يبدو ان الجامعات الإسرائيلية ستكون حلبة مواجهة كبرى بعد ان أعلنت المؤسسة الصهيونية الحاكمة عدوانيتها العنصريّة متعدّدة الأذرع على الوجود الطلابي العربي فيها. وليس مثل الطلبة العرب أنفسهم في حمل هذا التحدّي وتحقيق الإنجازات الوطنية والعلمية والنهضويّة معاً.
قد يتراءى للوهلة الأولى ان المسألة الحارقة هي تفوهات كل من يسرائيل كاتس القيادي في الليكود وأحد أبرز قادة اليمين الدموي الفاشي في الجامعات ما بين أواخر السبعينات وبداية الثمانيات، والجنرال السابق يوآف غالانت وتهديدهما بنكبة جديدة، غير قادرين عليها، ثم لحق بهما ليبرمان وزير المالية الحالي ومن عصابات يسرائيل كاتس وتساحي هنغبي في الجامعة العبرية في حينه، والذي اعلن عن نيته قطع الدعم الحكومي عن جامعة بئر السبع التي أتاحت للطلاب العرب تنظيم مظاهرة النكبة وتحت أعلام فلسطين. يعرف كاتس وكل قيادات اليمين الدموي في الجامعات طوال عقود طويلة بأن الطلاب العرب من خلال لجانهم المنتخبة واتحادهم القطري لم يكونوا يوما الطرف الأضعف في الجامعات التي تحالفت اداراتها مع اقطاب النهج الدموي واجهزة الاستخبارات والشرطة ضدهم. وذلك ليس لأن الطلبة العرب يملكون قدرات جسدية أقوى، وإنما لأنهم دافعوا عن انفسهم وعن حقوقهم وحقوق شعبهم، وحتى عن مجرد وجودهم موحّدين، بينما الطرف الاخر تعامل من منطلق السطوة الدموية والاعتداء على العرب.
وإذ يجري الحديث اليوم عن تسليح المواطنين اليهود للاعتداء على العرب وإقامة ميليشيات دموية رسمية او شبه رسمية، فإن هذا النموذج قد جرى تجريبه في الجامعات ولم يسقط الا بنضال الطلاب العرب رغم الثمن الباهظ للموقف وللتصدي، والذي وجد تعبيرا عنه في الاعتداءات والاصابات ومحاولات الاغتيال في مساكن الطلبة وفي الاعتقالات والقمع الشرطوي وفي ملاحقة الشاباك والمحاكم التأديبية التي لم يحصل لها ان عاقبت طالبا يهوديا واحدا على مظاهرة او اعتداء، بينما كل انشغالها كان بالطلبة العرب، وهي في ذلك لا تختلف عن روح المحاكم الإسرائيلية.
الا أنّ ما يفوق من حيث الأثر التحريض الدموي على الطلبة العرب ومن خلالهم على جماهير شعبنا، هو قانون “مِمَديم لليموديم” (من الجندية الى التعليم) والمعروف إعلاميا بقانون وزير الحرب بيني غانتس، والذي حظي بأوسع إجماع قومي صهيوني لتزول الحدود والعداوات بين الائتلاف والمعارضة، ولتعارضه فقط القائمة المشتركة. ليس من المبالغ به القول انه قانون تطهير عرقي بنيوي للطلبة العرب في الجامعات، فهو يمنح الطلاب الذين خدموا في الجيش او أذرع الامن تخفيضا قانونيا تلقائيا بنسبة 75% من القسط الدراسي وهذا من ميزانية الدولة، ناهيك عن المنح المقدمة من الصناديق والمنظمات والجاليات اليهودية في العالم وبالذات من الولايات المتحدة، ليبقى امام الطلاب العرب ان ينافسوا على ما يتبقى من المنح المتاحة.
من شأن التطبيق الفعلي للقانون أن يجعله أكثر قسوة وعنصرية. اذ سوف تدّعي الجامعات بأن هذه المنح من الدولة، بينما هي معاهد أكاديمية “لا تتدخل بالسياسة”، وبذلك تحرر نفسها من أية مسؤولية تجاه التمييز العنصري الصارخ. اما الجانب الاخر فهو يذكّر بلجنة تحديد القسط الدراسي الجامعي في أوائل سنوات الثمانين والتي حملت اسم “لجنة قصاب” على اسم عضو الكنيست موشي قصاب، والذي اشغل فيما بعد منصب رئيس إسرائيل ومنه الى السجن بتهمة الاغتصاب. وقد حددت اللجنة في توصياتها عام 1983 حجم القسط الدراسي العالي ب 700 دولار لمدة خمس سنوات، لكن في التطبيق بلغ حوالي الالف دولار بأسعار تلك الفترة، كما شطبت أية إمكانية لاعتماد قسط دراسي تدريجي حسب معايير اقتصادية اجتماعية، بينما رسّخت التمييز العنصري باعتماد الخدمة العسكرية أساسا في التخفيضات. لقد اعتمدت الحكومة المعايير التمييزية، بينما رفعت القسط أكثر مما رفعته اللجنة. كانت النتيجة في ظل هذا التمييز العنصري، وارتفاع القسط الدراسي فيما بعد بأنّ الطلبة العرب تضرّروا أضعاف الضرر الذي لحق بالطلبة اليهود. في حين ان تكلفة التعليم لا تنحصر في القسط وانما بمعايير تفضيل قبول الجنود في مساكن الطلبة في الجامعات، وامتناع اوساط واسعة من المجتمع الإسرائيلي عن تأجير الدور للطلبة العرب، مؤكدين اللّازمة المعهودة “نحن لسنا عنصريين وانما الجيران”. كما واستُخدِمَت منظومة التمييز سعياً للحد من تدفّق الطلاب العرب للجامعات بالذات في مرحلة النهضة الوطنية والتحوّلات الاجتماعية التي حصلت في اعقاب مصادرة الأراضي والتوجه الى الدراسة. ففي جامعة حيفا على سبيل المثال تم التعامل مع العدد الكبير في حينه للطلبة العرب والذي بلغ حوالي الألف من أصل أربعة الاف، كمشكلة دمغرافية ينبغي علاجها للحيلولة دون تسارع تزايد العرب وأنشطتهم، وعزوف اليهود عن الجامعة، وكان هذا من دوافع إقامة “كلية الامن القومي” في الجامعة لجذب الطلبة اليهود وبالذات الجنود وتغيير طابع الجامعة.
لكن جذور التعامل تعود الى فترة سابقة، فقد اعتبرت المؤسسة الصهيونية أن التحاق الطلاب العرب بالجامعات الإسرائيلية وبالذات في سنوات الخمسين المتقدمة في الجامعة العبرية، بمثابة تجاوز خطوط صهيونية حمراء، واعتداء على المشروع الصهيوني، بل أنّ الجامعات رسخت ضمن أهدافها خدمة المشروع الصهيوني واعتبارها لذاتها جزءا منه. لقد استخدمت الدولة من خلال الجامعات سياسة التقنين وتحديد عدد المقبولين، وقد وصلت الأمور لأن يطرح هذا الامر “الخطير” في العام 1958 على جدول اعمال مكتب رئيس الحكومة ومستشاره للشؤون العربية بصفته منسق اعمال الاذرع الأمنية والحكم العسكري في ديوان رئاسة الحكومة، وذلك من باب المساعي الى الضبط السياسي والرقابة والهيمنة في مرحلة بدايات تبلور فكرة تنظيم الطلاب العرب في الجامعة العبرية في القدس.
التمييز العنصري تجاه الطلاب العرب هو شأن بنيوي ويدار في أعلى مواقع اتخاذ القرار. وهو يستهدف المستقبل وليس فقط الوضع الراهن. والمشهد المتوقع هو ان الدولة وحكومتها ستقوم في اعقاب “قانون غانتس” برفع القسط الدراسي في الجامعات، فمهما ارتفع فإنه لن يؤثر على الطلاب الإسرائيليين، ولو افترضنا حسابيّاً بأنّه سيرتفع بأربعة الاف شيكل فإنه سيكلّف الطالب العربي أربعة الاف شيكل ومرفقاتها، بينما سيكلّف الطالب الإسرائيلي (وبالمجمل من خلفية اقتصادية اجتماعية افضل من العرب)، فقط ألف شيكل يحصل عليها من مصادر المنح اليهودية الصهيونية في العالم. اي أن الأخير لن يشعر بالارتفاع، بينما يتحمّل الطالب العربي كامل مضاعفات الارتفاع. وهذا يندرج على مجمل القسط. في السياسات طويلة الأمد لا تتضح تداعياتها في المرحلة الأولى من إقرارها، وإنما بعد سنوات، ولن يكون مفاجئاً اذا اكتشفنا لاحقاً زيادة ملحوظة في هجرة الطلاب والطالبات العرب الى خارج البلاد للدراسة في جامعات العالم، او العزوف عن الدراسة او، وهذا ممكن أيضا، أن نرى مساعيَ صهيونية (بما فيها الصهيونية الناعمة من خلال منظومات “التعايش”) الى الدفع نحو مشاريع الخدمة المدنية والقومية او للتجند في جيش الاحتلال.
لا اعتقد أن هذه المشاريع الصهيونية ستنجح بالضرورة، وهذا القرار سيتخذه أولا الأجيال العربية الفلسطينية الصاعدة والحركات والحراكات الطلابية، التي وإن لم تَعُد منظّمة على أساس لجان طلابية واتحاد قطري منتخبين، الا انها ستجد الصيغ الملائمة لها ولروحها المتجدّدة لمواجهة هذا التحدي على جيهتيه: التحريض العنصري الدموي، والعنصرية البنيوية بعيدة المدى. ففي جامعة تل ابيب وجامعة بئر السبع رفرفت مؤخرا إعلام فلسطين وكانت أعلى من حملة اعلام إسرائيل، وهو المؤشر بأن الجيل الصاعد يستلهم من تاريخه ويشقّ طريقه نحو الأفق.