نحو دعم جهود المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق الرسمي بجرائم الاحتلال

* المحامي علي ابوهلال

أعلنت المحكمة الجنائية الدولية يوم الأربعاء الماضي الثالث من شهر آذار/ مارس الجاري، فتح تحقيق رسمي بجرائم حرب ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، بحسب ما جاء في بيان صدر عن المدعية العامة في المحكمة، فاتو بنسودا.

وأوضحت المدعية العامة أن “قرار فتح التحقيق في الوضع في فلسطين جاء بعد فحص أولي استمر لنحو 5 سنوات”، مشددة على أن التحقيق سيتم “بشكل مستقل وحيادي وموضوعي دون خوف أو محاباة بهدف إظهار الحقيقة”، ولفتت إلى أن “ولاية المحكمة تمتد من غزة إلى الضفة بما فيها القدس الشرقية“.

وجاء هذا التوضيح الذي أكدته المدعية العامة ليرد مسبقا على ما يمكن أن يصدر عن حكومة الاحتلال الإسرائيلية، التي تتهم المحكمة بعدم الحيادية والاستقلالية، فقد سارع بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال بعد صدور قرار المحكمة، إلى القول أن قرار المحكمة الجنائية الدولية “يمثل جوهر معاداة السامية وجوهر النفاق”، وردا واضحا على رأى وزير الخارجية الإسرائيلي، غابي أشكنازي، الذي قال  أن القرار يندرج ضمن “الإفلاس الأخلاقي والقانوني”، وأضاف أن “هذا القرار سياسي اتخذته المدعية في نهاية ولايتها، في محاولات إملاء أولويات خليفتها“.

وجاء في بيان المدعية العامة “أؤكد بدء مكتب المدعي العام إجراء تحقيق يتعلق بالوضع في فلسطين. سيغطي التحقيق في الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والتي يدعى أنها ارتكبت في سياق القضية منذ 13 حزيران/ يونيو 2014“.

ولفتت بن سودا إلى أن “الأولويات المتعلقة بالتحقيق سيتم تحديدها في الوقت المناسب، على ضوء التحديات التشغيلية التي قد نواجهها في ظل الوباء، والموارد المحدودة المتاحة لنا، وعبء العمل الثقيل. ومع ذلك، فإن مثل هذه التحديات، مهما كانت شاقة ومعقدة، لا يمكن أن تصرفنا عن الاضطلاع في نهاية المطاف بالمسؤوليات التي يضعها ميثاق روما على عاتق المحكمة“. وأوضحت أنه “بموجب نظام روما الأساسي، إذا أحالت دولة طرف حالة ما إلى مكتب المدعي العام وتقرر وجود أساس معقول لبدء التحقيق، فإن المكتب ملزم بالتصرف. وكخطوة أولى، يُطلب من المكتب إخطار جميع الدول الأطراف والدول التي عادة ما تمارس الولاية القضائية على الجرائم المعنية بتحقيقاتها“.

وقالت إن “نظام روما الأساسي يُلزم المكتب بتوسيع تحقيقه ليشمل جميع الحقائق والأدلة ذات الصلة بتقييم ما إذا كانت هناك مسؤولية جنائية فردية، وكذلك التحقيق في ظروف التجريم والتبرئة”. وأضافت أن “قرار فتح التحقيق جاء في أعقاب تحقيق أولي شاق أجراه المكتب لقرابة خمس سنوات“.

وتابعت أنّ “مكتبها تعامل خلال تلك الفترة مع مجموعة واسعة من الجهات المعنية، بما في ذلك اجتماعات منتظمة وبناءة مع ممثلي الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية”. وأردفت أنّها “أعلنت في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2019 عزمها تقديم طلب إلى قضاة الدائرة التمهيدية الأولى لإصدار حكم لتوضيح النطاق الإقليمي لاختصاص المحكمة بشأن الوضع في فلسطين“.

إن بيان فاتو بن سودا المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية كان صريحاً وواضحاً، فهي تدرك حجم العقبات والضغوطات التي ستواجه المحكمة لمنعها من مباشرة هذا التحقيق، سواء من قبل الحكومة الإسرائيلية، أو من قبل الولايات المتحدة التي رفضت هي أيضا هذا القرار، وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس إن “الولايات المتحدة تعارض بشدة إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية الخاص بالتحقيق في الوضع الفلسطيني”. ورغم ذلك أكدت المدعية العامة أن مثل هذه التحديات والعقبات، مهما كانت شاقة ومعقدة، لا يمكن أن تصرفنا عن الاضطلاع في نهاية المطاف بالمسؤوليات التي يضعها ميثاق روما على عاتق المحكمة“.

وفي بيانها، حثّت بنسودا “الفلسطينيين والإسرائيليين والمجتمعات المتضررة من القرار على التحلي بالصبر”. وقالت إن “المحكمة ستركز اهتمامها على المجرمين الأكثر خطورة، أو أولئك الذين سيتحملون المسؤولية الأكبر عن ارتكاب الجرائم“. وقالت إن التحقيقات “تستغرق وقتًا ويجب أن تستند بشكل موضوعي إلى الحقائق والقانون. وسيعتمد مكتبي، في اضطلاعه بمسؤولياته، نفس النهج المبدئي وغير المتحيز الذي اعتمده في جميع الحالات التي يُنظر فيها إلى ولايته القضائية. ليس لدينا أجندة سوى الوفاء بواجباتنا القانونية بموجب نظام روما الأساسي بنزاهة مهنية“. وأوضحت فاتو بنسودة أن التحقيق سيشمل أحداثا في الضفة الغربية والقدس الشرقية الخاضعتين للاحتلال الإسرائيلي، وكذلك قطاع غزة، منذ 13 يونيو/ حزيران عام 2014. وكانت دولة فلسطين قد طلبت من المحكمة التحقيق في 3 ملفات أساسية، وهي الاستيطان الإسرائيلي بالأراضي الفلسطينية المحتلة، والعدوان على غزة، ومعاملة الأسرى داخل السجون الإسرائيلية.

لا شك أن هناك تحديات وعقبات كبيرة قد تعترض شروع المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق بالجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال، في الأراضي الفلسطينية سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة.

وقد أكدت التجارب السابقة أن دولة الاحتلال قد عرقلت عمل لجان التحقيق الدولية، التي تشكلت للتحقيق في جرائم الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبشكل خاصة في قطاع غزة ومنعتها من دخول القطاع، ومنها لجنة تقصي الحقائق برئاسة القاضي ريتشارد غولدستون بشأن العدوان على قطاع غزة  2008-2009، ولجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بتاريخ 23 تموز/ يوليو 2014 للتحقيق في العدوان الأخير الذي شنته قوات الاحتلال على قطاع غزة، ولجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان، في أيار/مايو 2018 للتحقيق في جرائم الاحتلال في قطاع غزة، حين أطلق فيها قناصة قوات الاحتلال النار على أكثر من ستة آلاف متظاهر أعزل على مدى أسابيع متتالية، في مواقع الاحتجاجات على امتداد السياج الفاصل، وبلغ عدد الفلسطينيين الذين قتلوا خلال التظاهرات في هذه الفترة 189 قتيل.

وهناك عقبات أخرى يمكن أن تضعها الولايات المتحدة لعرقلة وتأجيل التحقيق سواء من خلال مجلس الأمن وفقا للمادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والتي تنص على ” لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة اثني عشر شهراً بناءً على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها”. وأن لم تستطع الولايات المتحدة تحقيق ذلك، ربما تلجأ للضغط على السلطة الفلسطينية، لسحب طلب التحقيق من المحكمة الجنائية الدولية، مقابل تقديم الدعم السياسي والمالي لها، كما فعلت الإدارة الأمريكية في عهد ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما لمنع توجهها إلى المحكمة.

إن نجاح المحكمة في مباشرة التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتوقف على مواجهة هذه التحديات وتجاوز العقبات الإسرائيلية والأمريكية من جهة، ويتطلب دعم وتعاون دولي مع المحكمة من جهة ثانية، ودعم عربي وخاصة من قبل الدول العربية المجاورة للأرضي الفلسطينية، لتسهيل وصول خبراء التحقيق إلى الأراضي الفلسطينية وتحديدا إلى قطاع غزة من جهة ثالثة، ويتطلب إرادة سياسية صلبة وقوية ومتماسكة من قبل دولة فلسطين حتى لا تخضع للضغوط الأمريكية والإسرائيلية، التي ستتكثف خلال الفترة المقبلة عليها لسحب طلب التحقيق الذي قدمته للمحكمة لمباشرة التحقيق في هذه الجرائم.

ان مواجهة هذه التحديات والعقبات وتوفير تلك الضمانات والمتطلبات الآنفة الذكر، سيشكل دعما كبيرا لقيام المحكمة بمباشرة التحقيق في جرائم الاحتلال، ودون ذلك سيجعل قيام المحكمة بمباشرة التحقيق أمراً صعبا وبعيد المنال، وقد يبدد أحلام ضحايا الاحتلال باقتراب ساعة القبض على مجرمي الحرب الإسرائيليين ومحاكمتهم امام المحكمة الجنائية الدولية، تلك الآمال التي طال انتظارها وقتا طويلا. 

*محام ومحاضر جامعي في القانون الدولي.                 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .