أتاني يحمل أمرًا هامّا حسب تقييمه وادعائه يريد أن يطرحه عليّ، وقد قرّر مسبقًا أنّه هامٌ نازعًا منّي أنا المتلقّي، وعن سبق إصرار وترصّد، الحقّ في تقييم أهميّة من عدم أهميّة ما سيطرح. وقبل أن يبدأ طرْحَ ما في جعبته، قال: “لا أعرف لمَا هكذا فعلنا نحن العرب في لغتنا فشوّهنا كلماتها الجميلة، حتّى صار ابن المغرب لا يفهم بعضّا ممّا يقول ابن المشرق إن لم يكن كلّ ما يقول، والعكس صحيح.”
لم يشغلْني إن كان يطرح ذلك استنكاريّا ولم استوقفه، وهو على ما بدا لم ينتظر منّي ردّا، فتابع: “ومع هذا وحين قرّرت أن أجيئك بما أحمل، جئت حاملًا عنوان حكايتي باللهجة الشمال – فلسطينيّة، ولأنّي متأكّد أنّك ستصنع من حكايتي قصّة مكتوبة كعادتك، فأنا أطالبك بحفظ الحقوق فهِم ابنُ المغرب أو لم يفهم!”
قالها هكذا بإصرار ناسيًا أنّه بعدُ لم يجفَّ حبرُ قوله عن انتزاع حقّي في تقييم طرحه. ومع ذلك ودون تعليق وقبل أن يضيف، أجبت: “أعدك!”
ظهرت على ملامحه علامات راحة، ومن خلال افترار فمه عن ابتسامة خفيفة، قال: “حكايتي عن شلّاخة اذْيال…”
وقبل أن يبدأ، سارعته: “ولكن يا عزيزي “شلّاخة” كلمة فصحى قح، وكذلك “اذْيال” اللهم أنّا بدّلنا همزة القطع بهمزة وصل، وسلامة معرفتك، ولا تحمِل همّ ابن المغرب!”
علت ملامحه علامات راحة كانت افتقدتها، وراح يحكي. وها أنا أنقل حكايته مع “الحقوق محفوظة” نصّا وروحًا وعنوانًا وجوهرًا.
كان محدّثي معروفًا وذا مركز مرموق وكان تعرّف على “شلّاخة الاذْيال” حسب مصطلحه مع حفظ الحقوق، في أحد اللقاءات المسائيّة أو على الأصح عرّفته على نفسها مبدية إعجابها الكبير به وبما يفعل، ومؤكّدة أنّها من متابعيه الدائمين المعجبين.
كانت امرأة عاديّة القسمات ولكن لا يخلو قوامها من جاذبيّة جسدّية، ومن السهل كان أن يُستنتج أنّها كانت تعرف جاذبيّتها الجسديّة فأضافت عليها استثمارًا، ليس بالقليل، اعتناءً بمكياجها ولبسها، فبدت رغم قسماتها العاديّة جميلة إضافة لقوامها الأخّاذ.
لم ينته الأمر بينهما عند هذا الحدّ من التعارف والانطباع الجماليّ الأوّلي، فمع الأيّام وجدها محدّثي، الأكبر منها سنّا وأسمى موقعًا، وقد “كبّشت باذْياله” كبشًا شديدًا أخافه في لحظات ما ألّا تقوى الأذيال على الصمود من شدّته وتتشلّخ، والشلخ وأيّا كان مؤلم. ولكّن بطلتنا وبحنكة العارف ما يريد، حرصت كلّ الحرص أن تحافظ ألّا يبلغ “الكبْش” ذلك الحدّ، فهي تريد الكبش قويًّا، ولكن تريد أكثر الأذيال سليمة قادرة على الحمل ولو إلى حين.
من اللافت أنّ محدّثي قد اعترف خلال طرحه، وقلّما يعترف شرقيّ بمثل ذلك، بأنّ تعلّقها ذلك بأذياله أشبع فيه ميلًا مكبوتًا لكسب إعجاب النساء ولو ظاهريّا، وخصوصًا حين يكون ذلك وسط جمع لامٍّ يغلب عليه الحضور الذكوريّ كما العادة في اللقاءات الجامعة عندنا، والتي ما زالت متحكّمة بها المسافات رغم غلبة الصرعة الأخيرة من عالم الأزياء على المشهد.
قال محدّثي إنّه كان أدرك ومن البداية أنّ تعلّقها في “اذْياله” كان وسيلة استثمار منها للارتفاع إلى المصافّ التي هو بها ووجدت سبيلها فيه، وأحوجها ذلك التعلّق بأذياله، وأدرك أنّ اعجابها ما كان إلّا الطريق وكبش الأذيال ضمانته. عرف، ومع هذا ما كان ضرّه ذلك ما دام التعلّق أشبع ميله الذكوريّ الشرقيّ المكبوت الذي كان اعترف به.
حقيقة شككت في معرفته هذه التي يدّعيها، وكنت مقتنعًا أن ذلك ما كان إلّا “قصر ذيل يا أزعر”، أو محاولة إعادة اعتبار لمكانته التي اهتزّت في قرارة نفسه وقد كان غلبه ميلُه الذكوريّ الشرقيّ المكبوت في لحظة غلب عليها حبّ التباهي والمباهاة الشرقيّ كذلك، دون أن يدري أنّ هذا “التكبيش” لا بدّ وراءه “تشليخ” أذيال.
لم يأخذ منه هذا الاعتراف الكثير من الجهد، ولا أخذت علامات عدم التصديق على قسمات وجهي والتي فضحتها ملامحي، وما كان محدّثي بالغبيّ كي تفوته رؤيتها. حسب ما كان قال وعلى ذمّته طبعًا، فقد دأبت بطلتنا أن تظهر في كلّ لقاء جماعيّ أو ثنائيّ قابضة بقوة على أذياله، وقد تواترت لقاءاتهما الجماعيّة المتّفَقة وغير المتّفَقة، فتعرّفت على كلّ من فيها من “طبقته” لا بل وصارت بطلتنا جزءً منها ومِن من فيها محقّقة أسرع ممّا خطّطت هدفها.
يقول محدّثي أنّه صار ينتظرها عشيّة كلّ لقاء، لا بل أكثر من ذلك صار يجد الحجج ليكلّمها عشيّة كلّ لقاء وقد كثرت مؤخّرا مثل تلك اللقاءات. والملفت كان في حديثة حول الكثرة هذه قوله إنّها كانت تعبيرًا عن قصور ذاتيّ في لقاءات تناول الهموم الأهمّ، كان يجد الحجج ليكلّمها ليعرف إن كانت ستشارك أو لا، وهي بغنجها تتمنّع قبل أن توافق كرمى له رغم انشغالها المدّعى.
كان محدّثي وعند هذا الحدّ قد توقّف عن السرد وكأنّ أمرًا أقعد لسانه عن المضيّ، فوجدتُها فرصة وسارعته: “ألا تخاف وأنت الشخصيّة المرموقة المعروفة أن تُتّهم بالشوفينيّة، ولهجتك تخبّئ الكثير منها؟!”
أجاب دون تلكّئ: “لا أبدًا فبالمصادفة كانت الحكاية مع انثى!”
لم ينتبه محدّثي لاستعماله مصطلح “انثى”، فسارعت كمن قبض على متلبّس: “ها أنت تستعمل لفظًا شوفينيّ!”
ردّ: “اتركني ليس هنا سرّ الحكاية، ولا هذا موضوعنا!”
وتابع محدّثي يحكي أنّ “أذياله” والتي تعوّدت “الكبش” رغم الضيق التي سبّبه لها، صارت تشتاقه كلّما ارتخى أو غاب، ووجدت نفسها وقد أحرقها الاشتياق ولا من مطفئ إذ غابت الكبّاشة دون سابق إنذار، وراح جهده لإطفاء اشتياق أذياله هباء. لم يطل المطال حتّى رأى بطلتنا وقد “تعمشقت” أذيال من هو أرمق منه مكانة ومركزًا من الجماعة، وصارت تمرّ بجانبه مواربة.
كان واضحًا في كلامه هنا أنّه كان يبثّني كي أكتب، غير مبالٍ بما كان قال في بدايته أنّه يحكي لي ولأنّه يخمّن أنّي سأكتب فطلب حقوقه المحفوظة، فالحقيقة أرادني أن أكتب حتّى لو لم أحفظ الحقوق ولو كشف ما أكتب ضعفه الشرقيّ وشوفينيّة المترسّبة، وهو العارف أن الرواسب تطغى عند أوّل انفجار ومهما اندملت أو دُمِلت، ولا يستطيع أن ينكر مهما تجمّل.
وقبل أن يُتاح لي أن أكتب رغبة منّي أو نزولًا عند رغبة مخفيّة منه، جاءني والأسارير منه في زهوّها، يبثّني أنّه رآها وقد تشلّخت بين يديها الأذيال فسقطت معفّرة، والأهمّ أنّها رأته أنّه رآها تسقط ورأى أن لا يد امتدّت نحوها لتقيمها من عثرتها. قال ذلك وفي نبراته الكثير من التشفّي، ودون أن ينتظر منّي قولًا ربّما يعكّر عليه صفو تشفّيه أدبر.
وقرّرت أن أكتب موفيًا بوعدي أنّ تبقى “الحقوق محفوظة” للراوي.
سعيد نفّاع
أواسط آب 2022