صدرت الطبعة الأولى لرواية “مدينة الله” للأديب الفلسطيني حسن حميد عام 2009 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
قالوا أنه لا يتقن وصف المكان الا من عاش فيه.. ولم يدركوا حقيقة أنه لا يبدع في وصف المكان إلا من يعيش المكان فيه…. ولا يتقن وصف مشاعر الناس سوى من يشعر بهم حتى لو لم يعش بينهم.
ربما لم يشهد معاناتهم.. ولكن قلبه بكى على عذاباتهم، وربما لم ير بسماتهم، ولكنه ضحك من قلبه سعيدا على مسراتهم. فغذّى حبر دواته بمشاعر صادقة، بعيدة عن أي تكلف ينفر القارىء. تخرج كلماته مليئة بحسٍّ خاص يميزه القارىء دون جهد كبير، كلمات تنقل الواقع بعمق، توصل رسالته بحِرَفية المتمكن، الذي يعرف أين ومتى يضع الحرف، فيصيب الهدف.
وأديبنا الروائي الفلسطيني حسن حميد، صاحب رواية مدينة الله، حرمه الاحتلال البغيض من أن يسكن مدينة الله (القدس)، حرمه من وطن يعشش في أعماق أعماقه.. فلم يستسلم.
هو لم ير المكان بعينيه، بل رآه بقلبه وأحاسيسه ومشاعره، تفاعلت تخيلاته مع معلومات بحث عنها من مصادر معتمدة، تخيّل المكان فكتب عنه بقلم ينزف وجعا، كتب بصدق مجروح، خرجت آهاته صرخة، لم يبالغ ولم يتكلف فأجاد ووصلت الرسالة.
من يعرف أن صاحبنا لم تطأ قدماه وطنه، يتعجب من دقة وصف بعض الأمكنة مع وجود بعض الخلل هنا وهناكن لا يكشفها سوى من عاش في المكان، إلا أن الأخطاء مرت دون أن تؤثر على هدف الرواية.
انطلقت روايته من بيت الشرق الذي كان يحتضن المقدسيين ويشعرهم بالأمان، والذي أغلقه الاحتلال بأمر عسكريّ قاصدا أن يترك المقدسيين كاليتامى دون راعٍ.
كان الأديب حميد يذيل كل رسالة من رسائله بملاحظة تزيد من قناعات القارىء بأهمية ما كتب. يكرر المعلومة أحيانا قاصدا بها تثبيت معلومة يعتبرها بيت القصيد، يبني عليها ما سيأتي من رسائل أخرى، يمرر من خلالها حقائق وواقع أليم يعيشه الشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال الإسرائيلي البغيض.
رسم شخوصه بعناية.. كانت أشبه بالرمزية.. فلم يختر فلاديمير كاتب الرسائل روسي الجنسية من فراغ، ولم تكن زوجته فلسطينية صدفة.
ربما قصد بها علاقة الروس ودعمهم للقضية الفلسطينية، خاصة وأن ملاحظاته كانت مباشرة فيما يخص نظرته للاحتلال وجنودهن فقال في إحدى ملاحظاته: “كم أنا خجل منك لتكرار كلمات البغال والكلاب والهراوات الغليظة، تصوّر يا صديقي العزيز بلادا مثل بلاد سيدنا تحرسها البغال والكلاب والهروات الغليظة. صلِّ لأجلي… كي تطيب إقامتي هنا”.
وعلمنا من الرسائل أيضا أن الحوذي جو (الايرلندي) قام بترتيب للقاء الأول بين فلاديمير (الروسي) وسيلفا (الإسرائيلية) دون رغبة من فلاديمير بذلك في بداية الأمر، وكان جو حلقة الوصل بينهما، إلى أن تطورت العلاقة بينهما وتوطدت.
كانت سيلفا تعيش صراعا نفسيا إنسانيا بين الواجب والضمير، خاصة وأنّها كانت تعمل باحثة اجتماعية في السجون الإسرائيلية، فكانت ترى فظاعة أساليب تعذيب الأسرى الفلسطينيين على أيدي المحققين في السجون، إلى أن أصبحت لاحقا أكثر قسوة وغلاظة من زملائها السجانين مع الضحايا المعتقلين.
السؤال: لماذا اختار أن يكون جو الإيرلندي هو حلقة الوصل؟ لا شك أن معادلة ربط علاقة هذه الجنسيات مع بعضها البعض تحمل رمزية معينة قصد الأديب إيصالها للقارىء.
أجاد الكاتب في وصف السجون الإسرائيلية وأساليب التعذيب فيها، والتي جاءت على لسان سلفا نفسها، فمن فمه أدينه.
قالت سيلفا: “لا أدري كيف قادتني المقادير كي أكون في عالم لم أُخلق له. وأن أتعامل مع مخلوقات قهرها الزمان، وخانتها الحياة.. فالسجون مقابر حقيقية. ظلم وقهر، وإماتة، حياة مرفوعة إلى آجال غير مكتوبة، روائح، وقرف، وأذيات متكاثرة كالفطر، حيطان كالحة باهتة تقف ببلاهة وسذاجة، ونوافذ صغيرة عالية لا تعرف التلويح، ولا السلام، نوافذ جرداء، خرساء لا نباتات لها ولا عصافير، لا شيء يجاورها لا عشب ولا ماء، نوافذ مأسورة مشدودة إلى قضبان الحديد، وبشر رموا إنسانيتهم على أعتابها ودخلوا إليها، مكان لا قوانين له ولا ثوابت سوى سلب الآخرين آدميتهم.. مكان ملعون ورجيم”.
وعاتبت نفسها.. قالت: (هل درستُ وتعلمتُ كي أصل إلى هنا؟ وهل سأحمل أنوثتي كل صباح إلى هنا كي أجرّحها؟ وصممتً ألّا أبقى في هذا المكان أو ما يشبهه من أمكنة، ومع ذلك ماشيت المأمور مزراحي شابون، مررت بعنابر، وزنازين، وغرف تحقيق وتعذيب.. رأيت الأدوات الجهنمية، وأحواض الماء، والحبال التي يعلق بها السجناء، وأجهزة الكهرباء، والدواليب الكاوتشوكية، وأكياس الخيش، والشباك، وقطع الحجارة، والسلاسل الحديدية، والأقشطة والأحزمة، والكلاب المخيفة، والقطط المرعبة، والثعابين، والعقارب، والديوك).
وعلى صعيد آخر قام الأديب بأنسنة قضايا ضحايا التعذيب، من خلال تناول قصصهم الشخصية مع أسرهم وأحبائهم، ووصف علاقة المعتقلين الذكور الودية مع الباحثة الاجتماعية سيلفا. والذي دفع إدارة السجون بنقلها إلى معابر المعتقلات من النساء؛ لتصطدم سيلفا بأساليب تعذيب أكثر وحشية في عنابر النساء، اللواتي كن يضطررن للكذب والاعتراف بما لم يفعلن تجنبا للتعرض للتعذيب، وقد زاد هذا من حجم الصراع داخل سيلفا.
جاء كل هذا على لسان بني جلدتهم سيلفا.. ولا شك أن ذلك له تأثير أقوى ومصداقية أعلى من لو أن هذا الوصف خرج على لسان الضحية، بعدها نُفاجأ.. وإذا بسلفا تغلّب الواجب على حساب الضمير، وتصبح أكثر إجراما من زملائها السجانين باعتراف أحد المعتقلين (عارف الياسين)، وهي رسالة أخرى غير مباشرة من الكاتب، وكأنه يريد أن يقول: هؤلاء هم الصهاينة.
وفي النهاية قررت سلفا أن تضع حدا لحياتها بعد أن فقدت أنوثتها بل إنسانيتها.
وهذا حقا ما يحصل مع بعض الجنود الذين يعيشون أزمة الصراع بين الواجب والضمير.
وبعد أن التقى فلاديمير ثلاثة إسرائيليين في المقهى الصغير شعر بالقلق، وفكر بالعودة إلى بلاده.. وقد كانت إشارة واضحة منه يطلب النصيحة، بعد أن بدأ يفقد شعوره بالأمان قال:
“أعترف أمامك، أن الثقة المفرطة لهؤلاء الاسرائيليين الثلاثة أخافتني، إنها تعني المزيد من القتل، والدم، والحزن، والمقابر، والصبر، والظلم، وانتظار ما لا يدنو. صديقي الحبيب، أرسل إليك صورة لـسيلفا، وأخرى للحوذي جو، وثالثة لي.. راجيا منك أن تقرأ وجوهنا، فتكتب إليّ عما شعرت به. محبتي الدائمة أيها الصديق، ها هي ذي الحال، فهل أعد حقيبتي، وأغادر؟
وبعدها اقتحم البغّالة بيته واعتقلوه ليكون مصيره السجن، سألوه عن زوجته رشيدة الفلسطينية التي توفيت. وأخضعوه للتحقبق، فكتب من السجن ست رسائل جاء في آخرها:
“أنا حزين، كل خلية من خلايا جسدي تتألم، ليتني طائر الآن، كي أمر ولو للحظات فقط بـمقهى (أبو العبد) كي أراه، وإن أكرمني ربي أكثر سأنتظر كي أرى عارف الياسين، لأقول له إنني في المكان الذي عرفه طويلا.
أرجوك.. لا تكتب إليّ، فعناوين السجن ليست بعناوين.
هكذا انتهت رسائل فلاديمير الذي وجهها إلى أستاذه الذي علمه اللغة العربية، والتي لم تصل لصاحبها.
كانت رسائل قوية.. لغتها سلسة بسيطة وواضحة.. جمعت بين الماضي والحاضر.. وصفت دناءة الاحتلال.. وعكست معاناة الفلسطيني في وطنه المحتل.. على الحواجز وفي الأماكن المقدسة وفي المعتقلات… وفي كل مكان في فلسطين بهدف التنغيص والإذلال والنيل من كرامة الفلسطيني.
اتبع الكاتب أسلوب ذكي في كتابة الرواية.. جعله يتنقل من مكان إلى مكان.. ويقفز من فكرة إلى فكرة للوصول إلى هدفه دون أن يكون هناك عقدة واضحة.. تحد من حجم المعلومات التي أراد أن يوصلها للقارىء.
لا شك أن رواية مدينة الله هي إضافة نوعية للمكتبة العربية.