تحاصرك الفكرة وتقول لك “اكتب”، تتوالد الأفكار في رأسك وتفتح فيه كوة بعد كوة، تدخل منها ريح تعصف بما حضّرته من أفكار لتبدأ عملك. ما الذي يجعلك تفكر كل هذا التفكير بحادثة بسيطة؟
صورة الفتاة التي ركضت لتلحق الباص تلاحقك، ركضت باتجاه الموقف، ولكنه تحرك عندما كانت على بعد متر واحد من الموقف، رأيت وجهها بنظرة عابرة، قرأت فيه الإحباط، عشت إحباطها، ماذا قالت لنفسها؟ هل أنّبت نفسها لأنها تباطأت في الخروج من البيت؟ ولماذا تأخرت أصلاً؟ كيف أضاعت الدقيقة الفاصلة بين النجاح والفشل؟ تحاول أن توقف نفسك عن التفكير بالموضوع، وتسأل نفسك لماذا كل هذا الاهتمام بما جرى؟ كنت على وشك أن تصرخ بالسائق أن يتوقف لكنك تراجعت، هل خشيت أن يزجرك ويلقنك درساً بأن هذا ليس من شأنك؟ هل خشيت أن يعطيك نيابة عنها درساً لا لزوم له حول دقة المواعيد؟ لا تلُم نفسك أكثر، فماذا كان بإمكانك أن تعمل؟ تقنع نفسك بأنك بريء من المسؤولية عمّا حصل معها فتهدأ. ثم يشبّ في داخلك محامي الدفاع عن الآخرين الذي ينصّب نفسه ليجري لك دائماً محكمة الضمير، لا تبرر لنفسك، لقد كنت جباناً، فماذا كنت ستخسر لو قلت للسائق كلمة أو أشرت له مجرد إشارة، وليقل ما يقول، ليس من حقه أن يقول أكثر من “آسف” أو يهملك، أو ينظر في المرآة شزراً. تقوى مرة أخرى في الدفاع عن نفسك، ترتدي عباءة المنطق، هذه هي حياة المدن الكبيرة، اللحاق بالباص أو القطار جزء من التفاصيل اليومية للناس هنا، وعليهم أن يحسبوا أوقاتهم حساباً دقيقاً. المواصلات العامة عالية الكفاءة ومواعيدها محسوبة بدقة والغالبية العظمى من الناس يعرفون ذلك ويختارون استخدامها لأنها تغنيهم عن استخدام السيارة الخاصة وتخلصهم من دوامة البحث عن مكان لإيقاف السيارة ودفع رسوم المواقف، وبالتالي فإن الالتزام بالمواعيد أمر أساسي.
منظر الفتاة وهي تسقط يديها وتضع الحقيبة التي تحملها على الأرض وتتكئ على عمود الموقف كان معبراً بقوة عن شعور “فاتها القطار”. ما أصعب الأمر عندما يفوتك الباص أو القطار أو المترو وأنت قد خططت للوصول إلى العمل أو الموعد جيداً. تفصلك الإشارة الضوئية الحمراء عن الباص الواقف قبالتك على الطرف الآخر، تتمنى أن يأتي اللون الأخضر سريعاً أو يتمهل السائق قليلاً، فلا الإشارة تغير لونها ولا السائق يتمهل، أو عندما تصعد درج محطة القطار مسرعاً، وتكاد تتعثر، لتصل إلى الرصيف وحين تصل هناك تنغلق أبواب القطار وينطلق وعليك انتظار القطار التالي، والشعور نفسه ينتابك عندما تهبط الدرج إلى رصيف المترو وتكون على بعد خطوة من الباب الذي ينغلق وكأنه يماحكك. لماذا لم يكن هذا السائق من النوع اللطيف مثل بعض السائقين المتفهمين الذين يعيدون فتح الأبواب ويتمهلون عندما يرون شخصاً يركض للحاق بالباص، وبعضهم طيب إلى درجة أبعد، كذلك السائق الذي رآك تغذ الخطى على الثلج المتراكم بحذر الخائف من الانزلاق، فتمهّل ووقف بمحاذاتك وفتح لك الباب قبل وصوله الموقف لتصعد.
تحاصرك عبارة “فاتها القطار” طالبة منك أن تكتب عن منظر تلك الفتاة الذي يلخص الكثير، ولكنها تفتح عليك أبواباً أخرى، صرت أسير العبارة، أو كما يقولون أمسكت العبارة بتلابيبك وجرّتك وراءها، صورة الفتاة تدب فيها الحياة وتصبح شريكتك طيلة الرحلة القصيرة حتى هبوطك من الباص، ولكن الأمر لم يقتصر على الرحلة، ما زالت تتبعك، كل هذا لأنها أصبحت من فئة “فاتها القطار”. لو صعدت إلى الباص وأصبحت راكبة مثل كل الركاب لانتهى الأمر، حتى لو أنعمت النظر خلسة ملامحها وأصابك سهم جمالها لكان الأمر انتهى بنزولها قبلك أو نزولك قبلها، أما الصورة المرابطة في ذهنك الآن فيبدو أن رحلتها معك ستطول، تحاكمك وكأنك مذنب بتهمة التقصير، فتدفعها عنك بلطف، فتأتيك من عبارة “فاتها القطار” أمواج آلام مختزنة، تطيح بك بعيداً.
تأتيك فجأة السيدة الثلاثينية، بنت الجيران، الوردة التي كبرت فلم يعد لديها أمل بقاطف، صارت عانساً، تأتي بكبريائها المجروح تشتكي، تسألك، تحاورك، تحاسبك، “أنت حزين على هذه الأجنبية لأن الباص فاتها على محطة، لماذا لا تحزن عليّ؟ لماذا لم تقف في وجوههم وهم يشيرون إليّ “عانس فاتها قطار الزواج”؟ لماذا لم تحتج حين تجرأ أرمل ستيني وجاء ليطلب يدي، لماذا لم يستفزك ذلك؟ هل أصبحتُ بنظرك ونظرهم بضاعة كاسدة، عانساً فاتها القطار، فهل رأتني أو رآني أحد أركض على رصيف مر منه قطار الزواج، قطار الأحلام، هل هناك أبشع من هذا التعبير، من قال لك أو لهم أنني أقف على محطة الانتظار ليأتي الفارس، ليأتي “السيد” ويتناول يدي ويأخذني إلى مملكته؟ اللعنة عليك وعليهم، طز فيك وفيهم.
تنضم السيدة الثلاثينية إلى الفتاة لمحاسبتك لأنك لم تدافع عنهما، فتتوقف على الرصيف وتسند ظهرك إلى الجدار تأخذ وضع الدفاع، تقفان قبالتك، تتبادلان الأدوار في الهجوم عليك، ومن يأتيها دور الهجوم ترفع يدها في وجهك وتفرد سبّابة الاتهام سهماً مصوباً نحو عينك، فتدفع بيدك الإصبع وتحاول أن تُفهِمها موقفك، أن توضّح براءتك.
ينقذك منهما “هوملس” يقترب منك يحييك ويسألك عن حالك، ويمد العلبة التي يحملها طالباً قطعة نقدية، تقترح عليه أن تشربا القهوة معاً بدلاً من وضع قطعة نقد في العلبة التي يحملها، فيوافق. تشكره على قبول الدعوة، وتذهبا معاً إلى المقهى القريب. تُحضر كوبيْ قهوة، واحد لك دون حليب أو سكر، والآخر بالحليب والسكر زيادة له، وتجلسان حول الطاولة التي اختارها، تشجعه على الحديث وتتطوع للإنصات الكامل لحديثه. يحدثك عن فلسفة الحرية، عن روعة أن يكون عنوان المرء ملكه يغيره متى شاء، يعطيك درساً مجانياً في فلسفة “الهوملس”، تشكره على المعلومات التي قدمها فيبتسم ابتسامة عريضة، ترى الانشراح يمتد على قسمات وجهه وفي عينيه. تنهي كوب قهوتك، وتعتذر له “تمتع بقهوتك على مهلك، ولكن عليّ الذهاب إلى العمل، سررت بلقائك”، فيبتسم مجدداً ويضع الكوب على الطاولة “أوكي، شكراً” ويرفع يده بكف مقبوضة والإبهام منتصباً للأعلى.