ظرف زمان
لماذا وقف الترمس مذهولاً بنظرة صامتة مستطلعة ضاحكًا ملء فاهه وسط الشارع؟
عُرف عن الترمس بأنّه لص ماهر وظريف. لم يسرق أبدًا من الفقراء والمحتاجين، بل على العكس، كان يساعدهم.
قبل شهر سرق كلبًا من نوع الدوبرمان غالي الثمن وصار يتنزّه معه يوميًّا في ساعات محدّدة لكي يقضي حاجته خارج البيت.
كان الوقت عصرًا وهو يتجوّل مع كلبه بجانب بيته حين دنا منه فتى وقال له بأدب وبنوع من المسكنة وبصوت منخفض: عمو فرغت بطارية هاتفي المحمول وعليّ أن أتصل بوالدتي كي تأتي وتصحبني إلى البيت. هل تسمح لي باستعمال هاتفك للاتصال بها؟ لم يتفوه الترمس بكلمة، أجابه بصوت تخنقه العبرات: تفضل… ناوله الهاتف وعاد لمداعبة كلبه حتّى يفرغ الفتى من المكالمة.
سار الفتى ذهابًا وايابًا متكلما بالهاتف، ثمّ ابتعد بضع خطوات دون أن يلاحظ الترمس ذلك، وعندما أصبح على مسافة آمنة، هرب الفتى بالهاتف واختفى.
لاحظ الترمس هروبه فوقف مذهولا للحظات، كان واثقًا به كل الوثوق، ثمّ انفجر بالضحك، قائلاً في نفسه: لكل فارس كبوة، ويا للطعنة النجلاء التي سددها لي هذا الفتى.
ظرف انسان
أعاد الترمس كلبه إلى البيت، ثم توجّه إلى طبيب الأسنان لاهثا من نصب ووصب ذلك السارق، ودخل إلى الطبيب مضطرب الخدين براق العينين والبسمة تعلو وجهه، فقال له الطبيب:
لا بدّ أنك توفقت اليوم بسرقة مثيرة…
أجابه الترمس ضاحكًا:
على العكس تمامًا، فقد سرقوني، وها أنا أجر ورائي أذيال الفشل. والأغرب من ذلك أن الذي سرقني فتى صغير “عيني عينك”…
ثمّ روى الترمس للطبيب القصة. ضحك الطبيب ونوع من السعادة ألهب فؤاده وقال:
عندي قصة لصوصية أظرف من قصتك.
هات ما عندك.
اليوم أخذت استراحة من العمل وخرجت إلى الباحة أمام العيادة لأدخن سيجارة، وفي نفس الوقت خرج جاري وهو أيضًا طبيب أسنان لنفس الغرض، فجلسنا ندخن ونتناول أطراف الحديث، فقال لي: لن تصدق ما حدث معي اليوم؟ فقد جاءني شاب وطلب مني أن اقلع له ضرسه وسألني كم يكلف ذلك. فقلت له “300 شاقل”، فقال إن هذا مبلغ كبير، فأخبرته ان إبرة البنج وحدها تكلف مبلغًا كبيرًا، وانت بحاجة إلى اثنتين حتّى أقلع الضرس دون آلام، فقال لي اقلع الضرس دون البنج، فأخبرته بأن الأمر مستحيل لأنّك ستشعر بألم كبير. لكنّه أصرّ على ذلك. اندهشت منه وقلت له: إذا تحملت الألم سأقلع لك الضرس مجانًا، فوافق وقمت بقلع الضرس بقوّة وأنا أنتظر في كل لحظة أن يصرخ. أكملت المهمة دون أن ينبس الشاب ببنت شفة وخرج من عندي شاكرًا، وطبعًا لم آخذ منه أجري كما وعدته.
نظرت إلى زميلي الطبيب وقلت مستغربًا:
اوصف لي هذا الشاب.
فقال وهو ما زال مندهشًا: يطلق على نفسه اسم التركي وهو مصاب بشلل الأطفال ويسير على عكازين.
كدت أخرّ على الأرض ساجدًا من الضحك… فسألني الزميل باندهاش:
ماذا بك؟
لن تصدق ما حدث معي، هذا الشاب نفسه جعل للناس في شخصنا مغمزا وهزأة، حضر إليّ قبل أن يأتي إليك وطلب مني أن اقلع له ضرسه، فقلت له انتظر ريثما انتهي من الزبون الذي لدي، لكنه طلب مني أن اقوم بتخديره قبل أن أنهي علاجي للزبون، نظرت إلى حاله وأشفقت عليه وقمت بما طلب وأعطيته إبرتين من البنج وعدت إلى زبوني وعندما انتهيت من الزبون، خرجت ولم أجده.
ظرف مكان
ضحك الترمس والطبيب على قصة التركي اللص، ثم قال الترمس للطبيب:
هل تصدّق يا دكتور بأن هذا التركي رغم عاهته الظاهرة للعيان، إلا أنّه من اللصوص الأذكياء، ولولا عاهته، لكان من الأغنياء.
هل تعرفه من قبل؟
بالطبع أعرفه وسرقاته بسيطة، لكنها تنمّ عن أفكار ذكية.
مثل ماذا؟
تم القبض عليه مع مسروقات وقام القاضي بتبرئته.
وكيف كان ذلك؟
وجدوا مسروقات في بيته وكان من بينها جهاز تلفزيون قديم وثقيل جدًّا، ولدى مثوله أمام القاضي، قال له القاضي وضوء خفاق ينبثق متأجّجًا من ناظريه: إذا أخبرتني كيف سرقت التلفزيون وأنزلته من الطابق الرابع وأنت لا تقوى حتى على السير بدون العكازين سأطلق سراحك… وكان القاضي سيطلق سراحه بالأساس، عندها، قال التركي دون ان يطغى عليه شعور بالخجل والحياء: إن الأمر بسيط جدًّا يا سعادة القاضي، كنت قد عاينت البيت وتأكدت من خلوه من سكانه، فأحضرت عربة وأوقفتها بالأسفل أمام البيت، وأخذت أنتظر، وما هي إلا دقائق، حتى حضر شابان من قرية مجاورة، فطلبت منهما بكل لطف ومسكنة، بأن يحضرا لي التلفزيون لآخذه للتصليح، فنظر الشابان إلى حالتي وعيناهما القويتان خبت وقدتهما، فشفقا عليّ، ثمّ صعدا إلى البيت وأحضرا لي التلفزيون، فاعتذرت منهما وذهبا إلى حال سبيلهما.
مظروف
دهش الطبيب من القصة وقال للترمس:
هل سرقت يا ترمس بيتًا من قبل كما فعل التركي؟
بالطبع، لكنني عندما قمت بذلك جعلت البيت نظيفا من كلّ شيء، ولم يقتصر الأمر على التلفزيون فقط.
كيف ذلك، فهذه النوعية من السرقات تحتاج لوقت أطول، حتى يتم تفريغ جميع محتويات البيت.
أحنى الترمس رأسه قليلا ثم قال ووجهه يطفح بشرا:
سأروي لك القصّة كاملة. في صباح أحد الأيام، خرج عجوز ثري من بيته إلى بقالة الحي، فلم يجد سيّارته الفاخرة التي ركنها أمام بيته، فأيقن أنّها سرقت، فلم يهتم كثيرًا لأنّه يعلم جيّدًا بأنّ شركة التأمين ستعيد له ثمن السيارة. بعد الظهيرة، خرج العجوز مرّة أخرى لبقالة الحي، وكانت المفاجأة أنّه رأى سيارته في نفس المكان الذي ركنها فيه بالأمس. فتح السيارة فوجد بها مظروفًا وبداخله رسالة، كُتب فيها ما يلي: “آسف عزيزي صاحب السيارة لقد خرجت في الصباح الباكر أبحث عن سيارة أجرة تقلني أنا وزوجتي الحامل التي أوشكت على الولادة. تأخرت سيارة الأجرة وزوجتي تصرخ فلم أجد وسيلة سوى اقتحام سيارتك لأنقل زوجتي بسرعة إلى المستشفى وليجر ما هو مقدر وليكن ما يكن، وهي الآن ترقد وطفلها بسلام. شكرًا لك كثيرًا وآسف جدًا، وعرفانًا منّي، تركت لك في داخل هذا المظروف بطاقتين لعرض السيرك الذي سيقام غدا في مركز المدينة، فقد سعدت أنا وزوجتي فلتسعد انت وزوجتك بهذا العرض”.
فرح العجوز جدًّا بالبطاقتين واستأثر بلبه الفضول وفرح أكثر بأنّه كان سببًا في إنقاذ زوجة الرجل وأسرع عائدًا إلى زوجته ليخبرها بالقصة. فاسكرها وأفعم قلبها بهجة. لم يكذّب العجوز خبرًا، اصطحب زوجته ليشاهدا عرض السيرك. وفي طريق العودة عرجا على مقهى ليحتسيا مشروبا ساخنا. عندما وصلا بيتهم في ساعة متأخرة، كانت المفاجأة أن البيت كان فارغًا تمامًا من محتوياته.