اعتادَ السَّيِّدُ سَليم الجُلوسَ صَباحًا على الشُّرْفَةِ المُطِلَّةِ على الجِهَةِ الغَرْبِيَّةِ في الطّابِقِ الثّاني في بَيْتِهِ المُكَوَّنِ مِنْ طابِقَين.. لِماذا هَذِهِ الشُّرْفَةُ بِالذّاتِ؟ لِأَنَّها تُشْرِفُ على فَضاءٍ رَحْبٍ حَيثُ لا أَبْنِيَةٌ تَحْجُبُ عَنْ ناظِرَيهِ زَرْقَةَ سماءِ الجَليلِ، ولا خُضْرَةَ رَوابيهِ المُمْتَدَّةِ حَتّى الأُفُق….لا أُجانِبُ الحَقيقَةَ إِنْ قُلْتُ إنَّنا سُجَناءُ عاداتِنا أَو بَعْضِها، فهِي قادِرَةٌ عَلى أَنْ تَجْعَلَ الأُمورَ المُدْهِشَةَ أُمورًا عادِيًّةً لِاعْتِيادِ المَرْءِ عَلَى رُؤيَتِها يَومِيًّا إِنْ كانَتْ لَوحَةً أَو مَنْظَرًا طَبيعِيًّا.. حَتّى ديكورُ المَنْزِلِ لا يَشِذُّ عَنْ هَذِهِ القاعِدَة….. وَهذا ما حَدَثَ لِلسَّيِّدِ سَليم.. فالمُسْتَوطَنَةُ المُقامَةُ على رابِيَةٍ مِنْ أَكْثَرِ أَراضي قَرْيَتِهِ خُصوبَةً.. والَّتي لا تَبْعُدُ عَنْ بَيتِهِ سِوى بِضعِ مِئاتٍ مِنَ الأَمْتارِ هَوائِيًّا، لَمْ تَعُدْ رُؤيَتُها تُثيرُ في داخِلِهِ مَكامِنَ الغَضَبِ الَّذي كانَ يَنْتابُهُ يَومَ كانَ الدَّمُ الحارُّ يَسْري في عُروقِهِ ويَمُدُّهُ بِما يَجْعَلُ الأَمَلَ كَبيرًا وقَريبًا بِعَودَةِ المُحْصَنَةِ السَّبِيَّةِ الى أَهْلِها.. هذا لا يَعْني أَنَّ السَّيِّدَ سَليمًا قَدْ نَسِيَ القَضِيَّةَ واسْتَسْلَمَ لِواقِعٍ أَليمٍ هُوَ الخِيانَةُ بِعَيْنِها.. ولكِنَّ عُنفُوانَ الشَّبابِ قَدْ خَفَتَ أَجيجُهُ ولَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوى زَفَراتٍ حارَّةٍ، وكَيلِ اللَّعَناتِ على زَمَنِ مُشْرِكينَ…. وَإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيم!
يُجْمِعُ شُيوخُ القَرْيَةِ على أَنَّ هَذِهِ المُسْتَوطَنَةَ قَدْ أُقيمَتْ على رابِيَةٍ اشتُهِرَتْ بِكرومِ تينِها الأَبْيَضِ الشُّحْماني اللَّذيذِ الطَّعْمِ، اَخْضَرَ كانَ أَم يابِسًا.. وأَهْلُ البَلَدِ الّذينَ تَصَدَّوا لِلْمُصادِرينَ بِما أُوتوا مِنْ عَزْمٍ وإِباءٍ يَومَها، قُمِعُوا بِالعِصِيِّ والاعْتِقالاتِ والكِلابِ المُسْتَوْرَدَةِ والمُدَرَّبَةِ على العَضِّ مِنْ دونِ أَنْ تَسيلَ قَطْرَةُ دَمٍ واحِدَةٍ.. ولكِنْ أَكْثَرُ ما يَعْصِرُ قَلْبَ السَّيِّدِ سَليم مِنْ ذِكْرياتِ تِلْكَ الأَيّامِ – وكانوا في مَرْحَلَةِ الدِّراسَةِ الابْتِدائِيَّة – كَيفَ سِيقوا سِخالًا وحُمْلانًا لاسْتِقْبالِ عالي المَقامِ وحاشِيَتِهِ بِرِفْقَةِ الحاكِمِ العَسْكَرِيِّ آنَذاكَ لِحَفْلِ الانْتِهاءِ مِنْ إِقامَةِ المُسْتَوطَنَةِ وتَدْشينِها بِقَصِّ الشَّريطِ الأَحْمَر.. لَكَأَنَّ هُناكَ اتِّفاقًا عالَمِيًّا على أَنْ يَكونَ اللَّونُ الأَحْمَرُ طاغِيًا في حَياةِ البَشَرِ.. فَعَلَمُ العُمّالِ أَحْمَرُ لِكَثْرَةِ ما أُريقَ مِنْ دِمائِهِم.. والسُّجِادَةُ الَّتي تُفْرَشُ لِاسْتِقْبالِ رُؤَساءِ الدُّوَلِ حَمْراء.. وبِذْلَةُ المَحْكومِ بِالإِعدامِ حَمْراء.. حَتّى لِلْمُبالِغينَ في أَقْوالِهِمْ وأَفْعالِهِمْ نَقولُ لَهُمْ: تَعَدَّيتُمُ الخُطوطَ الحَمْراء! ويأْتيكَ مَنْ يَقولُ إِنَّ اللَّونَ الأَحْمَرَ رَمْزٌ لِلانْتِقالِ مِنْ حالٍ إِلى حال.. الانْتِقالِ مِنْ حالَةِ العَدَمِ إِلى حالَةِ الوُجودِ.. وقَدْ قيلَ إِنَّ مِنْ عادَةِ العَروسِ في تُرْكِيّا قَبْلَ أَنْ تُغادِرَ بَيتَ والِدِها، يَقومُ أَقارِبُها الذُّكورُ بِرَبْطِ حِزامِ العُذْرِيَّةِ الأَحْمَرِ حَولَ خَصْرِها، إِذْ يَدُلُّ هذا اللَّونُ على الحَظِّ والنَّشاطِ الجِنْسِيِّ والسَّعادَة..
يَعودُ السَّيِّدُ سَليم إِلى ذِكْرَياتِهِ بَعْدَ شُرودٍ، فَيَرى نَفْسَهُ واحِدًا مِنْ عَشَراتِ الطُّلّابِ يَسيرونَ خَلْفَ المَوكِبِ بِاتِّجاهِ المُسْتَوطَنَةِ.. وقَبْلَ أَنْ يَقُصَّ عالي المَقامِ الشَّريطَ، تَرَكَ مَحْمودُ العَلي طابورَ التَّلاميذِ ورَكَضَ بِفَحَجاتِهِ القَصيرَةِ السَّريعَةِ نَحْوَ شَجَرَةِ تينٍ ليسَتْ بَعيدَةً عَنِ الموكِبِ صائِحًا: هَذِهِ أَرْضُنا.. وهذِهِ تينَتُنا الشُّحْمانِيَّةُ.. تَعالَوا لِنَأْكُلَ مِنْ أَكْوازِها اللَّذيذَةِ.. وقَبْلَ أَنْ يُفَكِّروا بِاللَّحاقِ بِهْ، انْقَضَّ عَلَيهِ جُنْدِيٌّ وجَرَّهُ جَرًّا وبِفَظاظَةٍ نَكْراءَ غَيرَ عابِئٍ بِصُراخِهِ وشَتائِمِهِ الجَريئًةِ وتَهْديداتِهِ، وكَيفَ سَيَأْتي والِدُهُ ويَمْصَعُ لَهُ رَقَبَتَهُ!!
بَعْدَ هَذِهِ الحادِثَةِ أَمَرَ الحاكِمُ العَسْكَريُّ بِقَلْعِ جَميعِ أَشْجارِ التّينِ الباقيةِ، ومَحْوِ كَلِّ أَثَرٍ يَدُلُّ على عُروبَةِ هذهِ الأَرضِ حَتّي لو كانَ رُمَّةً أَو جُمْجُمَةَ حِمارٍ بالِيَة.
لَمْ يَمْضِ كَثيرُ وَقْتٍ حتّى امْتَلَأَتِ المُسْتَوطَنَةُ بِالمُهاجِرينَ المَغارِبَة.. وقَليلًا قَليلًا بَدَأَ الأَمُرُ يُصْبِحُ واقِعًا.. ودَخَلَ المُسْتَوطِنونَ القَرْيَةَ.. كانوا شِبْهَ شَحّاذينَ.. كانوا يَطلُبونَ البُرغُلَ والزَّيتَ والأَرُزَّ والخُضَرَ والحُبوبَ على أَنْواعِها.. وشَعْبُنا المِعْطاءُ يَنْسى الإِساءَةَ أَمامَ نَزَعاتِ الخَيرِ المُتَأَصِّلَةِ في جيناتِهِ.. فَإِنْ صَافَحَ يُصافِحْ بِراحاتٍ بَيضاء.. وإِنْ أَعْطى يُعْطِ بِسَخاء.. ولِذا فَلَيسَ غَريبًا أَنْ يَحْدُثَ استِلطافٌ مَشوبٌ بِشَفَقَةٍ ظاهِرَةٍ تَحَوَّلَتْ إِلى صَداقاتٍ بَينَ أَهْلِ القَرْيَةِ وجيرانِهِمِ الجُدُد، خاصَّةً وأَنَّ هؤُلاءِ لَمْ يَكونوا بَعيدينَ بِعاداتِهِمْ عَنْ عاداتِنا العَرَبِيَّة.. وعَزّى السَّيِّدُ سَليم نَفْسَهُ بِقَولِهِ إِنَّ الإِنْسانَ يَظَلُّ أَخا الإِنْسانِ.. وأَصْبَحَ هَمُّهُ أَنْ يَتَعَرَّفَ على صاحَبِ البَيتِ المُقامِ على أَرْضِهِ.. وهْوَ يَعْلَمُ عِلْمَ اليَقينِ أَنَّها خُطْوَةٌ بائِسَةٌ وقاسِةٌ يَخْطوها.. لَكِنَّها – وهذا ما اعْتَقَدَهُ – تَظَلُّ ذاكَ الخَيطَ الواهي الَّذي يُوصِلُهُ بِتُرابٍ يَعْبَقُ بِرائِحَةِ الآباءِ والأَجْداد.. وبِزِيارَةٍ أَشْبَهُ بِالمُغامَرَةِ مِنَ السَّيِّدِ سَليم الى المُسْتَوطَنَةِ تَعَرَّفَ على السَّيِّدِ شْلومو المُقيمِ على أَرْضِهِ.. ولِدَهْشَتِهِ لمْ يَكُنِ الرَّجُلُ عِدائِيًّا.. لا بَلْ حادَثَهُ بِالعَرَبِيّةِ المَغْرِبِيَّةِ، وعَرَضَ عَلَيهِ كوبَ ماءٍ بارِد.. على كوبِ الماءِ البارِدِ هذا بَدَأَ التَّعارُفُ دافِئًا.. وبِتَبادُلِ الزِّياراتِ أَصْبَحَ صَداقَةً..
كانَ السَّيِّدُ سليم كُلَّما زارَ صَديقَهُ شْلومو يَأْخُذُ مَعَهُ (تيرموس) مَليئًا بِالقَهْوَةِ العَرَبِيَّةِ وسَفَطًا مِنَ الحَلْوى الشَّرْقِيَّةِ.. فَيَأْكُلانِ الحَلوى، ويَشْرَبانِ القَهْوَةَ العَرَبِيَّةَ المُهُيَّلَةَ، ويَتَمازَحانِ ويَتَحادَثانِ في كَثيرٍ مِنَ الأُمورِ، حَتّى في السِّياسِيَّةِ مِنْها.. والحَقُّ يُقالُ، فَقَدْ كانَ السَّيِّدُ شْلومو رَجُلًا واقِعِيَّا.. كانَ يَعْرِفُ كَيفَ يُحافِظُ على إِنْسانِيَّتِهِ في دَولَةٍ ميزانُ عَدالَتِها إِمّا أَنْ يَكونَ عاطِلًا، وإِمّا أَنْ يَكونَ مائِلًا.. قالَ لِلسَّيِّدِ سَليم مَرَّةً: قيلَ لَنا تَعالَوا إِلى دَولَتِكُمْ.. دَولَةِ اليهود.. بِعْنا بُيوتَنا وتَرَكْنا أَيّامًا جَميلَةً هُناكَ وجِئْنا إِلى هُنا.. أَتَدْري؟ … أَنا يَهوديٌّ عَرَبِيٌّ.. وحَنيني إِلى بَيتي وجيراني (أَبو بكر وناجي وعمران) حَنينُ الأَخِ إِلى أَخيهِ! …أُحِبُّ أَغاني فَريد الأَطْرَشِ.. وزَوجَتي تُرَنِّمُ أَغاني أُمْ كُلْثوم بِصَوتِها العَذْب.. أَنا لَسْتُ سَعيدًا في دَولَةِ اليَهود هذهِ.. سَعادَتي دَفَنْتُها هُناكَ حيثُ لا حُروبٌ ولا كَراهِيَةٌ ولا قَلَقٌ يَنْهَشُ أَعْصابَكَ.. لِي وَلَدٌ في الخِدْمَةِ العَسْكَرِيَّةِ، وإِنْ كانَ قَدْ نَجا مِنْ حَرْبٍ سابِقَةٍ فَمَنْ يَدْري إِنْ كانَ سَيَنْجو مِنْ حَربٍ قادِمَة؟! حَتّى إِذا نَجا مِنَ المَوتِ فَأَنا أُريدُهُ أَنْ يَعودَ لِوالِدَتِهِ ماشِيًا على قَدَمَيهِ لا عاجِزًا على كُرْسيِّ المُعاقين! أَعْقَبَ حَديثَهُ هذا بِزَفْرَةٍ جَعَلَتْ السَّيِّدَ(سَليم) يُصَدِّقُ كُلَّ كَلِمَةٍ بَلْ كُلَّ حَرْفٍ نَطَقَ بِهِ السَّيِّدُ شلومو..
وفي مَرَّةٍ أُخْرى سَأَلَهُ: أَراكَ يا صَديقي في كُلِّ مَرَّةٍ تَأْتي لِتَزورَني تُحْضِرُ القَهْوَةَ والحَلْوى مَعَكَ، والمَفْروضُ وأَنْتَ في بَيتي أَنْ تَشْرَبَ قَهْوَتي!
تَبَسَّمَ السَّيدُ سَليم بَسْمَةً ذاتَ مَعْنىً، قالَ: القَهْوَةُ في أَعْرافِنا العَرَبِيَّةِ تَكونُ على المُضيفِ لا على الَضَّيف!
رَدَّ السَّيِّدُ شلومو قائِلَا: ولَكِنْ أَنْتَ في بَيتي!
تَبَسَّمَ السَّيِّدُ سَليم بَسْمَةَ مَنْ يَحْمِلُ في صَدْرِهِ جُرْحًا نَغِرًا، قالَ مازِحًا- وقَدْ يَكونُ المُزاحُ أَشَدَّ إِيلامًا مِنَ الجِدِّ-: صَحيحٌ أَنا في بَيتِكَ، ولكْنْ تَظَلُّ أَنْتَ الضَّيفَ، وأَظَلُّ أَنا المُضيف!!
- وأَنا أَفْهَمُكَ يا صَديقي ولكِنْ…..
قالَها السَّيِّدُ شلومو بِلَهْجَةِ مَنْ ارتَكَبَ إِثْمًا لا تَوبَةَ تُقْبَلُ فيهِ ولا غُفْران!
(البقيعة – الجليل/ تمّت في 22/1/9)