المرأة في التراث العربي بين خطابين-5

 

(الخطاب الإيجابي: المتنبِّي)

بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيـْفي

 

 

 

 

 

 

 

 

لقد يُحسَب (لأبي الطيِّب المتنبِّي)- مع عروبيَّته الصميمة- أنَّه خالفَ في شِعره بعض التمييز العنصري ضِدّ المرأة، الذي تجلَّى لدَى الشعراء العَرَب وغيرهم، من سابقيه ولاحقيه، ومنهم (البحتري) و(المعرِّي)؛ فرثَى جَدَّته، ورثَى أُمَّ (سيف الدَّولة)، ورثَى أُخته.  وقد تبيَّن في المساقات السابقة أنَّ مثل هذا الحِسِّ الإنسانيِّ كان شاحبًا في الشِّعر العَرَبيِّ القديم بعامَّة.  فالقصيدة الأولى في رثاء جَدَّته، وهي ذات المطلع:

أَلا لا أَرَى الأَحداثَ حَمْدًا ولا ذَمَّا … فَما بَطْشُها جَهلًا ولا كَفُّها حِلْما

وفيها رثاءٌ صادق، شتَّان بينه وبين رثاء (جرير بن عطيَّة) لامرأته، الذي رأيناه في المساق السابق، وكيف كان يكبِّله الحياء، من مجرَّد الاستعبار عليها، فضلًا عن زيارة قبرها.  بل إنَّ (المتنبِّي) ليتجاوز ذلك، لا إلى البكاء والزيارة، بل إلى القول: إنَّه يهوَى التراب الذي وارى جدَّته:

أَحِنُّ إِلى الكَأسِ الَّتي شَرِبَت بِها … وأَهوَى لِمَثواها التُّرابَ وما ضَمَّا

ولم يعترف ببكائه إيَّاها لموتها فحسب، بل ببكائها في حياتها أيضًا، خوفًا عليها من الموت:

بَكَيتُ عَلَيها خِيفَةً في حَياتِها … وذاقَ كِلانا ثُكْلَ صاحِبِهِ قِدْما

– يا للعار، يا (أبا الطيِّب)!  تبكي على امرأة؟!  ألا تستحي من نفسك أمام العُربان؟!

هذا لسان حال (جرير)، فضلًا عن الأشدَّ عنصريَّة منه، كـ(الفرزدق)، القائل:

يَقـولونَ: زُرْ حَدْراءَ، والتًّربُ دونَها،       

وكَـيــْفَ بِشَـيءٍ وَصلُهُ قَد تَقَـطَّعـا؟!

ولَســـتُ- وَإِنْ عَـــزَّتْ عَــلَيَّ- بِــزائِرٍ           

تُرابًا عَلى مَرْمُـوْسَـةٍ قَد تَضَعْضَعا(1)

وأَهوَنُ مَفـقـودٍ- إِذا المَوتُ نالَهُ،           

عَلى المَرءِ، مِن أَصحابِهِ- مَن تَقَنَّعا

يَقـولُ اِبنُ خِنزيرٍ: بَكَيتَ! وَلَمْ تَكُنْ       

عَلى امرَأَةٍ عَيـْنـي، إِخالُ، لِتَدمَعا

وأَهـوَنُ رُزْءٍ لِامـرِئٍ غَـيــرِ عاجِـزٍ              

رَزِيَّةُ مُــرتَــجِّ الرَّوادِفِ أَفْـرَعــا!

ولسان حال  (البحتري)، الذي أنكرَ أن تبيت الرجال تبكي النساء، مُهْتَدِمًا بيت (الفرزدق) الأخير، في قوله:

ولَعـَمْري ما العَجْـزُ عِنديَ إلَّا … أَنْ تَبِيْتَ الرِّجالُ تَبكي النِّسـاءَ!

ولقد كان (المتنبِّي) يَنعت جَدَّته لِذاتها، لا لأصلها وفصلها فقط:

أَتاها كِتابي، بَعْدَ يَأسٍ وتَرْحَةٍ،      

فَماتَتْ سُرورًا بي، فَمُتُّ بِها غَمَّا

حَرامٌ عَلى قَلبي السُّرورُ ؛فَإِنَّني      

أَعُدُّ الَّذي ماتَتْ بِهِ بَعدَها سُمَّا

وما انسَدَّتِ الدُّنيا عَلَيَّ لِضِيقِها،      

ولَكِنَّ طَرْفًا لا أَراكِ بِهِ أَعمَى

فَوا أَسَفا أَنْ لا أُكِبَّ مُقَبِّلًا     

لِرَأسِكِ، والصَّدرِ ،الَّذي مُلِئا حَزْما

وأَنْ لا أُلاقي رُوحَكِ الطَيِّبَ الَّذي      

كَأَنَّ ذَكِيَّ المِسْكِ كانَ لَهُ جِسْما

غير أنَّ القارئ قد يتوقَّف عند بيته:

ولَو لَم تَكوني بِنتَ أَكرَمِ والِدٍ … لَكانَ أَباكِ الضَّخمَ كَونُكِ لي أُمَّا

متسائلًا: أ وليست فيه نِسبة ما أثنَى به على جَدَّته إلى والدها؟ ثمَّ إلى كونها له أُمَّا؟

والحقُّ أنَّ المعنى، عند التأمُّل، لا يحتمل ذلك.  وإنَّما أراد الثناء على جَدِّه أيضًا، والدِ جَدَّته، ثمَّ على نفسه؛ فأبوها أكرم والد، ولو لم يكن كذلك، لكفاها عن كرم الأب كرم الابن.  فليست هاهنا نِسبةٌ صريحةٌ لكرم جَدَّته إلى الاكتساب من والدها أو من ولدها، بل كأنَّما هي القاسم المشترك بينهما؛ فما دامت بتلك الصفات التي أشار إليها، فلا بُدَّ أن يكون أصلها، أو فرعها، أو كلاهما بذلك الكرم. وليس كالرثاء القَبَلِيِّ الذي رأيناه من قبل في تلاحي (جرير) و(الفرزدق) قَبَليًّا، من خلال رثاء كلٍّ منهما امرأته، وهجاء امرأة صاحبه، قائلًا، مع ذلك: إنَّه مهما بلغ حزنه على امرأته، أو بلغت مكانتها من قومها، فلن يصل به الأمر إلى معرَّة البكاء، أو معاودة الاستعبار عليها، ودع عنك زيارة مثواها؛ فذلك من العار والشَّنار، وإن اتُّهم به، فمن الهجاء المقذِع- من وجهة مسلَّماته الاجتماعيَّة- لا يحتمله، مهما احتمل سِواه.

وكذا قد يعترض معترضٌ هاهنا: ولِمَ لَم يَعْزُ (المتنبِّي) جَدَّته إلى أُمِّها الكريمة، ويمتدحها بأنَّها بنت أكرم والدة، بل عزاها إلى والدها؟ وفي هذا إفراطٌ وتكلُّف؛ للمطالبة بتجاوز الأعراف الاجتماعيَّة العَرَبيَّة، بل وغير العَرَبيَّة، التي تنسب الإنسان إلى أبيه لا إلى أمِّه، وبذلك جرت سُنَّة الأنساب. وما نقوله: إنَّه، مهما يكن من أمر، فإنَّ في خطاب المتنبِّي– كما عبَّرت عنه هذه القصيدة- تطوُّرًا نِسبيًّا ملحوظًا، بالموازنة مع غيره من الشعراء. وهو، وإنْ لم يكن خارقًا للنَّسَق الذكوريِّ العَرَبيِّ بصورة تامَّة، فإنَّ بعض الشَّر أهون من بعض!

وفي المساق اللاحق نواصل الوقوف بالتحليل على النموذجين الآخَرين من شِعر (المتنبِّي). (2)

_____________________________________________________

(1)  وما أكثر ما يردِّد (الفرزدق) قافية “تضعضع” هذه في شِعره، كأنه تضعضع عن أن يجد سِواها!  وفي ديوانه ، بشرح: علي فاعور، (بيروت: دار الكتب العلميَّة، 1987)، 364، وبعناية: إيليا الحاوي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، 1983)، 2: 77، تجد: كلمة “مَرْسُوْمَة”، وأصرَّ الشارحان على أن “مَرْسُوْمَة” تعني: مدفونة!  وإنَّما الكلمة تصحيف: “مَرْمُوْسَة”، وإن التُمِس للتصحيف- كالعادة- معنى متكلَّف بعيد.

(2)  هذا المقال جزء خامس من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّمت في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي).  للمشاهدة على موقع “اليوتيوب”:  https://www.youtube.com/watch?v=ZSZF936qzsY

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيـْفي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .