آمال عوّاد رضوان
رَجُلٌ مَهْيُوبٌ مَحْبُوبٌ، يَفِيضُ حَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا بِوَجْهِهِ الْجَذَّابِ الْوَضَّاءِ، صَدْرُهُ يَكْتَنِزُ جَذْوَةً دَائِمَة الِاشْتِعَالِ بِالْغِبْطَةِ وَالْمَسَرَّةِ، يَبُثُّ الْوَعْيَ وَالتَّرْفِيهَ فِي مُحِبِّيهِ وَمُرِيدِيهِ، بِخِفَّةِ رُوحِهِ وَذَكَائِهِ الْوَقَّادِ، وَكَثِيرًا مَا يَنْفُخُ عَزِيمَةً وَمَرَحًا فِي نُفُوسِ رُوَّادِ مَقْهَى السَّمِيرِ.. يُغِيثُهُم مِن يَأْسِهِم وَكَوَارِثِهِم، فيَسْتَشِفُّونَ أَعْمَاقَهُ.. يَتَنَعَّمُونَ بِحَدِيثِهِ.. يُصِيخُونَ السَّمْعَ بِآذَانٍ مُرْهَفَةٍ لِصَوْتِهِ السَّرْدِيِّ الْجَهْوَرِيِّ الْمُشَوِّقِ، فَتَتَلَاعَبُ عَلَى شَفَتَيْهِ كَلِمَاتٌ وَبَسَمَاتٌ تَتَلَوَّنُ مَعَانِيهَا بِنَبَرَاتِ مَغَازِيهَا، وَيُسْهِمُ فِي تَخْفِيفِ أَعْبَاءِ وَعَنَاءِ الْحَيَاةِ مِنْ خِلَالِ سَرْدِهِ النَّاضِجِ، وَتَلَاعُبِهِ بِشَخْصِيَّاتِ قِصَصِهِ، وقد بَرَعَ فِي عَزْفِهِ عَلَى أَوْتَارِ الْحِكَايَاتِ والنَّهَفَاتِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ فِي غَمْرَةِ حُلُمِهِ، يَطْوِي جَوَانِحَهُ عَلَى مُغَامَرَةٍ جَدِيدَةٍ، فَيَصْلَبُّ عُودُهُ مُسْتَفِزًّا سَامِعِيهِ، وَيَتَعَمْلَقُ هَيْكُلُهُ فِي هَالَةٍ مِنْ لَهِيبِ تَحَدِّيهِ، وَكَثِيرًا مَا تَنْقَلِبُ الْأُمُورُ عَلَيْهِ بِأَمَرَّ مِنَ الْمَرَارَةِ، وعَلَى عَكْسِ مَا يَشْتَهِيهِ؟
لكِن أَبُو زَيْدَان مُدَخِّنٌ صَعْبُ الْمِرَاسِ، اعْتَادَ أَنْ يَتَعَسْكَرَ وَيَتَمَتْرَسَ فِي مَكَانِهِ بِالصَّمْتِ، يُمَشِّطُ الْمَقْهَى بِنَظْرَةٍ بُولِيسِيَّةٍ بَارِدَةٍ تَسِيلُ بِاللَّامُبَالَاةِ، وَيَقِفُ لِمَشْبُوب بِالْمِرْصَادِ، يُبَيِّتُ لَهُ فِي جَوْفِهِ خَاطِرًا غَرِيبًا مُبَاغِتًا، وَيَظَلُّ يَتَرَبَّصُ وَيَتَرَبَّصُ بِفُرْصَةٍ سَانِحَةٍ يَتَحَيَّنُهَا.
فَجْأَةً، وَبِنَبْرَةٍ تَشِي بِالْحِدَّةِ انْفَجَرَ صَوْتُهُ قُنْبُلَةً أَلْقاهَا فِي حِضْنِ مَشْبُوب، وَرَمَى عَلَيْهِ كَمِينَهُ وَشِبَاكَ مَقْلَبٍ جَدِيدٍ فَرِيدٍ، بِمُغَامَرَةٍ تَعْجِيزِيَّةٍ تُزَعْزِعُ جُذُورَ الْقُلُوبِ، وتُحَمِّلُ مَشْبُوب وَطْأَةَ تَحَدِّيهِ فِي مُخَاطَرَةٍ وَمُجَازَفَةٍ، فَوَقَفَ مَشْبُوب عَاجِزًا عَنْ مُغَالَبَةِ كِبْرِيَائِهِ وَرُجُولَتِهِ، وَرَضَخَ خَاضِعًا لِلتَّحَدِّي، لَا يَأْذَنُ وَلَا يُذْعِنُ.
انْتَصَبَ أَبُو زَيْدَان وَاقِفًا يَهُزُّ طُرَّةَ طَرْبُوشِهِ الْأَحْمَرِ الَّذِي يَعْتَزُّ بِهِ.. أَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا بِسِيجَارَتِهِ.. نَفَثَ حَلَقَاتٍ كَثِيفَةً مِنَ السِّنَاجِ الضّبَابِيِّ.. زَفَرَ بِأَكْدَاسٍ هَائِلَةٍ مِنْ ضَجَرٍ، وَقَالَ بِصَوْتِهِ الْمُتَأَنِّي، وَهُوَ لَا يُلْقِي بَالًا إلَى أَحَدٍ:
– يَا مَشْبُوب، “إِذَا رَفَعْتَهُ انْكَبَّ، وَإِذَا كَفَيْتَهُ مَا انْدَبَّ”!
وَبِأَسْرَعَ مِنَ الْوَمْضِ أَجَابَ مَشْبُوب:
– الطَّرْبُوش.
وَبِعَيْنَيْنِ تَقْدَحَانِ شَرَرَ انْتِصَارٍ مُرِيبٍ، خَلَعَ أَبُو زَيْدَان طَرْبُوشَهُ، وَتَسَلَّلَ صَوْتُهُ خِلْسَةً إِلَى حُدُودِ الْحِيلَةِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ مُتَحَشْرِجٍ أَزَّ حَادًّا ثَاقِبًا، دَوَّى كَرَزِيزِ الرَّعْدِ وَتَرَدَّدَ صَدَاهُ:
– هذَا طَرْبُوشِي لَكَ.. لكِنَّ امْتِحَانَكَ صَعْبٌ “مِنْ قَاعِ الدِّسْت”..
تَعَلَّقَتْ كُلُّ الْعُيُونِ بِلِسَانِ وَيَدَيْ وَعُيُونِ أَبُو زَيْدَان، إِذ وَضَعَ طَرْبُوشَهُ بَيْنَ يَدَيْ مَشْبُوب، ثُمَّ أَمْسَكَ بِحَبْلٍ يَتَدَلَّى مِنْهُ وَتَدٌ، وَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ مُسْتَفِزٍّ:
– إِنْ كُنْتَ رَجُلًا.. دُقَّ هذَا الْوَتَدَ بِجَانِبِ قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم اللَّيْلَةَ.
رَهْبَةٌ رَهِيبَةٌ عَقَدَتْ أَلْسِنَةَ الْحُضُورِ.. أَلْجَمَتْهَا.. خَيَّمَ صَمْتٌ مُقَدَّسٌ جَمَّدَ الْوُجُوهَ وَالْأَجْسَادَ لِلَحَظَاتٍ، ثُمَّ تَبَادَلَ الْجُلَّاسُ النَّظَرَاتِ، وَنَارُ الذُّعْرِ شَبَّتْ تَمْتَدُّ.. تَتَطَاوَلُ.. تَتَزَحَّفُ إِلَى أَعْمَاقِ مَشْبُوب، فَبَدَا كَغَزَالٍ غِرِّيرٍ يُنَاوِرُ صَيَّادَهُ، وَقَدْ وَقَعَ فَرِيسَةً فِي دَوَّامَةٍ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالتَّحَفُّزِ..
تَضَاءَلَ مَشْبُوب فِي حَيْرَتِهِ، شُعُورٌ غَامِضٌ بَالِغُ الِانْقِبَاضِ غَمَرَ قَلْبَهُ، وَنَارٌ لَاسِعَةٌ لَاهِبَةٌ تَتَآكَلُهُ عَلَى مَهْلٍ، فَهَلْ يُقْلِعُ عَنْ عِنَادِهِ، وَلَا يَرْكَبُ مَتْنَ الصَّعْبِ مِنْ أَجْلِ التَّحَدِّي وَالنَّصْرِ؟
لكِن؛ هَلْ ذَاكِرَةُ مَشْبُوب تَضْطَرِبُ وَتَتَزَلْزَلُ، وَهُوَ نَافِذُ الرَّأْيِ الْمُطَاوِعُ لِرُجُولَتِهِ، مَنْ خَطَّتْ مُغَامَرَاتُهُ عَلَى صُدْغَيْهِ تَارِيخًا حَافِلًا بِذِكْرَيَاتٍ، وَمُغَامَرَاتٍ، وَقِصَصٍ مُدْهِشَةٍ وَمُثِيرَةٍ؟
قَالَ فِي نَفْسِهِ:
– “لَا.. فَأَنَا مَشْبُوب الْمُكَنَّى بِالْمَجْنُونِ، أَعْتَزِمُ أُمُورِي بِرَأْيِي السَّدِيدِ.. أَتَّخِذُ قَرَاري الرَّشِيد، دُونَ أَنْ آبَهَ بِالنَّتَائِجِ، فَمَا كُنْتُ أَفِينًا ضَعِيفَ رَأْيٍ، وَمَا أَحْجَمْتُ يَوْمًا عَنْ تَحَدٍّ، وَلَا نَكَّصْتُ عَنْ حَمْلِ مَسْؤُولِيَّةٍ”.
بَعْدَ هُنَيْهَةٍ وَقَفَ مَشْبُوب وَالْهُدُوءُ لَا يُزَايِلُهُ، وَقَدِ اكْتَسَى مُحَيَّاهُ بِمِسْحَةٍ مِنَ الْجَدِّ الرَّصِينِ.. اعْتَمَرَ طَرْبُوشَ أَبُو زَيْدَان، فَبَدَا أَفْرَعَ طُولًا وَأَكْثَرَ فُتُوَّةً، وَبِكَلِمَاتٍ بَطِيئَةٍ مُتَمَهِّلَةٍ، وَبِنَبْرَةٍ حَاسِمَةٍ مَشْبُوبَةِ الرَّغْبَةِ وَالتَّحَدِّي أَرْدَفَ:
– لَا حِيلَةَ لِي فِي الْأَمْرِ، سَأَدُقُّ الْوَتَدَ بِجَانِبِ قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم اللَّيْلَةَ.
كَلِمَاتُ مَشْبُوب أَجْفَلَتِ السَّامِعِينَ مَشْدُودِي الْأَعْصَابِ، وَقَدْ خَيَّمَ عَلَيْهِمِ الصَّمْتُ.. جَحَظَتْ عُيُونُهُم مِنْ مَحَاجِرِهَا، تَرْمُقُهُ بِنَظَرَاتٍ مُتَفَحِّصَةٍ تَنْفُذُ إِلَى طَوَايَا نَفْسِهِ غَيْرَ مُصَدِّقَةٍ، تَحْدُجُهُ مِنْ عَلْيَائِهِ إِلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ بِنَظَرَاتٍ ثَاقِبَةٍ، تَنْفُذُ إِلَى أَعْمَاقِهِ، تَخُضُّهُ، تَنْفُضُهُ، وَوَجْهُهُ الْيَشِي بِخَوَاطِرِهِ، لَا يَكْتَرِثُ وَلَا يَهْتَزُّ.
طَالَعَ مَشْبُوب وُجُوهَهُمُ الشَّاحِبَةَ الْوَاجِمَةَ.. أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَام.. أَخَذَ الْحَبْلَ وَالْوَتَدَ، ثُمَّ رَمَى (أَبُو زَيْدَان) بِنَظْرَةٍ فَاتِرَةٍ بَاهِتَةٍ، وَانْسَحَبَ مِنَ الْمَقْهَى مُنْكَفِئًا عَلَى نَفْسِهِ، وَعُيُونُهُمُ الْمَخْمُورَةُ بِالذُّهُولِ تُشَيِّعُهُ إِلَى الْبَابِ، وَقَدْ لَبَّدَ الْأَجْوَاءَ الْقَاتِمَةَ بِخَفَافِيشِ الْأَوْهَامِ، وَمَا بَدَّدَ جَحَافِلَ ضَبَابِ الشَّكِّ ثَقِيلِ الْقَبْضَةِ.
كَيْفَ لَا يَتَحَدَّى، وَهُوَ الْأَحْوَذِيُّ الْيَسُوقُ الْأُمُورَ خَيْرَ مَسَاقٍ؟
سَارَ بِاتِّجَاهِ الْمَقْبَرَةِ، وَقَدْ تَلَفَّعَتِ السَّمَاءُ بِأَرْدِيَةِ الْخَرِيفِ، وَأَخْفَتِ الْعَتْمَةُ وُجُومَهَا. اقْتَحَمَ الظُّلْمَةَ ثَابِتَ الْعَزْمِ، وَفِي مَأْمُولِهِ أَنْ يَنْجَحَ. سَارَ فِي أَحْشَاءِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ سَاهِمًا عَلَى غَيْرِ هُدًى، يَشْمَلُهُ صَمْتٌ ثَقِيلٌ، كَأَنَّهُ تَحْتَ تَأْثِيرِ قُوَّةٍ خَارِقَةٍ تَسُوقُهُ، تَشُدُّهُ إِلَى وَاقِعٍ مُثِيرٍ، فيَسْتَعِيدُ شَرِيطَ مُغَامَرَاتِهِ الْمَجْنُونَةِ.
أَرْسَلَ بَصَرَهُ عَلَى سَجِيَّتِهِ، يُحَدِّقُ فِي قُبَّةٍ دَامِسَةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ نُورِ نَجْمٍ يَتَسَحَّبُ بَيْنَ السَّحَابِ، أَو يُمَشِّطُ الْأُفُقَ مِنَ الضَّبَابِ، إِلَّا خَيَالهُ يُرَامِقُهُ، يُفَضْفِضُ لَهُ الصُّمْتُ خَوْفَهُ، لكِن.. مَا مِنْ أَمْرٍ يَثْنِيهِ عَمَّا عَزَمَ.
تَبَدَّتْ لَهُ عُيُونُ اللَّيْلِ تَحْرُسُ عَوَالِمَ خَبِيئَةً، فِي قُمْقُمٍ مُعْتِمٍ فِي فَضَاءِ الْمَا وَرَاء، عَوَالِمَ مُفَخَّخَةً بِأَزْمِنَةٍ خُرَافِيَّةٍ، عَوَالِمَ مُتَخَيَّلَةً بِأَمْكِنَةٍ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى اسْتِدْعَاءِ الْجِنِّ مِنْ كُهُوفِهَا، مِنْ مَنَازِلِهَا الْمَسْكُونَةِ، وَما الْأَشْبَاحُ سِوَى مَسَارِحِ أَوْهَامٍ، فَقَالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِامْتِعَاضٍ وَازْدِرَاءٍ:
– “صَحِيحٌ أَنَّ الدَّرْبَ مَحْفُوفٌ بِالْغُمُوضِ، لكِن مَا هذِهِ سِوَى قُوًى غَيْبِيَّةٍ غَبِيَّةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ رُكُوبِ الْمَخَاطِرِ وَالْأَهْوَالِ دُونَ مُحَال”!
فَجْأَةً اكْفَهَرَّ الْأُفُقُ وَامِضًا، يُنْذِرُ بِهُبُوبِ عَوَاصِفَ رَعْدِيَّةٍ، وَفِي تَمَامِ الظَّلَامِ الْحَالِكِ، وَعَلَى قَيْدِ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمُغَامِرِ الْمُجَازِفِ، شَخَصَ فِي الْبَعِيدِ أَطْيَافًا فِي الْعَرَاءِ، أَحَسَّ بِخُطُوَاتٍ سَرِيعَةٍ تَتَمَشَّى خَلْفَهُ، تَتَقَفَّى آثَارَ لَيْلَتِهِ اللَّيْلَاءِ، تَتَحَفَّزُ لِلْوُثُوبِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَيْهِ.
جَثَمَ الرُّعْبُ عَلَى قَلْبِهِ ثَانِيَةً.. رَكِبَهُ خَوْفٌ خَلْخَلَ مَفَاصِلَهُ.. تَصَخَّرَ خَطْوُهُ الْمُتَثَاقِلُ.. اشْتَعَلَ فِيهِ ذُعْرٌ يُقَطِّعُ نِيَاطَ الْقُلُوبِ.. تَفَشَّى فِي أَوْصَالِهِ وَقَدْ بَلَغَ مُنْتَهَاهُ، وَبِحَرَكَاتٍ يَشُلُّهَا الِارْتِيَابُ، ارْتَدَّ لِلْوَرَاءِ بِخُطُوَاتٍ مُتَخَاذِلَةٍ مُتَرَنِّحَةٍ، حِينَ تَضَخَّمَتْ أَمَامَهُ أَشْبَاحُ الْجَزَعِ، وَنَدَّتْ عَنْ صَدْرِهِ تَنْهِيدَاتٌ دَفِينَةٌ عَمِيقَةٌ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْأُخْرَى، تُعَبِّرُ عَنْ هَلَعٍ مَكْبُوتٍ فِي صَدْرِهِ.
لَمَحَ بَيْنَ أَشْدَاقِ الْعَتْمَةِ قُبُورًا تَائِهَةً.. أَضْرِحَةً ضَائِعَةً.. سَرَادِيبَ مُعْتِمَةً سِرِّيَّةً.. كَأَنَّمَا تُفْضِي إِلَى أَوْكَارٍ شَيْطَانِيَّةٍ.. جَفَّ قَلْبُهُ وَوَجَفَ، وَانْتَصَبَ بِرَأْسِهِ الْمُرْتَفِعِ السَّامِدِ، يَسْتَنْشِقُ خَوْفَهُ مِلْءَ صَدْرِهِ.
تَجَهَّمَتْ أَسَارِيرُهُ، وَوَقَفَ جَاحِظَ الْعَيْنَيْنِ يَخْتَلِسُ نَظَرَاتٍ وَجِلَةً، يُحَدِّقُ فِي الظَّلَامِ.. تَلُفُّهُ أَشْبَاحُ الْقَلَقِ وَأَصْوَاتُ اللَّيْلِ، وحِينَ تَعَالَتْ صَرَخَاتُ اسْتِغَاثَةٍ مُكَلَّلَةٍ بِسَوَادِ الْمَقَابِرِ، اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَذَيَانُ قُوًى غَيْبِيَّةٍ تَكَادُ تَسْحَقُهُ، وَتَهْتَاجُ الْمَخْيَلَةُ عَلَى نَحْوٍ يُرْثَى لَهُ. اسْتَجْمَعَ قُوَاهُ الْخَائِرَةَ الْوَاهِنَةَ، وَبِحَمَاسَةٍ مُنْقَطِعَةِ النَّظِيرِ عَصَفَتْ بِهِ ثَوْرَةُ صُرَاخٍ فِيهَا بَعْضُ اسْتِجْدَاءٍ:
– الْبُيُوتُ الْمُقْفِرَةُ فِي اللَّيْلِ تَبْدُو كَالْمَقَابِرِ، وَكُلُّ بِلَادِنَا جَرِيحَةٌ، وَكُلُّ أَوْطَانِنَا مَقَابِر!
أَخَذَ مَعَهُ مَا يَفِي بِالتَّحَدِّي الصَّاخِبِ، فَفِي جُعْبَتِهِ تَتَكَدَّسُ مُدَّخَرَاتُهُ التُّرَاثِيَّةُ مِنْ حَزَازِيرَ وَقِصَصٍ يُفْرِغُ فِيهَا اضْطِرَابَهُ وَخَوْفَهُ.. أَخَذَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ:
“يَحْمِلُ قِنْطَار وَلَا يَحْمِلُ مِسْمَار”؟ يَا بَحْر انْتَظِرْني، سَأَدُقُّ الْوَتَدَ فِي بَطْنِكِ، وَلَيْسَ فَقَط فِي بَطْنِ الْمَقْبَرَة.
ضَحِكَ مَشْبُوب وَجَلْجَلَتْ ضِحْكَتُهُ، لَوَّحَ بِحَبْلِ الْوَتَدِ وَقَالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ:
– “الْحَبْلُ فِي رَقَبَتِهِ، وَالدَّقُّ فِي صَلْعَتِهِ”. يَا وَتَدَ الْبَلَدِ يَا مُخْتَارها لَوْلِحْ لَوْلِحْ، وَيَا وَتَدَ الْأَرْضِ يَا جِبَالها، لَوْلِحْ لَوْلِحْ.
وَمَا أَنْ وَصَلَ إِلَى قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم فِي آخِرِ الْمَقْبَرَةِ، حَتَّى أَطَلَّ الْقَمَرُ فِضِّيًّا سَاطِعًا يَرْعَى فِي مَرَاعِي السَّمَاءِ، وَقَدْ أَمَاطَ اللِّثَامَ عَنْ أَسْرَارٍ دَفِينَةٍ، فَنَظَرَ إِلَى الْقُبَّةِ الْمُضِيئَةِ، وَرَآهَا مُنْبَسِطَةً تُزْهِرُ فِيهَا نُجُومٌ زَاهِيَةٌ تَتَرَاقَصُ نَشْوَى.. ضَحِكَ وَقَدْ زَالَتْ مَخَاوِفُهُ وَصَارَ يُغَنِّي:
– “قِنْطَار فُول مَبْذُور مِنْ عَكَّا لَإِسْتَنْبُول”، “وغَطَا أُمِّي رقُوم رقُوم، مِنْ غَزِّة لَوَادِي الرُّوم”.
هِلِّي وطُلِّي يَا نُجُوم نُجُوم، يَا هَالَة أُسْطُورِيَّة يَاعَنَاقِيد النُّور.
تَدَفَّقَتِ الدِّمَاءُ الشَّبَابِيَّةُ فِي عُرُوقِ مَشْبُوب.. تَوَقَّدَتِ الْحَيَوِيَّةُ فِي بُنْيَانِهِ، وَبَدَأَ بِتَنْفِيذِ الْمُغَامَرَةِ الدَّسِمَةِ وَمُهِمَّةِ التَّحَدِّي بَخَطْوٍ مُتَمَهِّلٍ رَشِيقٍ.. فَكَّ الزِّرَّ الْعُلْوِيَّ مِنْ عُرْوَةِ شَرِيطِ الرَّقَبَةِ فِي قُمْبَازِهِ الْقُطْنِيِّ.. شَكَّلَ جَانِبَيْهِ السُّفْلِيَّيْنِ.. رَدَّهُمَا لِلْوَرَاءِ.. وَضَعَ كُلَّ طَرَفٍ تَحْتَ شَمْلَةِ الزُّنَّارِ الَّتِي تَلُفُّ خَصْرَهُ، ثُمَّ طَوَى أَطْرَافَ كُوفِيَّتِهِ خَلْفَ رَقَبَتِهِ.
قَرْفَصَ.. أَمْسَكَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى بِالْوَتَدِ، وَأَمْسَكَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى بِحَجَرٍ كَبِيرٍ، وَبَدَأَ يَدُقُّ بِالْحَجَرِ عَلَى صَلْعَةِ الْوَتَدِ، لِيَغْرِسَهُ فِي الْأَرْضِ بِجَانِبِ قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم، إِلَى أَنْ أَحْسَنَ تَثْبِيتَهُ تَمَامًا، فَارْتَسَمَتْ عَلَى شَفَتَيْهِ ابْتِسَامَةُ انْتِصَارٍ.
لكِن.. حِينَ هَمَّ بالْوُقُوف، تَزَعْزَعَ تَوَازُنُهُ، وَسَمَّرَهُ حِسٌّ خَفِيٌّ فِي مَكَانِهِ!
تَلَاشَتْ بَسْمَتُهُ.. انْقَلَبَتْ سِحْنَتُهُ.. جَعَلَ يُحَاوِلُ النُّهُوضَ وَيُحَاوِلُ.. يُحَاوِلُ ويُعَافِرُ وَيَسْقُطُ دُونَ جَدْوَى.. تَمَلَّكَهُ الذُّعْرُ.. رَاحَ يُغَالِبُ فَزَعَهُ مُتَرَاخِيًا.. غَمْغَمَ مُزَمْجِرًا.. وَدُونَ وَعْيٍ مِنْهُ انْطَلَقَتِ اسْتِغَاثَاتُهُ.. تَقَهْقَرَ صُرَاخُهُ فِي تَأَوُّهَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ، وَأَنِينٍ مَبْحُوحٍ وَكَلِمَاتٍ مُبْهَمَةٍ:
– اِلْحَقُوووووونِي.. مسكُوووووونِي.. اِلْحَقُوووووونِي.. الْأَمْوَاااات مسكووووني!
وَكُلَّمَا حَاوَلَ الْوُقُوفَ يَسْقُطُ، إِلَى أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ أَخِيرًا، وَهُوَ يَصْرُخُ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ:
– اِلْحَقُوووووونِي.. الْأَمْوَاااات مسكووووني!
فَإذَا بِالْعَتْمَةِ تَتَسَرْبَلُ ضَوْءَ سِرَاجٍ فَجْأَةً، وَتَتَلَقَّفُهُ حَشْرَجَةُ أَبُو زَيْدَان الْتَتَنَاهِى إِلَيْهِ مِنَ الْعُمْقِ الْبَعِيدِ، وَالْأَيَادِي تَتَصَدَّاهُ وَتُمْسِكُ بِهِ، وَهُوَ لَا زَالَ يَصْرُخُ:
– اِلْحَقُوووووونِي.. الْأَمْوَاااات مسكووووني!
مَا هَدَأَ صُرَاخُ مَشْبُوب، وَمَا هَدَأَتِ انْفِجَارَاتُ الْقَهْقَهَاتِ الْغَلِيظَةِ، وَلا هَدَأَتِ اهْتِزَازَاتُ الْأَشْبَاحِ الْتَتَمَايَلُ بِضِحْكَاتٍ هِسْتِيرِيَّةٍ، تُشِيرُ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِهَا، وَالضَّوْءُ لَا يَكْشِفُ إِلَّا جَسَدَ مَشْبُوب.
رَمَاهُم مَشْبُوب بِنَظْرَةٍ زَاجِرَةٍ ضَارِيَةٍ، لَعَنَهُم فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَّةً، وَهُوَ يَحْبِسُ أَنْفَاسَهُ غَيْظًا، فَبَادَرَهُ أَبُو زَيْدَان:
– أَيْنَ شِرْوَالَكَ يَا مَشْبُوب؟ لِمَاذَا خَلَعْتَهُ؟ هَلْ أَمْسَكَ بِكَ الْأَمْوَاتُ؟ هَلْ أَخَذُوا شِرْوَالَك؟
بُهِتَ مَشْبُوب بِالسُّؤَالِ الْمُبَاغِت.. تَوَقَّفَ جَمِيعُهُم عَنِ الضَّحْكِ.. سَادَ جَلَالُ الصَّمْتِ، وَحِينَ نَظَرَ مَشْبُوب إِلِى جُزْئِهِ السُّفْلِيِّ مِنْ جَسَدِهِ، فُوجِئَ حِينَ لَمْ يَرَ شِرْوَالَهُ الْكَانَ يَلْبَسُهُ، فَتَدَارَكَ أَبُو زَيْدَان الْمَوْقِفَ وَقَالَ:
– لِنَمْضِ إِلَى قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم.
مَضَى جَمِيعُهُم إِلَى الْمَوْضِعِ، فَوَجَدُوا الْوَتَدَ مَدْقُوقٌ وَمَغْرُوسٌ فِي الشِّرْوَالِ!
غَالَبَ مَشْبُوب ضِحْكَةً مَرِيرَةً، وَانْتَزَعَ شِرْوَالَهُ مِنْ بَيْنِ أَنْيَابِ الْوَتَدِ الْمَغْرُوسِ.. لَبِسَهُ وَهُوَ يَشْتُمُهُم بِكَلِمَاتٍ بَذِيئَةٍ، وَقَهْقَهَاتُهُم تَعْلُو وَتَعْلُو، فَقَالَ أَبُو زَيْدَان:
– لَقَدْ دَقَقَتْ الْوَتَدَ فِي شِرْوَالِكَ دُونَ انْتِبَاهٍ مِنْكَ يَا مَجْنُون، وَظَنَنْتَ أَنَّ الْأَمْوَاتَ أَمْسَكُوا بِكَ؟
لكِنَّكَ حَقَّا رَجَلٌ يَا مَشْبُوب، وَالْكُلُّ يَشْهَدُ.
وَصَاحُوا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: نَشْهَدُ.. نَعَم.. نَشْهَدُ.
عَادُوا أَدْرَاجَهُم إِلَى بُيُوتِهِم، يَحْتَضِنُونَ مَشْبُوب.. يَضْحَكُونَ.. يَمْرَحُونَ، وَيُضِيفُونَ طُرْفَةً جَمِيلَةً أُخْرَى، يُعَلِّقُونَهَا عَلَى مِشْجَبِ الذِّكْرَيَاتِ.