إضاءَة.. حسين مهنا

لِلزَّجَلِ في مَعاجِمِ اللُّغَةِ العَرِبِيَّةِ – وما أَكْثَرَها! – تَعْريفاتٌ كَثيرَةٌ.. لكِنَّها تُجْمِعُ على أَنَّ الزَّجَلَ هو التَّطْريبُ.. والتَّطريبُ كَما أَفْهَمُهُ أَنا حالَةٌ شُعورِيَّةٌ لا يَعيشُها الإِنسانُ إِلّا بَعْدَ أَنْ يَنْتَشي ويُفْعَمَ صَدْرُهُ بِفَرَحٍ غامِر. إِذًا التَّطْريبُ يُخاطِبُ الحَواسَّ أَوَّلًا ثُمَّ العَقْلَ ثانِيًا.. على هذا بَنَيتُ رَأْيًا شَخْصِيًّا غَيرَ مُلْزِمٍ لِأَحَدٍ، ولا يَعْتَمِدُ على دِراساتٍ مَنْهَجِيَّةٍ أَو نَظَرِيّاتٍ عِلْمِيَّةٍ، بَل على ذائِقَةٍ تقودُني إِلى أَنَّ الزَّجَلَ إِذا خَرَجَ عَنْ دائِرَةِ النَّسيبِ أَو ما يُدَغْدِغُ الوِجْدانَ، يَتَحَوَّلُ إِلى شِعْرٍ عامِّيٍّ يُجاري فِي ضُروبِهِ الشِّعْرَ الفَصيحَ كَأَنْ يَطْرُقَ بابَ المَدْحِ والفَخْرِ والسِّياسَةِ… وما إِلى ذَلكَ. لِهذا لَمْ أَتَطَرَّقْ في إِضاءَتي هذِهِ الى اَبْوابِ ديوانِ (غْمار الفَرَح) لِشاعِرِنا المُبْدِعِ تَوفيق مَسْعودْ حَلَبي الكَثيرَةِ مِثْلِ كَرْمِلِيّات وآراء وأَفْكار ومُناسَبات وِحِوارات وَغَيْرِها، تارِكًا إِيّاها للِنُّقادِ الأَجِلّاءِ؛ مُكْتَفِيًا بِعَيِّناتٍ مِنْ غَزَلِيّاتِ الشّاعِرِ الرّاقِيَةِ بِحِسِّها ونَصِّها.

أَعودُ فَأَقولُ: حينَ أَنْشَدَ رَشيد نَخْلة شيخُ الزَّجَلِ اللُّبناني كَما عَرَّفَهُ الأَديب الكبير مارون عَبّود:

قَلْبي وعيني ضْعافْ مِنْ غير شِي

وبْكلْ يومْ عَمْ يِفْتَحو وَرْشِي

العين تِعْشَقْ كلْ ما شافَتْ

والقَلْبْ لاحِقْها على الطَّحْشِي

أَرادَ أَنْ يُؤَكِّدَ عَلى أَنَّ العَينَ والقَلْبَ هُما العُضْوانِ الأَساسِيّانِ عِنْدَ الزَّجّالِ النّابِهِ، بِدَليلِ أَنَّ العَينَ تَصْطادُ الجَمالَ وَما عَلى القَلْبِ إِلّا اللَّحاقَ بِها طائِعًا راضِيًا، فَيَأْتي الشِّعْرُ فِطْرِيًّا صادِقًا راِئِقًا لا صَناعَةَ فيه. وقَدْ نَعْتَمِدُ قَولَ الشّاعِرِ صاحبِ الصَّولاتِ والجَولاتِ في دُنْيا الزَّجَلِ المرحومِ زين شعيب إِذْ رِأَى حَسْناءَ تَحْمِلُ شَمْسِيَّةً في يَومٍ قائِظٍ فَقالَ:

مِدِّي إِيدِكْ تِلْمِسْ لَمْسْ

تِحيي المَيِّتْ مِن الرَّمْسْ

حْرَقْتي دين الشَّمسِيّهْ

فَوقا شَمْسْ وتَحتا شَمْسْ

وسَأَلَ أَحَدُ الشُّعَراءِ عنْ سَبَبِ الوَرَمِ الَّذي أَصابَ شَفَـَتَي حَسْناءَ فَأَجابَتْهُ: إِنَّهُ بِسَبَبِ لَسْعَةِ نَحْلَةٍ.. وتابَعَتْ: يَبْدو أَنَّ في شَفَتَيَّ عَسَلًا.. فَقالَ:

هَالنَّحْلِه يخْرِبْ ذوقا

شو مَهْضومِه وعَيّوقا

مِشْ رَحْ أَحكُمْ عَ شْفافِكْ

تَ أَعْقُصْها وأَذوقا

أُجْمِلُ َفَأَقولُ: قَصيدَةُ الزَّجَلِ الَّتي لا تَنِمُّ عَن ذَكاءٍ فِطْرِيٍّ وعَنْ سُرْعَةِ خاطِرٍ، وصُوَرٍ شِعْرِيَّةٍ مُبْتَكَرَةٍ، وقَفْلَةٍ مُفاجِئَةٍ تَسْقُطُ في خانَةِ النَّظْمِ العادِيِّ الخالي مِنَ الرَّعْشَةِ الَّتي نَبْحَثُ عَنْها في كُلِّ قَصيدَةٍ، بَلْهَ كُلَّ عَمَلٍ أَدَبِيٍّ.

*****

تِلْكَ المُواصَفاتُ نَسْتَشِفُّها في زَجَلِيّاتِ الشّاعِرِ المُبْدِعِ تَوفيق مَسْعود حَلَبي، فَهو شاعِرٌ مَطْبوعٌ وذو تَجْرِبَةٍ غَنِيَّةٍ في الشِّعْر.. أَصْدَرَ مَجْموعَتَهُ الأولى (غمار الفَرح) مُؤَخَّرًا فَجاءَتْ شاهِدًا على تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَواتِهِ الشِّعْرِيَّةِ وعلى ثَقَافَتِهِ الواسٍعَةِ وعَلى صِدْقِ تَجْرِبَتِهِ.. فَفي بابِ (باقَة غَزَل) نَقْرَأُ المَقْطوعَةَ التّالِيَةَ تَحْتَ اسم (ضَغِط دَم ص56):

وبِالقِسِمْ لَمّا كُنِتْ ماشي هَرْوَلي

مَطْرَحْ مَ غَفَّى اللَّيلْ زِرْ قْرُنْفُلي

نادَتْ إِلي بِيصوتْ ناعِمْ مُخْمَلي

تَوفيقْ قَلْبي انْضَغَطْ عَمْ يِغْلي غَلي

قُلْتِلْها دَخْلِ الوَجَعْ يَ مْدَلَّلي

لا تِفْزَعي بْزيلِ الضَّغِطْ لا تِزْعَلي

وْمَ لْحِقِتْ كَشِّفْ عَ الإِدينْ النّاعْمينْ

تَصارْ يِنْزَلْ ضَغْطِها وضَغْطي عِلي.

ما أَجْمَلَ ما أَبْدَعَ شاعِرُنا في هَذِهِ المَقْطوعَةِ الشِّعْرِيَّةِ الَّتي تَعْتَمِدُ على مُفارَقَةٍ تَحْمِلُ في طَيّاتِها مُفاجَأَةً لَمْ نَكُنْ نَتَوَقَّعُها، إِذْ جاءَتْ بَعْدَ لَحْظَةِ صِراعٍ اعْتَرَتِ الشَّاعِرَ بَينَ التِزامِهِ بِشَرَفِ المِهْنَةِ كَمُمَرِّضٍ في المُسْتَشْفى حيثُ يَجِبُ عَلَيهِ التَّعامُلُ مَعَ مَرْضاهُ بِقَلْبٍ شَمْعِيٍّ لا مَكانَ فيهِ إِلّا لِلرَّحْمَةِ، وبَينَ كَونِهِ إِنْسانًا أَوَّلًا، وشاعِرًا لَمَّاحًا ثانِيًا. ولَكِنْ ما إِنْ وَقَفَ أَمامَ تِلْكَ الحَسْناءِ وكَشَفَ (عَنْ الإِدينْ النّاعْمينْ) حَتّى تَنَفَّضَ قَلْبُ الشّاعِرِ وعادَ إِلى سَجِيّتِهِ الأُولى مُنْتَصِرًا عَلى شَمْعِيَّتِهِ، بِدَليلِ أَنَّ ضَغْطَ الحَسْناءِ بَدَأً بِالنُّزولِ وضَغْطَ الشّاعِرِ بَدَأَ بالارْتِفاع. وحَقيقَةً بِدونِ تَبادُلِ الأَدوارِ هذا لَكانَتْ المَقْطوعَةُ الشِّعْرِيَّةُ مُجَرَّدَ صورَةٍ فوتوغرافِيَّةٍ لا غَير.

ومِنَ القَصائِدِ المُلْفِتَةِ لِلْعَينِ ولِلْقَلبِ مَعًا، قَصيدَةُ (قيثارة ص44) يَقول:

شَعْرِكْ سَنابِلْ ذَهَبْ وِمْعَلَّقَه تَعْليقْ

فِهُنْ تْحَرْكَشْ هَوايي وْجَنْ إِعْصاري

ويَخْتِمْ شاعِرُنا رَائِعَتَهُ:

وْمِنْ بَعِدْ لَيْلِةْ سَهَرْ بِجْوارِكِ وتَحْليقْ

وْزَخِّ المَعاني غَزَلْ مِنْ غَيمْ أَفْكاري

احْمَرُّو خِدودِكْ خَجَلْ وِتْعَرَّقو تَعْريقْ

لا تْروحْ قُلْتي: دَخيلَكْ ظَلْ بِجْواري

روحي قِيثارَهْ على إيديكْ يا تَوفيقْ

وْمَ لْقيتْ غَيرَكْ حَدَا يِعْزِفْ عَ اَوتاري

لَقَدْ أَبْدَعَ شاعِرُنا بِقَولِهِ (تْحَرْكَشْ) و(زَخِّ المَعاني) و(غَيم أَفْكاري)و(روحي قيثارة) لِما تَحْمِلُهُ مِنْ صُوَرٍ شِعْرِيَّةٍ واسْتِعاراتٍ مُبْتَكَرَةٍ – ونَجِدُ مِثْلَها الكَثيرَ في قَصائِدِ الدّيوان-  والَّتي تَروقُ لِلْقارِئِ إِذا قَرَأَ، ولِلسّامِعِ إِذا سَمِع.

وَفي حُب وَإِرهاب (ص 59) يَقولُ مُداعِبًا:

قالَتْ لي: الإِرهابْ حارِمْني السَّمَرْ

وْما عادْ قَلْبي فيكْ يِهْنَى وْيِنْغَمَرْ

قُلْتِلِّها بَدّي اهْديكي قُنْبِلِه

مَحْذوفْ مِنْها النّونْ يا قَمَرْ

ومِنْ قَصيدَةِ (بين القُبْلِه والقُبْلِه ص62) يَقولُ:

كيفْ بَدُّو المَلْقى يْطِبْلي     مِنْ بَعْدِ فْراقْ

وْبينِ   القُبلي  والقُبْلي      شْفافي بْتِشْتاق

لَنْ أَقولَ اكْتُبْ يا شاعِرَنا الجَميلَ بَلْ سَأَقولُ لا تَحْرِمْنا مِن هذا الشِّعْرِ الَّذي يُخاطِبُ القَلْبَ والفِكْرَ، ويَرْشُقُنا بِدَفْقَةٍ مِنْ فَرَحٍ في زَمَنٍ نَعيشُهُ كَثُرَتْ فيهِ أَتْراحُهُ، وقَلَّتْ أَفْراحُه. وكَلِمَتي الأَخيرَةُ أَقولُها هَمْسًا: لَقَدْ أَفَضْتَ في التَّعبيرِ عَنْ تَقْديرِكَ وإِعْزازِكَ بِزُمَلائِكَ الشُّعَراءِ الَّذينَ جالَسْتَهُمْ وَحاوَرْتَهُمْ، وَمِنْ حَقِّكَ عَلَيهِم أَنْ يُبادِلوكَ تَقْديرًا بِتَقْديرٍ، وإِعْزازًا بِإِعْزاز.

 

البقيعة/تَمَّ في 3/5//2022

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .