عمر ناهزَ السِّتَّة والثَّمانين عامًا قضى جلَّها في النِّضال من أجل قضايا شعبه وقد بدأ حياته السِّياسيَّة والنِّضاليَّة، رفيقًا في الشَّبيبة الشُّيوعيَّة فرع المغار إذ انخرط ورفاقه الشَّباب في توسيع صفوف الفرع في القرية، وحين انتقل إلى حيفا انخرط في صفوف الشَّبيبة الشُّيوعيَّة، فرع حيفا، حيث ناضل من خلالها من أجل حقوق شعبنا العربيِّ الفلسطينيِّ وحقوق العمَّال والفلاحين والموطَّفين والفقراء والمستضعَفين كافَّة على وجه البسيطة..
كان إنسانًا عصاميًّا أحبَّ الحياة وأحبَّ النَّاس، لذلك بادلته النَّاس حبَّه بالمثل..
حين انتقل إلى السَّكن في حيفا، وانخرط في ساحات العمل الشَّاق، حمل همَّ أشقَّائه وأبناء عائلته على كتفَيه حيث ثابر وداوم وواظب على أن يبني له ولأشقَّائه مستقبلاً زاهرًا، إذ أقام شركةً تضمن لهم لقمة العيش الكريم بشرفٍ وإباءٍ دون منَّة من أحد، ولم يبخل عليهم البتَّة، بل كان سخيًّا، معطاءً وجوادًا حتَّى في أيَّام الشُّحِّ..
كان أبًا مخلِصًا لعائلة عزيزة النَّفس، كريمة الوجدان، استمرَّت في نهجه وسارت في طريقه وعلى خُطاه، ناضل من أجل لقمة العيش الشَّريف، حيث عمل فقيدنا طوال حياته عملاً شاقًّا ومضنيًا، كي يكفل لعائلته حياةً حرَّةً كريمةً، إذ لم ينس يومًا أنَّه ابن لهذا الشَّعب الرَّازح تحت الإحتلال، “نحن أهل هذا الوطن ولا وطن لنا غير هذا الوطن..”.
كان قارئًا نهمًا، مثقَّفًا ثوريًّا، ينتظر صحيفة “الاتحاد” يوميًّا كلَّ صباح، إذ لم يكتمل نهاره دون قراءتها واحتساء قهوة الصَّباح معها، وحين لا تصله الصَّحيفة في ذلك اليوم، يبدأ اتِّصالاته دون توقُّفٍ، ليحصلَ عليها، حتّى لو وصلت بتأخُّرٍ، وما همَّه إذا وصلَت لاحقًا ذلك اليوم، المهم أن تصله، وأحيانًا كان يستلمها في اليوم التَّالي، صحيفتان في يوم واحدٍ، فيقرأ الصحيفتين معًا..
كان فلاحًا، في مقتبل العمر، ساعد والده في فلاحة الأرض وحرثِها وزرعِها وجني ثمارِها، أوقات راحته وعطلته الأسبوعيَّة والموسميَّة. كان يُعطيها قوَّتَه وروحَه، عرقَه ودمَه، فكانت تقابله الحبَّ وتُبادله المودَّة، فتُعطيه مقابل ذلك أجمل الثِّمار وأزكاها، من فواكه وخضار وبقوليَّات ونباتات وأعشاب، وتُعطيه الخير لدواجنه وحيواناته الأليفة، كانت الأرض تبادله الحبَّ بكرمِها وعطائها بأعطر وأطيب الثِّمار وتمنحُه الخيرَ على الخيرِ، لأنَّه من أهل الخير..
كان عاملاً كادحًا أحبَّ عمله حُبًّا جمًّا، واعتبر أنَّ شرفَ الإنسان هو العملُ، وأنَّ العملَ هو شرفُ الإنسان، ومن يُريد المحافظة على شرفِه وعزَّته وكرامته عليه أن يعملَ ويكدَّ ويكدح، لأنَّ العمل شرفٌ..
كان يقول دائمًا مقتبسًا ما كتبه الكاتب السُّوفييتي في روايتِهِ “كيف سَقينا الفولاذ”، نيقولاي أوستروفسكي (الجزء الثَّاني ص 274) على لسان بطل الرِّواية بافل كورتشاغن، عندما خانته صحَّتُه:
“أنا مستعدٌّ لتَحمُّل كلِّ شيئ، فقط لو يعيدني ذلك إلى العمل. ليس في حياتي شيئٌ أرهبَ من فقداني القدرة على العمل. وحتَّى التَّفكير بذلك لا استطيعه”.
حدَّثني أنَّه في أيام الحكم العسكريِّ وبعد انتفاضة شعبنا في الذِّكرى العاشرة للنَّكبة، أنَّه كان ملاحقًا وبعضًا من رفاقه الذين تقاسم معهم طريق النِّضال والتَّحدِّي والتَّصدِّي والحرِّيَّة والشَّقاء، وشظف العيش، من فرع الشَّبيبة، في قرية المغار، قضاء طبريَّة، من الجليل الأسفل، على جبل حزُّور، من قبل عساكر صهيون، بعد أن اشتركوا في مظاهرة الأوَّل من أيَّار في النَّاصرة، وأبلوا بلاءً حسنًا وشجاعًا وبطوليًّا، في مواجهة العساكر وبطشهم إذ ذادوا عن وطنِهم، ليذودوا المحتلَّ عن بلادهم، وحين بدأ العساكر يستخلصون عبرةَ خسارتهم، أمام الشَّباب، عراة الصُّدور، متسلِّحين بفكرٍ أمميٍّ عمَّاليٍّ، وجدوا ملجأهم “لفشِّ غلِّهم” إعتقال الرِّفاق، وزجِّهم في غياهب السُّجون، وتلفيق التُّهم لهم، لكنَّ فوزي “الزكِرت” ورفاقه وجدوا في الوعر ملجأهم، قرابة الشَّهرين، كانوا يتردَّدون على بيتهم سرًّا، إلى أن حُلَّت الامور بشهامة محامينا الأجلاء وحزبنا الأشم..
أنت في البال وفي الخيال يا خال..
كلَّما أنزلُ نزلة شارع الجبل أو أطلعُ طلعة شارع الجبل، يمرُّ وجهُ خالي في خيالي وأرى طيفَه يلوِّحُ لي بيمناه، قائلاً تفضَّل، وأتوقَّعُ رؤيته جالسًا على شرفة بيته أو مُتَّكِئًا على ناصيةِ الشُّرفةِ، والسِّيجارة المشتعلة التي لا تبرح شفتيه، في مكانها، يرحِّب بكلِّ مارٍّ بقربه، بوجهٍ بشوشٍ، سموحٍ وبسَّامٍ وضَّاح المُحيَّا..
ويُتبِعُ ابتسامته بكلمة تَفَضَّل..
وحين كان يعلَمُ أنَّني سأزوره صباح يوم ما، كان يستيقظ من “فجِّة الحَمَار” من “دَغْشِي”، ليُحضِّر لي طعام الفطور، على ذوقه، ممَّا لذَّ وطاب، من “اللي بحبُّو قلبك” من زيتٍ زيتونٍ وزعترٍ بلديٍّ ولبنةٍ بلديَّةٍ “مزقلطة”، وبعدها تكون “تحلايتنا” فواكه موسميَّة من تينٍ وصبرٍ وعنبٍ وبطِّيخٍ، نختتمها بفنجان قهوة شهيَّة، يسرد لي ذكريات أيَّام شبابه وشقائه وتعبه وفرحه..
كنتَ كريمًا هُمامًا..
أشتاقُ إليكَ وإلى حديثِكَ وإلى قربِكَ..
اشتاقُ شَوقَين، شوقَ النَّوى وشوقًا لقربِ الخُطى من حِماك
فأمَّا الذي هو شوقُ النَّوى فمسْرى الدُّموعِ لطولِ نَواك
وامَّا اشتياقي لقُرب الحِمى فنارُ حياةٍ خَبَت فى ضِياك
لم يعرِف جسدُه، في حياته الرَّاحة البتَّة، لكنَّه عرفها في روح ذلك الجسد، بعد أن أصبحت أبديَّةً خالدةً، إلى يمين ربِّ السَّباؤوط ليكونَ ذكره بقربه سرمديًّا مؤبَّدًا..
كان والدي من بيته يُناجي ابن عمِّه ويسألني إن كان يُمكنه زيارته، وكان خالي وهو على سريره يُناجي ابنَ عمِّه أيضًا، ويسألني عن صحَّة والدي، وكثيرًا ما كان يحدثُ هذا، وكأنَّهما على موعدٍ، يشعران بضيق الآخر والشَّوق والتَّوق لملاقاة بعضهما البعض، يا محاسن الصُّدف، كيف لا، وقد كانا معًا، تلك العقود، لم تربطهما أواصر القُربى فقط، بل لُحمة الحال في الفكر والثَّقافة والنِّضال، كما جاء في القصيدة أجمل حبًّ، للشَّاعر محمود درويش:
كما ينبت العشب بين مفاصل صخره
وجدنا غربَين يومًا
ونبقى رفيقين دوماً.
ويقول الشَّاعرُ الأمويُّ ربيعة بن عامر التَّميميِّ (مسكين الدَّارمي)، عن إبن العمِّ:
أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ مَن لا أَخًا لَه
كساعٍ الى الهيجاء بغير سلاحِ
وإِنَّ ابنَ عمِّ المرء فاعلم جناحُه
وَهَل ينهضُ البازي بغيرِ جناح
رحلتَ، ولستَ براحلٍ..
غِبتَ وأنتَ حاضرٌ..
تركتَ الدِّيار، وانتَ مقيمٌ في قلوبنا..
رحلتَ، فليكن حِلُّك وتَرحالُك هناك في دار البَقاء أفضل ممَّا كنتَ عليه في دار الفَناء..
ليكُن ذكرُك، يا خالي يا شقيق امِّي، ويا ابن عمِّ والدي، خَيْ البَيْ، خالدًا في حياتك الجديدة، حيث لا وجعٌ ولا ألمٌ ولا حزنٌ ولا تنهُّدٌ، حياةٌ لا تفنى، حين تجلسُ عن يمينِ الآبِ، الرَّحْمٰنِ الرَّحيم..
أنتَ باقٍ في قلبي وإن رحلتَ..
فَنم قرير العين يا رفيقي، منمشي ومنكفِّي الطِّريق يا رفيق..