زرت موسكو عام 1984، وفي ساحة الكرملين سألت مواطنا روسيّا باللغة الإنجليزيّة لأستوضح منه عن أمر ما: هل تتكلّم الإنجليزيّة؟
فردّ عليّ دون أن ينتبه لي بإنجليزيّة سليمة: لِمَ لا تتعلّم الرّوسيّة؟
وحدث الشّيء نفسه معي عام 2001 في مطار أورلي في باريس! فردّ عليّ المواطن الفرنسيّ دون أن يلتفت إليّ: لِمَ لا تتعلّم الفرنسيّة؟
تذكّرت هذا أثناء مطالعاتي لكتب في التّراث الشّعبيّ لباحثين عرب، فوجدتهم يجمعون بأنّ العرب لم يهتمّوا بتراثهم الشّعبيّ إلّا بعد الحرب الكونيّة الثّانية، أي بعد “استقلال الأقطار العربيّة”، وبهذا فقد تأخّروا عن الأوروبّيّين بما يزيد على قرنين. وقرأت عشرات الكتب عن النّقد الأدبيّ لمؤلّفين عرب، ووجدتها تزخر باقتباسات لمؤلّفين أجانب، وكأنّ العرب لم يعرفوا النّقد الأدبيّ إلا بعد أنّ اطّلعوا على الآداب والنّظريّات النّقديّة الغربيّة!
وفي لحظة صفاء ذهنيّ استرجعت ما علق بذاكرتي شيئا من تاريخنا العربيّ بهذا الخصوص، ومنها أنّ النّابغة الذّبيانيّ كان يجلس في خيمته في سوق عكاظ في الجاهليّة، فيقصده الشّعراء عارضين عليه قصائدهم، فيقول رأيه فيها ويفاضل بينهم، وكان العرب يستمعون للشّعراء ويمحصّون الشّعر، وتوّجوا ذلك باختيارهم للمعلّقات فعلّقوها على أستار الكعبة، وحتّى الرّسول وأصحابه -صلى الله عليهم وسلّم-استمعوا لشعر حسّان بن ثابت، وأثنوا عليه، وأعجب الرّسول بقصيدة “نهج البردة” لكعب بن زهير، فخلع عباءته وألبسها للشّاعر، وكان الشّعراء يتسابقون إلى قصور الخلفاء ويقرضون الشّعر، ويبيّنون مثالبه، وفي رسالة الغفران نرى قراءة أبي العلاء المعرّيّ لأشعار كثيرة، وهذا ما حصل أيضا في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وغيره كثير لسنا في مجال ذكره في هذه العجالة.
الأدب الشّعبي
وإذا ما تطرّقنا إلى الأدب الشّعبيّ سنجد أنّ العرب قد انتبهوا إليه ودوّنوه قبل الأوروبّيّين بما يزيد على عشرة قرون، ومن كتب الأمثال العربيّة:” أمثال العرب لعبيد بن شرية (ت 81هـ)، وكتاب أمثال العرب للمفضل الضبي (ت 171هـ) الذي اهتم بتفسير السياق الذي جاء فيه المثال مع شرح ألفاظه، وكتاب الأمثال لمؤرج بن عمرو السدوسي (ت 195هـ)، و كتاب الفاخر في الأمثال للمفضل بن سلمة بن عاصم الضبي 291هـ، وجامع الأمثال لأحمد بن إبراهيم بن سمكة اللقمي (ت 530هـ)، وكتاب الدّرّة الفاخرة في الأمثال السّائرة لحمزة بن الحسن الأصفهاني (ت 439هـ) وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (ت 395هـ)، والمستقصي للزّمخشري، ومجمع الأمثال للميداني وغيرها.
وممّن أسّسوا للأدب الشّعبي الجاحظ (776 م-868 م) الذي أفرد بابا طويلا في كتابه “الحيوان”سمّاه أدب العامّة، والذي أورد فيه مئات النّوادر والفكاهات الشّعبيّة، ومن كتب الفكاهات “النّكات الشّعبيّة”كتاب في نوادر الأذكياء وطرائف أخبارهم، للحافظ ابن الجوزي(510هـ/1116م – 12 رمضان 597 هـ).
“تطرق الكاتب في هذا الكتاب إلى فضل العقل وماهيته ومحله، والذهن والفهم والذكاء، وعلامات الذكاء، والمنقول من فطنة الأنبياء، وعن الأمم السابقة، وعن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، والصحابة، والخلفاء، والوزراء، والقضاة، والعلماء والزهاد، وعلماء العربية، واستخدام الذكاء للأغراض، ومن انعكس عليه ذكاؤه، واحترازات الأذكياء، وفطنة النّساء، والصّبيان، والشّعراء، والمحاربين، وعقلاء المجانين”.
كما اهتمّ قدامى العرب بالسّيَر الشّعبيّة، ومنها: سيرة كلّ من الأبطال الشّعبيّين، مثل سيرة معن بن زائدة، سيرة الزّير سالم، سيرة عنترة بن شدّاد، سيرة أبو زيد الهلالي وغيرها.
فهل تكفي هذه العجالة للفت انتباه الباحثين والدّارسين العرب للتّراث الشّعبيّ بأنّ العرب قد انتبهوا للأدب الشّعبيّ ودوّنوه قبل الأوروبّيّين؟ وهل يطالعون كتب التّراث الأدبي والثّقافي العربيّة القديمة بدلا من عناء المطالعة باللغات الأخرى؟ ولا يفهمنّ أحد بأنّ هذا دعوة للإنغلاق الثّقافيّ، بل من أجل العودة إلى الصّحيح، وإنصاف ثقافتنا التي ظُلمت كثيرا من خلال عدم دراستها وتمحيصها وترجمتها إلى اللغات الأخرى.
17 ديسمبر 2021