رسالة خاصة للأجداد والجّدات.
بقلم: شهربان معدّي.
“جدّي، معلّمي الأول.. الذي غرس في كياني محبة اللغة العربية.. وحكاياته الجميلة، كانت البذرة الأُولى التي زرعت في وجداني، حُبّ الأبجدية.. واحترام الإنسان”
أعوامًا كثيرة مضت.. ولكن ما زالت هذه الذكريات تغفو على وسادتي، كطفلة صغيرة، وتدغدغ مخيلتي، كنسمة صيف عابرة، تحملها ريح الشّمال.. وتكبر بحجم أيامي التي رحلت وبحجم حنيني الكبير اليها.. ليتني أغمض عيناي ولو لبرهة، لأعود لبيته القديم، الذي بناه بسواعد السنديان وعرق الجبين، من حجارة الصوّان المقطوعة من صخر قريتي العريقة؛ المعروفة بكرم أهلها وعنادهم أمام عواصف الزمان، وكم أنا مشتاقةٌ لغرفته القبليّة، التي كان ينتقل إليها هو وجدتي، كلّ شتاء، هربًا من لفحات البرد القارس وصقيع كوانين، وما زالت تزكم أنفي رائحة الفِراش الصوفيّ السميك ومساند القشّ الصغيرة، الملوّنة، التي كنّا نبني منها بيوتًا وقصورًا، رغم تأفف جدتي، وتذمرها.. وتتأرجح في مخيلتي، صورة جدّي الملّتف بعباءته الكشمير، الجالس في الزاوية الصغيرة، بجانب شبّاك السّر، يعتمر لفّته النّاصعة البياض، والتي لم تكن تبارح رأسه إلاّ ساعات النوم، إيه يا جدّي، ليتني أحظى ولو بقيلولة قصيرة بين طيات عباءتك الخشنة المنسوجة من خيوط الصبر والجلادة، المرصّعة بجواهر الحكمة، المطرّزة بسحر البيان..
جدّي لم يدخل أي مدرسة، ولم يحظ بأي لقب، ولكنه حفظ الكثير من كنوز الحكمة الشريفة عن ظهر قلب، في طيّات صدره الطاهر، خبّأها.. وبروح إيمانه العميق، صانها.. وحدث ذلك، بفضل أخته الوحيدة، سعّدى، التي علّمته أن يفكّ الحرف، على ضوء سراج خافت، بواسطة لوح من الصفيح، وطبشور من محرقة القرية التي كانوا يستخرجون منها الكلس، كي يرشقوا به حيطان بيوتهم الطينيّة عندما كان يُهاجمهم البق والبراغيث، أو على أبواب الأعياد، وكان يحدث كلّ ذلك؟ وفق الحاجة..
وكان رجلًا عصاميًا، واكب الحكم التركي والانتداب البريطانيّ، وفي أيام الهجيج “النكبة” فتح بيته كسائر أهل قريتي لعائلات النازحين من القُرى المُجاورة التي استضافتهم عدة أشهر، وأجبر أُمي وخالاتي أن يناموا على السّدة، ريثما تنقشع غمامة الحرب، ويعود اللاجئين إلى ديارهم.
حافظ على كلّ شبر وفتر من أرضه، وفي زمن الأتراك؟ أُجبر أسوة بسائر شباب القرية، أن ينضم للجيش التركيّ في حملة السفربرك؛ التي كان الذاهب اليها مفقود والعائد منها مولود، ولكن كتبت له حياة جديدة، عندما هرب مع صديقه مشّيًا على الأقدام، من بلاد الأناضول، قافلاً لمسقط رأسه، وفي هذه الرحلة المُضنية، عانى من الجوع والعطش، وتعرض للسرقة والضرب من قِبل قطّاع طرق، ولاحقه الدَرَكْ التركيّ كباقي الفرارية، الذين كانوا يختبئون في الجبال الوعرة، بعيدًا عن أهلهم وعوائلهم، لطالما حدثني عن تلك الفترة العصيبة، وعن الجوع والعطش الشديدين الذي عانوا منه، والذي سبّب له جرح في معدته، رافقه حتى الممات..
قط لن أنسى وجهه الأبيض الجميل، وعيونه السوداء الوسيعة التي كانت تتقد بالذكاء والحكمة والشجاعة، وكنّا نقضي غالبية فصل الشتاء ملتفين حول موقدة الحطب الطينيّة الذي كانت تجتهد جدتي بأن تبقى مشتعلة طيلة النهار، وكل ساعات المساء، خوفًا على أجسادنا الصغيرة من لسعات البرد، وأمراض الشّتاء الذي كان بالنسبة له ولسائر أهل الخير، أيام ربيع “الشتاء ربيع الموحدين” وبالنسبة لنا نحن الصغار؛ أيام أفراح وأعياد وقصص وحكايا وحفنات قضامة وأقراص زلابية مرشوشة بالسكّر..