القدس: 18-2- 2021 ناقشت ندوة اليوم السابع المقدسية الثقافيّة الأسبوعية عبر تقنية “زوم” رواية “قبل أن يأتي الغرباء” للأديب المقدسي عبدالله دعيس، تقع الرواية الصادرة نهاية العام 2020 عن مكتبة كل شيء في حيفا، ويحمل غلافها الأول لوحة للفنان التشكيلي محمد نصرالله في 270 صفحة من الحجم المتوسط.
افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان وقالت.
رواية واقعية مغموسة بالخيال جرت أحداثها بين عامي 1775-1810على الساحة العربية التي كانت محط اطماع الغزاة.
قبل أن يأتي الغرباء هي الرواية الرابعة للروائي عبد الله دعيس.. رواية كتبها من روح التاريخ.. أهداها إلى شهداء القدس الذين أناروا سماء المدينة مدى عصورها ودهورها.. وإلى روح الشهيد إياد الحلاق الذي سقط عند بوابات الأقصى المبارك بوابل من رصاص الغرباء الذين لم ترق لهم خطواته البريئة كل صباح إلى قلب المدينة التي أحبّها.
تدور أحداث الرواية على مدار أكثر من عقدين من الزمن في الفترة التي كان الصراع في أوجه بين الدولتين الإستعماريتين بريطانيا وفرنسا للسيطرة على بلاد الشام.
يقوم ملك بريطانيا جورج الثالث بتكليف السير أرنولد ديزرائيلي لاستكشاف المنطقة العربية وتحديدا الأراضي المقدسة، وقد كان الأنسب لهذه المهمة، إذ تم اختياره لأنه كان يتقن اللغة العربية والتركية.. ولأن دراسته كانت في علوم الشرق الأوسط وحضاراته وتاريخه، ولأنه كان مطلعا على جغرافية المنطقة. فادعى أنه مسلم عربي من حلب، وأنّ اسمه الشيخ ابراهم الحلبي، وتقرّب من أهالي المنطقة لاستكشافها لينقل التفاصيل لبلده، لغايات السيطرة على المنطقة العربية.
أرنولد كان مسيحيا من أصل يهودي.. فقد اعتنق والده المسيحية عندما كان أرنولد في سن الثانية عشرة.. وقد تم نزعه من مدرسة دينية إلى أخرى.. ليتسبب هذا له بالصراع الداخلي .. وزاد من حجم التيه والضياع داخله.
أعجبني وصف الكاتب للصراع النفسي الذي كان يعيشه أرنولد.. وربط ذلك بالطفولة والظروف الصعبة التي عاشها والتي دفعت به الى امتهان الرحيل والاستكشاف.. لتجعل منه دائم السفر يهرب من الاستقرار.
ويلتقي بمريم الكسوانية الجميلة (أخت الرجال) التي ظلمها جمالها.. وكانت شؤما على العائلة والحمولة بعد أن دفنت أزواجها الثلاثة في ظروف مختلفة.
مريم أسرت قلب الشيخ ابراهيم الحلبي وانتهى الموضوع بزواجهما.
صنعت مريم له الحكايات.. وقادته في دروب البلاد.
وما شجعه أكثر على الارتباط بها اعتقاده بأنها عاقر لا تنجب، كما أنها على استعداد أن ترافقه في حياته غير المستقرة.. دائمة الترحال.
ويكتب الله لهما أن يرزقا بابنة أسمياها سارة.. فلجآ إلى قرية بيت السقاية حيث وضعت طفلتها هناك.. ولكن طبيعة الأب لا تحتمل الاستقرار.. فغادر بيت السقاية ليكمل تجواله.. ومن ثم تبعته مريم وتركت رضيعتها في حضن الجدة أم البلد والدة شيخ البلدة.
ولكن القتال والنزاع بين قبيلتي القيسية واليمنية يتسبب بدمار بيت السقاية وقتل رجالها وتشريد نسائها.. فيشكل لعنة على الإبنة سارة الفتاة الجميلة التي تعاني الأمرّين. وتخوض رحلة البحث عن أبويها، إلى أن ينتهي بها الأمر في مدينة القدس، حيث تحتضنها هناك عائلة أبو السعود المقدسية، وتزوجها من شاب تونسي.. ولكن اللعنة لا زالت تلاحقها حتى بعد زواجها، إلا أن قوتها التي ورثتها عن أمها مريم تمدها بالإصرار والثبات.. وفي النهاية يكون لقاؤها مع أبويها في القدس. فقد كان حل المعضلة في المدينة المقدسة. وهنا أرى أن الكاتب لم ينه الرواية في القدس صدفة ولا عبثا.. بل قصد ذلك.. إذ أن الصراع في منطقة الشرق الأوسط لن ينتهي ولن يتحقق السلام سوى باستقرار القدس.
كما أن الكاتب غلّب الضمير على الواجب.. فقد عاش السير أرنولد الذي عرف بالشيخ ابراهيم الحلبي في بلاد الشام، وأحبّ أهلها، وأدرك أنهم ضحية مؤامرة تسعى الى السيطرة على خيرات بلادهم، فلم يسلّم الوثائق والمعلومات التي تخدم الأهداف الاحتلالية إلى أسياده في بريطانيا، وقرر أن يغلّب ضميره، فرمى وراء ظهره مهمة تكليفه من الملك جورج الثالث، وعاش مع زوجته المناضلة مريم وابنتهما في القدس، على أمل أن يجدا فيها سعادتهم كأسرة اشتاقت أن يلتم شملها، وليعيشوا حياة مستقرة لأول مرة في حياتهم.
رواية جمعت التاريخ وقدمته على صورة لوحة متكاملة امتزجت فيها الألوان بنكهة أدبية.. ولغة أصيلة جميلة.. وأحداث شيقة زينتها بخيال محبب.
ملحمة أدبية تشكل إضافة إلى المكتبة العربية.
وقال نمر القدومي:
كيف للدموع أن ترأب صدع النفس وتمدّ قشّة النجاة لقارب تتقاذفه أعتى الأمواج؟ ألا تنضب هذه العين التي تجود بتلك الأنهار المنهمرة على الوجنات؟ ما نفع الدمع إن كان لا يبرّد حرّ الهموم ولا يفتح فرجة أخرى ونافذة نحو الحياة؟ أرى الأبواب موصدة وأقفالها صدأت، تطاردني أشباح الألم. لماذا أنا؟ “
هذه الملحمة جسرت الماضي بالحاضر، وعاد بنا الكاتب إلى العام ١٧٧٥ الميلادية حيث المكان ( فلسطين)؛ ليضع نصب أعيننا بعضًا من التاريخ القاسي التي عاشته هذه الأرض تحت وطأة الغزاة الغرباء، وكذلك تحت ويل الحروب الداخلية بين اليمنيين والقيسيين. وأيضًا النزاعات بين أعراب القبائل وقُطّاع الطرق.
( آرنولد ديزرائيلي ) الجاسوس الإنچليزي المُتخفي والملقب بالشيخ ( إبراهيم الحلبي) هو مدار الأحداث. تزوج من فتاة فلسطينية ( مريم الكسوانية ) وخلَّف منها ( سارة ) ليبدأ ذلك الصراع بين الضمير والسياسة القذرة. هذا الإنچليزي المبعوث من قِبل ملك بريطانيا في مهمة سرية أتقن خلالها اللغة العربية والصلاة وإعطاء الدروس الدينية، وضع العمامة وارتدى العباءة وراح يتجول في ربوع فلسطين. يدوِّن كل صغيرة وكبيرة لصالح إمبراطوريته.
قسَّم الكاتب هذه الرواية إلى أبواب مُعَنونة تُسيطر على مجريات تلك المِلحمة التاريخية التي عاشها شعبنا في الماضي. وفي كل باب يتوقف عند اللحظات الحاسمة والمشوّقة، ويتابع تنقله فيما بين الأماكن والأزمنة، وبين التاريخ والشخوص المتوافدة تباعا عبر صفحاتها، فخرج إلينا برواية إجتماعية سياسية تاريخية مُشَبعة بأدب الرحلات. نلمس فيها الموسيقى الدرامية تارة، ونسمات من الفرح تنعش القلوب تارة أخرى.
نجد في الرواية أسلوب ( المونولوج ) حديث النفس هو الغالب، وقد حازت” سارة” على نصيب الأسد لما عانته من ضياع أبيها وأمها اللذين تركاها طفلة وحيدة تائهة بين وحوش هذا الوطن.
هي الحقيقة النكراء التي دائمًا تُطل علينا عبر حقبات تاريخنا، ولتتجلى بوضوح في هذه الملحمة حين يطغى الجهل. فلم يكن شعبنا آنذاك مستعدا لبدء حياة جديدة بعد كل هزيمة. لم يبخل أديبنا بانتقاء الكلمات ذات المغزى المباشر، والتي تحمل في معانيها كل القوة المطلوبة للحدث. كذلك أكثر من المحسنات البديعية، فاستحوذ على عواطفنا بكلماته الجزلة الجميلة والبليغة، التي تُحاكي الأرواح عِبقًا ودلالة. فقد توالت الحبكات في هذه الرواية وامتد عنصر التشويق حتى وصل ذروته في معظم الأحداث.
وضع الكاتب “دعيس” جلَّ قدراته المتميّزة في رسم أجمل الصور الفنيّة على الإطلاق، وحبس الأنفاس التي طالت كل صفحات الرواية؛ البحث عن المفقود، المصير المحتوم، الإختفاء، رسائل غامضة، صراع ضمير، الفرح، الكآبة، الحزن، الدموع، وكان الموت هو سيد المواقف في هذا الوطن الجريح، الذي يرضخ تحت سطوة الحروب من أجل الإستبداد وفرض الهيمنة بقوة السلاح والأتوات والبلطجة.
أبدع كاتبنا في هذه الرواية بوصفه الدقيق لخلجات القلب والمشاعر الجياشة، التي تسكن دواخل الشخصيات بإسهابٍ وعمقٍ ورزانة وإنتقاء متميّز. وكانت الرواية باللغة الفصحى التي نالت الكثير من دموعنا، إمّا حسرة أو فرحا، لينتهي لقاء التائهين في موقف إنساني لا يمكن وصفه، ويضحي ذلك الزوج الإنچليزي بإمبراطوريته مقابل ذلك الجمال والأصالة والكرم العربي، التي أثرت عليه كليًا خلال سنين تواجده السبع في فلسطين وأيقظت ضميره، فيدفن كل أسراره ووثائقه وخرائطه في قبرٍ مجهول في مكانٍ ما لا تطاله أيدي الأعداء.
وقامت سهير زلزم بتحليل لوحة الغلاف فقالت:
الغلاف الذي يحمل لوحة للفنان التشكيلي محمد نصر الله يطغى عليه اللون الأزرق، وهذا اللون يعبّر عن الذكريات الأليمة، وهو ينطبق على ما مرّ بالشّخصيات الرئيسية في الرّواية، مريم وسارة.
الصورة على لوحة الغلاف لامرأة مغمور ثلاثة أربعاها في الرّمال، والمرأة ترمز إلى الوطن، وانغماسها في الرّمال يرمز إلى التّجذر في الوطن والتّشبث به، رغم وجود البحر الذي يأتي بالغرباء، ويحمل أبناء الوطن إلى المنفى والإبعاد. أمّا قبّة الصّخرة فهي مغروسة في الأرض تماما كالمرأة، فالقدس أصيلة كما المرأة، وهي هنا رغم كيد الغرباء.
أمّا البحر في اللوحة فهو هادئ، وتعلوه سحابة سوداء غريبة في وجودها، حيث أنّ السّحابة ممطرة على بحر هادئ! وربما تكون مجرّد مظلّة سوداء على بحر هادئ؛ فالبحر يأتي بالخير وهو مهوى الأفئدة، لكنّه في الوقت ذاته يأتي بالغزاة.
والشّاطئ في صورة الغلاف غامض غموض شخصيّة آرنولد المستشرق الحائر الذي هو مسيحي تارة وتارة أخرى يهوديّ أو شيخ حلبيّ.
وكتب جميل السلحوت:
يفتتح الأديب عبدالله دعيس روايته هذه بـ” هذه رواية خياليّة، تدور أحداثها بين عاميّ 1775 و 1810 للميلاد، وهي ليست سردا تاريخيّا ولا تأريخا لتلك الفترة.”
والقارئ لهذه الرّواية سيجد أنّ الكاتب لم يكتب تاريخا، لكنّه استفاد من تاريخ تلك الحقبة الزّمنيّة، وصاغها بقالب روائيّ على ألسنة أناس شعبيّين. ففي تلك المرحلة كان الصّراع محتدما بين بريطانيا وفرنسا للسّيطرة على المنطقة، وكانت حملة نابليون على الشّرق، والتي ابتدأها باحتلال مصر، وانتقل منها للسيطرة على بلاد الشّام، ودمّر غزّة ويافا، وتحطّم أسطوله عند أسوار عكا.
فما أن استقلت أمريكا عام 1979م من الاحتلال البريطاني، حتى بدأت حروبها الإستعماريّة، وكانت بداية غزواتها لطرابلس الغرب في ليبيا، وكذلك فرنسا هي الأخرى استقلت من الاحتلال البريطانيّ وشرعت هي الأخرى تنافس بريطانيا في حروبها الإستعماريّة، واحتلت العديد من الدّول الإفريقيّة ومنها الجزائر، تونس، المغرب موريتانيا. وقام نابليون بغزواته لمصر ولفلسطين.
وقد استغلّ المستعمرون الغربيّون الخلافات القبيليّة التي كانت سائدة في فلسطين، كالصّراع بين “القيسيّين واليمنيّين”، والذي حصد أرواحا كثيرة، كما استغلوا الجهل والتّخلّف لتحقيق أهدافهم.
ورد في الرّواية ثلاثة شخصيّات محوريّة وهي:
اللورد البريطاني أرنولد ديزرائيلي: والده مسيحيّ اعتنق اليهوديّة، والإبن عاش حالة ضياع بين اليهوديّة والمسيحيّة، أرسلته الحكومة البريطانيّة لدراسة أحوال بلاد الشّام التي كانت جزءا من الإمبراطوريّة العثمانيّة، تمهيدا لغزوها. فقصد حلب وتعلّم فيها العربيّة، وادّعى أنّه مسلم، لتسهيل عمله، وسمّى نفسه “الشيخ ابراهيم الحلبي”. ثمّ انتقل إلى فلسطين. تعرّض للأسر والموت أكثر من مرّة، لكنّ زوجته مريم الكسوانيّة كانت تنقذه في اللحظات الأخيرة.
مريم الكسوانيّة: كانت سيئة الحظّ، فأخوها مصطفى سقط وهو بصحبتها عن ظهر بغل ومات، وابن عمّها الذي كانت على اسمه، ليكون زوجا لها مات، وزكي قطينة الذي أراد خطبتها جرفته السّيول ومات، وتزوّجت من محمد الشّيخ حامد من قرية “حرم”قرب يافا مات، ثمّ تزوّجت من شخص آخر اسمه خضر وانقلب به قارب ومات غريقا، وتزوّجت من موسى من غّزة بعد وفاة زوجاته الثّلاث ومات برفسة بغل، فتعامل معها الآخرون كمنحوسة يموت من يقترب منها. وفي النّهاية تزوّجت “الشّيخ ابراهيم الحلبي.” وأنجبت منه طفلة أسموها “سارة“.
سارة: هي ابنة مريم الكسوانيّة والشّيخ ابراهيم الحلبي.”أرنولد”. عاشت في قرية “بيت سقاية”، وفي كنف شيخ ووجيه القرية، تعرّضت للسّبي في الخلافات القبليّة، ولم يتمّ زواجها ممّن سلبها، انتقلت إلى مدينة القدس، حيث عاشت في كنف أسرة مقدسيّة عريقة، وتعلمّت في الزّاوية الهنديّة، وتزوّجت من التّونسيّ عبد الرحمن الذي مرّ بالقدس في طريقه للحجّ، وعندما غادرت معه إلى تونس تعرّضت للإغتصاب على يد غزاة بريطانيّين، تمّ أسرهم. وواصلت طريقها مع زوجها إلى تونس، ثمّ عادت وزوجها وحمويها إلى القدس مرّة أخرى. وما لبثت أن اهتدت إلى والديها.
أهداف الرّواية: في تقديري أنّ الكاتب الذي سرد روايته عن مرحلة تزيد عن قرنين سابقين من تاريخ فلسطين، أراد أن يعيد إلى الأذهان بأنّ مرحلة التّمزّق والهزائم التي نعيشها الآن، والتي تتيح الفرصة “للغرباء” لتحقيق أطماعهم، ليست جديدة، فقد سبق وأن عاشها آباؤنا وأجدادنا قبل أكثر من مائتي عام، فهل نتّعظ من التّاريخ؟
الأسلوب واللغة: واضح لمن قرأ روايات الكاتب عبدالله دعيس السّابقة، أنّ الكاتب قد طوّر أسلوبه الرّوائيّ بطريقة لافتة، فالرّواية المكتوبة باللغة الفصحى التي تعجّ بفنون البلاغة لا ينقصها عنصر التّشويق، والسّرد سلس انسيابيّ لا يثقل على القارئ.