جلس على برشه قبل موعد العدد المسائي، في هذا الوقت تكشف الصحراء في هذا المعتقل العسكري الصحراوي عن جمالها، سماء صافية وشمس الأصيل ترسل أشعتها، يتلون الشفق بالبرتقالي على خلفية السماء الصافية، لكن الجمال الذي يتلوه، السماء المرصعة بالنجوم تغتاله أضواء الكشافات المحيطة، مرة واحدة ظفر بذلك الجمال حين انقطعت الكهرباء فجأة وانطفأت الكشافات، كم كان منظر السماء رائعاً، خاصة مع الهدوء الذي خيّم على الخيام، يبدو أن الدهشة وجمال المنظر قد جعل الجميع يصمتون ويحدقون في صفحة السماء التي تزينت بقناديل النجوم، لم يدم الأمر يومها لأكثر من دقيقتين. تذكر تلك الأيام التي كان فيها طليقاً، كان يحب السفر، تذكر رحلاته القصيرة أيام الدراسة الجامعية مع ثلة من زملائه، وتلك الليلة حين خيموا في المدينة الساحلية، لم تكن السماء بذلك الجمال لأن أضواء المدينة كانت تنتشر في الأفق. ليته خيّم يوماً في الصحراء ليتذوق هذا الجمال دون منغصات الاعتقال ودون الكشافات المبهرة التي تملأ أضواؤها الفضاء.
هذا الوقت بعد الجلسة المسائية للرفاق في خيمته وقت مفتوح للانفراد بالنفس، وكأن هناك اتفاقاً غير مكتوب أن يخلو كلٌّ إلى نفسه ويسرح في عالمه الخاص الذي يستحضره من ماضيه، ومن صور العائلة، ومن ذكريات المدينة أو القرية أو المخيم. المدخنون يدخنون سجائرهم التي وفروها من السجائر القليلة التي يحصلون عليها من إدارة المعتقل، والبعض يرتشف معها بعض القهوة التي وضعها جانباً من قهوة الصباح. أما هو فلا يدخن، يتبرع بحصته من السجائر للمدخنين النهمين ويحاول أن يكون عادلاً في ذلك. يستغل هذا الوقت كما يستغل وقت الصباح الباكر للقراءة إن وجد كتاباً أو لكتابة خاطرة أو قصيدة أو قصة قصيرة أو مقالاً ليوزع على الرفاق في هذا القسم والأقسام الأخرى. لكنه سيكون هذا المساء مشغولاً، ولن يخلو مع نفسه طويلاً. عليه أن ينسخ نسخة أخرى من مقال اليوم لأن الرفيق الذي قذف الرسالة بين القسمين خانته يده فقصرت القذيفة وسقط الكيس الذي يحمل الرسالة، مربوطة إلى حجر، بين الأسلاك الفاصلة بين القسمين. كيس بلاستيكي وحجر يحملان المادة المكتوبة ويطيران بها فوق الأسلاك التي تفصل قسمه عن القسم المجاور، وستعبر منه إلى الأقسام الأخرى. مهمة الإرسال تسند لذوي العضلات والمتدربين على رمي الحجارة. عاد الرفيق الرامي إلى الخيمة بخجل ليقول بأن رميته قد قصرت وأن الرسالة سقطت عند طرف سور الأسلاك الشائكة المحيط بالقسم المجاور. هوّن الأمر عليه حتى لا يشعر بالذنب “لا شيء مهم في الرسالة، مجرد تحليل سياسي، سأعيد نسخها، ونحاول مرة أخرى”. اقترح عليه الرفيق أن ينسخها بدلاً منه، فمازحه ليخرجه من حالة الشعور بالذنب “ومن سيحلل خطك اللي مثل خرابيش الجاج”.
لم يكد ينتهي من نسخ المقال حتى جاءه أحد الرفاق يطلب منه أن يساعده في كتابة رسالة إلى خطيبته، “أنا أقول لك أفكاري وأنت تكتبها بعبارات جميلة وبخطك الجميل”. ابتسم في وجهه موافقاً. فكّر، الخط الجميل مصيبة على صاحبه، مهارة تتعب صاحبها في السجن، يلزم لكتابة الرسائل ولاستنساخ الدفاتر التثقيفية والتعاميم، كما الرسم، الكل يريدون من صديقه الرسام أن يزين لهم رسائلهم، لكن الرسام أصبح يرسم رسوماً محدودة في زاوية الرسالة وينهيها بسرعة، يحفظها عن ظهر قلب، أما هو فماذا يفعل؟ جلس صاحب الرسالة إلى جانبه، كانت أفكاره قليلة، فكتب بخط كبير ليملأ أكبر مساحة في صفحة الرسالة، وسلمه إياها. عاد في ذاكرته إلى أيام طفولته حين كان يتفنن في كتابة الرسائل لنساء الحي اللواتي يقصدنه ليكتب لأبنائهن المغتربين، كنّ يطلبن من أبنائهن أن يستمروا بالمراسلة ويؤكدن لهم “أن الرسالة ثلثين المشاهدة”. كان يبدأ الرسالة بعبارة “سلام سليم أرق من النسيم على قلب العليل” ويتبعها بعبارة “إن سألتم عنا فنحن بخير ولا ينقصنا سوى مشاهدة أنواركم البهيّة”، ثم ما تريد الأم قوله. وبعد أن يتم الرسالة يقرؤها على مسمع صاحبتها ليستمتع بإطرائها ودعواتها.
بعد أن أنهى رسالة الرفيق إلى خطيبته، قرر أن يكتب الجزء الأخير من رسالته الأسبوعية، غداً سيجمعون الرسائل لإرسالها. الرسالة في ظل الحرمان من الزيارة تشكل تعويضاً مهماً، ضحك وأكد لنفسه أيضاً “فعلاً، الرسالة ثلثي المشاهدة”. قرر هذه المرة أن يكتب في الجزء المتبقي من صفحة الرسالة لصغيرته. طلب من صديقه الرسام أن يرسم له شيئاً بعد أن استطاع هو أن يرسم فراشة صغيرة، فرسم الصديق صورة لحنظلة وهو يحمل زهرتين. كتب لها
“حبيبة بابا، سلامات لك ولماما، إن شاء الله إنك مبسوطة وبتروحي على الروضة دائماً، انبسطت كثير على الكلمات اللي كتبتها بخطك في رسالة ماما، ظلي اكتبي. هاي صورة ولد اسمه حنظلة رسمها صديقي الرسام، هذا حنظلة ولد فقير وشاطر كثير، وهاي الفراشة حلوة وتحب الأزهار، تطير في الربيع من زهرة لزهرة، أنت كذلك فراشة حلوة، فراشة شاطرة، لما بكتب لك كأني بشوفك، وأنت لما تقرأي الرسالة كأنك بتشوفيني، مش هيك؟ باي باي، وهاي بوستين، ثلاث من بابا”.
على الوجه الآخر من الرسالة كتب اسمه ورقمه الاعتقالي 16093، كما تقضي تعليمات السجان، وطواها.