كان (رينيه إيتيامبل René Étiemble، -2002) يشير إلى أنَّ سعادة الملتزِم هي في أن يموت في سبيل قضيَّته التي التزم بها.(1) لكن أ هذه فقط هي وظيفة الملتزِم؟ لا، بل هذه محصِّلة الاضطلاع بتلك الوظيفة، والتضحية في سبيلها، مهما واجهَ الملتزِم من الصعاب. وليس بعد الموت من صعاب.
فما وظيفة هذا الكاتب الملتزِم، إذن؟
إنَّما وظيفته أن يُسمِّي الأشياء بأسمائها، دون تزييف أو تدجيل، باسم الممالأة أو المجاملة أو الخوف. «وإذا كانت الكلمات مريضة، فمردُّ الأمر إلينا في شفائها»(2). ولكنَّ غير الملتزِم لا يؤدِّي هذه الوظيفة على وجهها الذي يطالِب به (الوجوديُّون). وهو في وضعه هذا يُعَدُّ عندهم مريضًا. ولا حُجَّة له في عدم طواعية اللُّغة، أو عدم قدرتها على تحمُّل هذه المعاني الالتزاميَّة؛ لأنَّ المذهب الوجوديَّ- وقد أعطَى الإنسان حُريَّته من كلِّ عائقٍ تقليديٍّ أو اجتماعيٍّ، ما لم يَمسَّ حُريَّات الآخَرين الفرديَّة المشروعة- يحمِّل الإنسان مسؤوليَّة بناء نفسه وتحقيق وجوده. ومن هذا المنطلق فليس أمامه إلَّا أن يقوِّم لغته، إذا كانت مريضة؛ لتساعده في أداء وظيفته الالتزاميَّة، ومِن بَعْدُ لكي يؤدِّي هذا الالتزامُ وظيفته الاجتماعيَّة أو السياسيَّة أو الفكريَّة.
وما دامت تلك وظيفة الأدب الملتزِم وغايته، فقيمته تتبدَّى في كشفه الحقائق، وتبصير القارئ بما يجري حوله، وما يجب عليه حياله. ومن هذا رَفْع الظلم، وإعطاء الحُريَّات لأهلها، والثورة على الأوضاع المتردِّية، لا في سياسات البلدان فحسب، ولكن في المجتمعات والثقافات والأفكار أيضًا. وإذا كانت هذه وظيفة الأديب الملتزِم، فمن واجباته، قبل ذلك، أن يأخذ نفسه بثقافةٍ واسعةٍ شاملةٍ، دقيقةٍ عميقهٍ؛ تتيح له القيام بمهمَّة الالتزام، التي أُنيطت به، خيرَ قيام وأجداه، وأكثره قدرةً على التغيير. «ومن وجهة النظر هذه، علينا [كما يقول (سارتر)] أن نشهِّر بسياسة إنجلترا في فلسطين، وبسياسة الولايات المتحدة في اليونان، كما يجب علينا أن نشهِّر بما تفعله روسيا من نفي مواطنيها».(3)
وهكذا فقيمة الالتزام في الأدب تكمن في وظيفته النبيلة، التي تُعبِّر عن حُريَّة الكاتب وإرادته في اتخاذ المواقف والرأي أمام مشكلات الحياة. وتُعبِّر كذلك عن حُريَّة الشعب وإرادته في الحياة السعيدة الهانئة، الخالية من أيِّ لون من ألوان العسف، أو الاستعباد، أو سلب الحُريَّات المعصومة. وفي هذا قيمةٌ مزدوجةٌ للكاتب الملتزِم وللقارئ وللمتلقِّي على حَدٍّ سواء.
ويَرِدُ هنا سؤالٌ مهمٌّ، هو: أَيَحِقُّ للكاتب الملتزِم أن يُداهِن السُّلطةَ الغاشمةَ كي يصل إلى مآربه في إبلاغ رسالته إلى الجمهور؟
وقد أجاب عن هذا السؤال (سارتر) في كتابه «ما الأدب؟»(4)، وكان يتحدَّث عن السُّلطة الشيوعيَّة في (روسيا). وجاءت إجابته بالنفي. وشَنَّ حملةً على (الشيوعيَّة) وأدبائها الذين يخدمون أهدافها ومراميها. ودخلَ في خصومةٍ مع (روجر جارودي Roger Garaudy)(5)، الذي كان ينتمي في كتاباته- كما في اعتقاده- إلى الشيوعيَّة.
وموقف (سارتر) هذا يكشف أمرين من أُسس الالتزام الوجودي: أوَّلهما، تأكيد ما سبق ذِكره من أنَّ وظيفة الكاتب الملتزِم حتميةٌ لا مفرَّ له عنها؛ فليس له أن يتقرَّب بخدماته إلى (الحزب الشيوعي)، مثلًا، كي يتوصَّل إلى الجماهير، بل يجب عليه أن يصل إلى جماهيره بطُرقه الشريفة الخاصَّة، وأن يصمد في سبيل ذلك الوصول، مهما واجه، حتى لو كانت المواجهة مع السُّلطة الحاكمة نفسها. أمَّا الأمر الثاني، فهو نظرة (الوجوديِّين) إلى الالتزام الشيوعي؛ فهم يسمُّونه خدمةً، لا التزامًا؛ لعدم توفُّر حُريَّة الكاتب الفرديَّة فيه. تلك الحُرِّيَّة التي أكَّدَ أهميتَها الالتزامُ الوجودي؛ لأنَّ بها قيام العمل الأدبيِّ ونجاحه.
ولكن أ كان (سارتر) ملتزِمًا حقًّا بقضايا الإنسانيَّة، متحرِّرًا من الالتزام السياسيِّ المنحاز؟ لقد كان، مثلًا- وعلى الرغم من كلامه في إدانة السياسة الإنجليزيَّة في (فلسطين)- “ملتزِمًا بالميل إلى الصهيونيَّة”، مناصرًا للكيان الإسرائيليِّ المحتلِّ، غير مستشعِرٍ الخجل أمام عدالة القضيَّة الفلسطينيَّة، ولا مكترثٍ بشعبٍ احتُلَّت أرضه، وشُرِّد من وطنه؛ تكفيرًا عن جرائم الغرب بارتكاب جرائم أخرى في الشرق. ربما عن خشية سارتر من الإرهاب الفكريِّ الصهيونيِّ العالميِّ، ومن تطويقه تهمةَ «اللَّا ساميَّة»، كما حدثَ لمُواطِنه (جارودي).(6)
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: سارتر، (1990)، ما الأدب؟، ترجمة: محمَّد غنيمي هلال، (القاهرة: نهضة مِصْر)، 138.
(2) انظر: م.ن، 229.
(3) م.ن، 230.
(4) انظر: 208- 000.
(5) مفكِّرٌ فرنسيٌّ، اعتنق المسيحيَّة، ثم الماركسيَّة، ثمَّ اعتنق الإسلام، في رمضان 1402هـ= 1982م، وأصبح يُسمَّى (رجاء جاروديه، توفي 2012).
(6) يُنظَر في هذا: سعيد، إدوارد، (خريف 2015)، «اللِّقاء مع جان بول سارتر»، ترجمة: فوَّاز طرابلسي، («مجلَّة الدراسات الفلسطينيَّة»، (مؤسَّسة الدراسات الفلسطينيَّة)، ع 104، ص13- 20). أصله:://makeagif.com/i/xcOZxa