كتب نضال حايك ومحمد قدح:
مع اقتراب انتصاف الفترة الرئاسية الحالية في الحكم المحلي، يتعالى الحديث في الآونة الأخيرة في عدد من البلدات العربية عن تناوب على رئاسة السلطة، بين رؤساء سلطات ونواب لهم، يسوّق على أنه استقالة الرئيس ودخول النائب مكانه. لكن في الواقع، لا أساس قانوني لذلك.
كما هو معلوم، يجري في السلطات المحلية انتخاب شخصي لرئيس السلطة المحلية، ببطاقة تصويت منفردة عن تلك المتعلقة بالقوائم والعضوية. لذا، بخلاف عضوية المجلس المحلي أو البلدي، الّتي تبنى من قوائم، وبمجرد استقالة عضو يدخل المرشح الّذي يليه في القائمة، عند استقالة رئيس السلطة المحلية لا يخلفه أحد في المنصب، وبحسب القانون، تعلن وزارة الداخلية في هذه الحالة عن انتخابات خاصة لرئاسة السلطة – انتخابات بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. يحق لكل من تجاوز سن ال21 عامًا الترشح فيها، ويمنح حق التصويت لكافة الناخبين (الاستقالة في السنة الرابعة تعد استثناء. في هذه الحالة يمكن للأعضاء اختيار عضو من بينهم لرئاسة السلطة).
في الواقع، ما يجري – هكذا يشاع – يتفق الرؤساء ونوابهم في بعض البلدات على استقالة الرئيس بعد عامين ونصف من دخول المنصب. ليترشح النائب كمرشح وحيد في هذه الانتخابات، الّتي تكون شبه صوريّة. تجدر هنا الإشارة أن اتفاقات كهذه غير ملزمة، لا لأطراف الاتفاق ولا لآخرين. بمعنى، أن الرئيس يمكن أن ينقض العهد دون مساءلة قانونية، ولا يمكن للرئيس ونائبه منع آخرين من الترشح والمنافسة في الانتخابات الّتي تعقب استقالة الرئيس.
تسوّق هذه البدعة السياسية على أنها تعزيز لوحدة أهل البلد والتآلف بينهم. ويدعي البعض أنها سبيل لمنع الاحتدام والعنف في فترة الانتخابات.
إلّا أنها في الواقع، محاصصة عائلية مؤسفة، واتفاق بين العائلات الكبرى في البلدات لتقاسم السلطة بمقدراتها، لا سيما المناصب السياسية ووظائف الثقة المرافقة لها وغيرها من موارد المال والنفوذ في السلطات، على حساب باقي الجمهور والمال العام. بشكل مؤسف، توحي ما تسمى ب-“اتفاقات التناوب” بين الحمائل بوجود مرعى تتقاسم كل حمولة على استخدامه، وغيرها من الأمثلة الّتي تعود إلى سالف العصور! هذا إضافة لترسيخ نظام المخترة والصورة التقليدية المعيبة لمنافسة عائلتين على القوة والسيادة.
على المستوى الإداري والمهني، تعود اتفاقات كهذه بنتائج سلبية، إذ لا تعطى للرؤساء فرصة جدية لوضع خطط عمل وأهداف عليا بسبب الوقت القصير لحكمهم، عمل السلطات يبقى مكبلًا بتبعات التحالفات العائلية، وتدار السلطة وفق اتفاقات المحاصصة وبنودها – هذا يبكر أمرًا ليحصل في فترة رئاسته والآخر يعيق عملًا لينسبه لنفسه، ومماطلة في تنفيذ ما يلزم به القانون كإشغال مناصب مركزية وغير ذلك. كما وأن السلطة تمرّ مضطرة في هذه الحالة فترة انتقالية بفعل الانتخابات (على غرار الحكومات الانتقالية) تسري فيها تقييدات على عملها. فبدل تكرار تلك التقييدات لعدة أشهر مرة كل خمس سنوات، نراها تتكرر نتيجة لتلك المحاصصة مرة كل نحو عامين!
كما وتتعارض المحاصصة المذكورة مع مفهوم السلطة المحلية كهيئة سياسية منتخبة، جاءت لتضفي ديمقراطية على العمل البيروقراطي في تقديم الخدمات. ففي هذه الحالة لا يحترم الحسم الديمقراطي وإرادة الناخبين، وتحل مكانه إرادة كبرى العائلات، أو زعاماتها على وجه أدق، وتنحسر إمكانية انتخاب رئيس بشكل ديمقراطي، وفق مبدأ حسم الأكثرية – كما يفرزه الصندوق. بدل تعزيز الديمقراطية وتناقلها كقيمة، تأثير الأصوات لا يأتي متساويًا في ظل التناوب، إذ أنه بعد قول الناخبين، يأتي قول الحمائل الكبرى ودور مفاوضاتها!
عندما نذم الحمائلية السياسية وممارستها فلا نعني التصويت فحسب. فالتصويت الحمائلي تعقبه اعتبارات عائلية وشخصية من التزامات وتنفيذ وعود وتناقض يومي مستمر مع المصلحة العامة، في التعليم والصحة والرفاه والبنى التحتية، وفي كل خطوة وعمل تقوم به السلطة. المحاصصة بين العائلات الكبرى والاتفاق على تقاسم رئاسة السلطة والنفوذ هو دليل واضح على ذلك.
تبرير “كف الشر” ومنع العنف بهذه الطريقة هو تبرير أجوف. كما هو معلوم، الخلافات والعنف في الانتخابات المحلية تحدث في المنظومة الحمائلية وبرعايتها – حتى من لم يدفعهم أحد على العنف ويقومون بأعمال فردية، يقومون بذلك في نهاية المطاف باسم العائلة ويستشعرون دعمها أو على الأقل تحلمها المسؤولية لأفعالهم. فلو لم تكن الانتخابات والاصطفافات الحمائلية والمشاحنات بين العائلات المنافسة، لما صاحب الانتخابات عنف، وما كانت الحاجة لهذا الحل المعطوب الّذي تقدمه الحمائلية السياسية.
الإدارة السليمة والمهنية للسلطات تكون بطرح خطط عمل وحلول مهنية وموضوعية من المرشحين، إقناع الناخبين بنهجهم، والتصويت وفق القناعات الفردية لكل ناخب وناخبة بقدرة المرشح على تقديم الأفضل للبلدة. الترشيحات الحمائلية والتصويت الحمائلي لا يفضي إلا لمحاصصة مخجلة توصل الرؤساء مقيدين إلى مناصبهم، دون قدرة واقعية على العمل، غير استمرار التقاسم “عائلتي وعائلتك” دون اعتبار لعامة الجمهور ومصالحه. تكرار التجربة في عدد من السلطات قد يعزز من احتمال حصولها في الكثير من البلدات لتدخل دوامة لا تنتهي من الانتخابات والمحاصصة.
المحامي نضال حايك هو مدير عام جمعية “محامون من أجل إدارة سليمة” والمحامي محمد قدح هو محامٍ في الطاقم القانوني للجمعية