الأدب في عاصفة الأدلجة! أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

كيف يؤدِّي الملتزِم في الأدب مهمَّته على خير صفة؟

يُحدِّد (جان بول سارتر)(1) ذلك في الأمور الآتية:

أوَّلًا- لا بُدَّ من إحصاء الجماهير، وبخاصَّةٍ مَن لا يقرأ رسالة الكاتب الملتزِم، وكيفيَّة إيصال تلك الرسالة إليه، كالفلَّاحين، أو طبقة العمَّال، أو صغار المتعلِّمين، فلا بُدَّ أن يروِّض الملتزِمُ نفسه على الاحتيال في سبيل إبلاغ هؤلاء في أماكنهم المختلفة.

ثانيًا- للوصول إلى أوساط الناس، لا بُدَّ من استخدام الإذاعة، والتلفزة، والسينما، والصحافة.  لأنَّ هذه الوسائل تصل إلى من لا يصل إليه الكتاب، أو إذا وصل، لا يُقرأ.  ولا يُقِرُّ الالتزامُ الوجوديُّ بالنزول إلى مستوى الشعب لأداء الرسالة، بل يرى وجوب الارتفاع بالشعب عبر تلك الوسائل.  ولكنَّ (سارتر) يقف عند مشكلة المسؤولين عن تلك الوسائل والآلات؛ حيث يغلب عليهم الهدفُ المادِّي، وتغلب عليهم محاولة إرضاء الجماهير، بتقديم ما تشتهيه من الغثِّ الفاسد، الذي تتهافت عليه لفساد ذوقها العام. وهنا يطالب سارتر بقَدْرٍ من النجاح في تلك الأعمال المقدَّمة إلى الأجهزة الإعلاميَّة؛ لكسب تعاطف الجماهير، وأن «يُذْعَن في الظاهر، ليصبح الملتزِم بحيث لا يُستغنَى عنه… وأن يستفيد من اضطراب الخِدمة بالمصالح الحكوميَّة، ومِن نقص كفاية بعض المنتجين، كي تُرَدَّ هذه الأسلحة ضِدَّهم

ثالثًا- بعد أن يؤدِّي الملتزِم تلك الأعمال، ينبغي عليه أن يفكِّر كيف يكوِّن من تلك العناصر المتفرِّقة المختلفة- في ثقافتها ومكانتها الاجتماعيَّة- وَحْدَةً عضويَّةً من قُرَّاء ومستمعين ومتفرِّجين؟ وبمعنى آخر: كيف يكوِّن من تلك العناصر مجتمعًا واحدًا وجمهورًا عينيًّا؟  ويقترح (سارتر)، لتحقيق هذه الغاية، أن يستغلَّ الالتزاميُّون الحُريَّة التي يصل إليها القارئ عندما يقرأ.  تلك الحُريَّة التي تجرِّد القارئ من شخصيَّته الفعليَّة، ومن مخاوفه، وأحقاده، وشهواته؛ فإذا به يُحِسُّ- ممَّا قرأ من كتابةٍ ملتزمةٍ- بمطلبٍ غير مشروطٍ.  وعندئذٍ يمكن توحيد هذه «الإرادة الخيِّرة»، في نوعٍ من الشعور بالمثول الجسمي وسط هذا العالم، باتِّحاد الهموم والمصائر، وكذلك بعقد صِلاتٍ حقيقيَّةٍ بمناسبة أحداثٍ حقيقيَّة.

وهذه وسائل ضروريَّة لإيصال أيِّ تَوَجُّهٍ في العصر الحديث، يضعها (الوجوديُّون) نُصب عينَي الملتزِم، ويجعلون تمام وظيفة الالتزام مشروطًا بهذه الوسائل، وحُسن استغلالها.  وهو، في الحقيقة، تخطيطٌ دقيقٌ وشاملٌ للوصول إلى الأهداف المنشودة.

ولقد يفهم كثيرٌ من الناس من وظيفة الالتزام: الوَعْظ، والإرشاد الخُلُقيَّ مباشرةً، ولكنَّ الالتزام في الأدب يختلف في وظيفته عن ذاك.  صحيحٌ أنَّ وظيفته أخلاقيَّة، تجعل جمهور الناس هدفًا ترتفع بوعيه لتغييره، غير أنَّ وظيفة الالتزام هذه لها عِدَّة شروط.  فيجب على الملتزِم، أوَّلًا، أن يكون مؤمنًا بما التزم به، وأن يقول ما يعتقده، وما ينبع من أعماق نفسه من آمالٍ وآلامٍ، تُلِحُّ عليه في القول، وتدفعه إلى الكفاح من أجل القضيَّة التي التزم بها.  كما يَلْزَمُه أن لا يُوَجِّه قارئه عن طريق الفرض، أو الأمر، ولا يُشْعِرهُ بدُونيَّته، أو بتعاليه عليه، أو مطامعه فيه، بل يُزْجِي إليه الرسالة على نحوٍ غير مباشر، وبهدوءٍ غير منفعل، ممَّا يضمن اقتناعه أو تعاطفه على أقلِّ احتمال.  كما يُشترَط أن لا يكون الالتزام مدعاةً لفُقدان العمل «الأدبيِّ» أصالته الفنِّـيَّة وجماليَّاته الأساسيَّة، ليستحقَّ تسميته بهذا الاسم؛ لأنَّ في مراعاة هذا الشرط ضمانًا لنجاح الوظيفة الالتزاميَّة، فضلًا عن نجاح العمل أدبيًّا وفنِّيـًّا.(2)

تلك هي قيمة الالتزام في الأدب، وهذه هي وظيفته الحقيقيَّة، كما يرى منظِّروه.  ولم نسُق الحديث عن (الالتزام الوجوديِّ) إلَّا على سبيل النموذج لنزعة الالتزام في العصر الحديث، التي لم تقتصر على (أوربا)، بل غزت العالم، ومنه العالم العَرَبي.  لها ما لها، وعليها ما عليها، في عصرٍ طغَى فيه التسييس، والأَدلجة، وتوظيف الطاقات لخدمة دُوَلٍ أو أحزابٍ أو تيَّارات.

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  انظر: سارتر، (1990)، ما الأدب؟، ترجمة: محمَّد غنيمي هلال، (القاهرة: نهضة مِصْر)، 217- 220.

(2)  انظر: هلال، محمَّد غنيمي، (د.ت)، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 142- 146.

 

p.alfaify@gmail.com

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .