النص الأدبي الجميل لا يقتصر على جنس أدبي بعينه، فأي جنس/نوع أدبي يقدم بلغة وبطريقة جيدة فهو مقبول من المتلقي، وعندما يأتي الأدب بلغة ناعمة وبأسلوب سلس بالتأكيد سيجذب القارئ، من هنا نجد أدباء يقدمون أنفسهم كما هم، فيكتبون كما يريدون، فهم يرون أنفسهم بالنوع الأدبي الذي يتقنونه، فيأتي النص ممزوجا بين العاطفة والقدرة الأدبية، وهذا ما يقنع المتلقي بأنه أمام مادة أدبية حية، نابعة من داخل الأديب/الكاتب، هذا ما نجده في كتاب “همسات وتغاريد” فهناك نصوص نثرية صيغة بلغة ناعمة، وتشعرنا بأنها لم تكتب بقلم الكاتبة بل من قلبها، لهذا نجد النصوص تلتقي مواضيعها مع بعضها وكذلك الألفاظ.
في سبيل المثل جاء في “دموع الأسرار”: “…هب الحياة يا صديقي، دمعة صادقة على محطة الانتظار، أنا لا أكرهك يا خريف لكن عاصفتك هوجاء وصفير قاطرتك خطير خطير” ص13، نلاحظ أن هناك حالة من الخريفية تعانيها لكاتبة، فهي تستخدم ألفاظ شديدة: “دمعة، الانتظار، أكرهك، خريف، عاصفتك، هوجاء، وصفير، خطير (مكررة)” فبعض هذه الألفاظ نجدها في “أسرار دمعات عاتبة” التي تقول فيها: “أوراق الخريف لا تزعجني بتناثرها، بل تمهدني لفتر جميلة من عراء الباطل وبزوغ فجر الحرية” ص15، فهناك تلاقي في العنوان “الأسرار/أسرار” وكما نجد تأثر الكاتبة بحالة الخريف من خلال: ” أوراق الخريف بتناثرها” وهذا استمرار للحالة الأولى التي جاءت في النص السابق.
وعندما نتقدم في الكتاب نجد النص التالي بهذا العنوان: “خريف في مشاعر” والذي جاء فيه: “ورقة الخريف بمطر موسمي، ورائحة تراب شهية وحفيف، وكان صفير بنكهة الريح ينبئ بقدوم عاصفة تتراجم عاطفة الازدحام وتهمس: الخريف أشد الفصول ازدحاما بصفير الأوراق، وعشق خلوة المكان، فتناثري وتناثري فتناثرك مبعث آخر للأمل” ص18، هذا التركيز على “الخريف” وما فيه يؤكد أن الكاتبة تكتب مشاعرها، تكتب ما تحس به، فتكرارها “تناثري” ثلاث مرات، يشير إلى حجم الضغط الواقع عليها، ومن ثم سيجد القارئ (مبررا) لهذا القاموس اللغوي (المحدود) والمتعلق بالخريف.
وتقول في “ريشة وخريف”: “حجر وخريف ومشاعر تشدني إلى الوراء، ثم إلى الأمام، بعدها تتطاير وتصب في ريشتي لتلهو حيث كنت يجب أن ألهو” ص71، من هنا، يمكننا القول أن النصوص لم تكتب إلا بعد أن نضجت في رحم الكاتبة، لهذا نجدها محددة/متعلقة بحالة الألم، بحالة الخريف الذي نراه حاضرا وبقوة في النصوص، وهذا ما أكدته الكاتبة في أخر نص “شرود حرف” والذي جاء في آخر فقرة فيه: “كل الطيور المهاجرة يا أمي تبشر بخريف قادم، رغم ربيع في الروح جميل” ص73.
ولم يقتصر تناول الخريف الطرح المباشر، فهناك صيغ أخرى قدم بها، كما هو الحال في “همسة غائمة” التي جاء فيها: ” استيقظت وفي جعبتي كلام، أودعته بحر أحلامي، فأخذني لأعوام هناك رغم البرد الشديد والريح العاتية الكافرة بشمس تشرين” ص35، فالخريف نجده في: “البرد الشديد والريح العاتية، تشرين” وهذا ما يجعل النصوص بغالبيتها تتحدث عن حالة غير مستقرة، عن حالة صراع.
الأديب/ة الجيد هو الذي يقدم مادة قاسية بلغة ناعمة، توصل الفكرة، لكن بأقل لأضرار النفسية عل المتلقي، وهذا ما فعلته “عدلة شداد خشيبون” في “همسات تغاريد” فهناك لغة وصور أدبية تزيل/تمحو القسوة الكامنة في الفكرة/المضمون، فعلى سبيل المثل تقول في: “حكاية دمعة” “صديقتي.. خذي من طحين محبتك حفنة، من عرق جبينك، خذي قليلا، من دموع اشتياقك دمعة، والملح خذيه من الدمعة ذاتها، اعجني شوق الغياب واجعليه يتخمر من حرارة محبتك واخبزيه، وإياك أن تأكليه حارا بل اجعليه يبرد وتناوليه بعد أن تغمسيه بزيت انتظارك” ص11، المزج بين المشاعر والخبز يشير إلى أن هناك زخم من المشاعر يراد تقديمها/التعبير عنها، فعندما تناولت الكاتبة عملية اعداد الخبز والتي تبدأ بأعداد الطحين والماء، ثم العجن، التخمر، ثم الخبيز والأكل، وعندما مزجته بالعرق، بالدمع، ب”شوق”، ب”المحبة” يأخذنا إلى أن هناك حالة/حاجة الملحة للتفريغ، وبما أن هناك حاجات مادية، الحاجة إلى الطعام، وحاجات روحية/عاطفية، المشاعر، فإن هذا يشير إلى تكامل حاجة الإنسان المادية والعاطفية، بمعنى أنه كائن بشري، له احتياجات لا بد أن تلبى، وهذا ما أكدته الكاتبة حينا قدمت عاطفتها/مشاعرها بصورة ظاهرة “عرق/ دمع” وصورة خفية/باطنية “اشتياقك، شوق، محبتك، انتظارك”.
الكتاب من منشورات دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2020