غيّب الموت يوم 16 ديسمبر2020 الأديب الفلسطيني جمال بنّورة، المولود عام 1938 في مدينة بيت ساحور.
وأديبنا الرّاحل رجل عصاميّ من جيل الأدباء الذين عرفوا باسم جماعة “الأفق الجديد”، وهي مجلة أدبية أصدرها أمين شنّار بين 1861-1966 في القدس في ستيّنات القرن العشرين، ومن كتّابها: محمود شقير، خليل السّواحري، الشّهيد ماجد أبو شرار، محمد البطراوي، الشاعر عبد الرّحيم عمر، حكم بلعاوي، صبحي الشّحروري، ابراهيم العلم وآخرون. لكنّ الأديب جمال بنّورة لم ينشر فيها كما قال لي ذات يوم.
عرفت جمال بنّورة منذ ما يزيد على خمسين عاما، وعند التّأريخ للحراك الثّقافي في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في حرب حزيران 1967 لا بدّ من التّذكير ببعض الأدباء الذين صمدوا على أرض الوطن، وشكّلوا رافعة أدبيّة وقدوة لجيل الشّباب الذين ظهروا في مرحلة بعد الاحتلال، وما صاحبها من صدمة الاحتلال الذي أهلك البشر والشّجر والحجر، ومن هؤلاء الأدباء القدوة محمود شقير الذي نشر قصصه في صحافة الحزب الشّيوعي الإسرائيلي “الإتّحاد والجديد” باسم محمود عبدالحافظ. وذلك بسبب توقّف الصّحافة التي كانت تصدر في القدس عن الصّدور، لكن محمود شقير اعتقل في العام 1969، لمدّة تسعة أشهر، ولاحقا اعتقل في العام 1974، وأبعد إلى لبنان عن أرض الوطن في العام 1975. وكذلك الكاتب خليل السّواحري الذي أبعد في حزيران 1969 إلى الأردنّ. وممّن بقوا في أرض الوطن من الكتّاب جمال بنورة، محمد البطراوي، صبحي الشحروري، د.ابراهيم العلم، وفي قطاع غزّة: عبد الحميد طقش، صالح زقّوت، محمّد أيّوب وابراهيم الزّنط.
عمل جمال بنّورة في التّدريس، وهو قاصّ وروائيّ ملتزم، يكتب القصّة الكلاسيكيّة، وتعرّض للإعتقال والتّعذيب أكثر من مرّة، وهو واحد من مؤسّسي رابطة الكتّاب الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة، والتي اندمجت في اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين بعد إقامة السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في العام 1994، وشغل عضوا منتخبا في هيئتها الإداريّة. وقبل تأسيس الرّابطة كان أحد المؤسّسين والمشاركين عام 1977 في تأسيس “اتّحاد كتّاب البيادر”، والبيادر هي المجلّة التي أسّسها جاك خزمو في القدس. وفي العام 1978 تأسّست دائرة الكتّاب في الملتقى الفكري العربي في القدس، وكان جمال بنّورة، واحدا من اللجنّة الإداريّة للدّائرة مع محمد البطراوي وعلي الخليلي. وعندما تأسّست مجلة الكاتب لصاحبها ورئيس تحريرها أسعد الأسعد كنت وجمال بنّورة عضوين في هيئة تحريرها.
وقد صدرت لجمال بنّورة مجموعات منها «العودة» دار القدس 1976 و»الصديق القديم» دار التقدم في القدس 1980 ومجموعة الحصار «القدس» 1980 و»حكاية جدي» دار الكاتب الفلسطيني، «القدس» 1981 و»الشيء المفقود» (1982) و»الموت الفلسطيني» (1986) ومن هذه الأخيرة صدرت طبعة ثانية عن دار الكرمل في عمان عام (1987) وصدرت له ثلاث روايات بعنوان «أيام لا تنسى» 1990 والثانية بعنوان «انتفاضة» و”ما زال الحلّ”. وله مسرحيتان أولاهما بعنوان «الموت ونحن على ميعاد» والثانية بعنوان «السجين».
واهتمّ الرّاحل جمال بنّورة بالتّراث الشّعبيّ في مدينته بيت ساحور، وجمع ما استطاع جمعه منه، ومنها أغاني السّامر السّاحوري، وأذكر أنّه أطلعني قبل حوالي عشرين عاما على مخطوطته عن التّراث، ولا أعلم إن كانت صدرت في كتاب أم لا.
عندما كتبت روايتي الأولى “ظلام النّهار” التي صدرت عام 2010 عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، عرضتها على زميلي جمال بنّورة لإبداء الرّأي والمشورة والتّقييم، فردّ عليّ بعد قراءتها:”لقد كتبت ما لم نستطع كتابته بجرأة متناهية، وروايتك ناجحة بكلّ المقاييس.”
والأديب بنّورة انحاز إلى طبقة العمل والفلاحين والكادحين في فكره، وتحلّى بفكر يساريّ مستنير، وشارك في النضّال ضدّ المحتل، وتعرّض للإعتقال. وهو رجل محافظ جدّا في حياته ومسلكيّاته، محبّا لأسرته، ومن شدّة حبّه ووفائه لزوجته الفاضلة، فإنّه لم يتحمّل وفاتها عندما اختطفها الموت قبل حوالي خمس سنوات، حيث عانى أحزانا لا تنتهي، فلم يهنأ بعدها بالحياة، وداهمته الأمراض حتّى وفاته.
والأديب الرّاحل تحلّى بالأخلاق العربيّة الحميدة، فكان كريما مضيافا، شهما ذا مروءة، مستقيما في سلوكه، وكان في فصل الشّتاء يعتمر الكوفيّة باستمرار، ومن شدّة استقامته في سلوكه فإنّي أجد من المناسب في هذه العجالة أنّ أذكر عندما التقيت رجلا في الخمسينات من عمره من بلدة العيزريّة التي درّس فيها الأديب بنّورة ثلاثة وعشرين عاما، وتطرّق بإعجاب في حديثه عن وفاء وقدرات معلّمه جمال بنورة، فقال: درّسنا معلّم مخلص حريص على تعليم تلاميذه من جماعة الإخوان المسلمين، اسمه جمال بنّورة!
فقلت له باسما: جمال بنّورة أديب معروف، وهو مسيحيّ الدّيانة.
لكنّ الرّجل لم يقتنع، وجاءنا رجلان آخران يكبرانه عمرا، وأكّدا معرفتهما بالأستاذ جمال بنّورة الإخوانيّ المتزمّت! ولم يقتنعا أنّه مسيحيّ الدّيانة!
وفي ثمانينات القرن العشرين توفّي والد الأديب جمال بنّورة، فذهبت ومجموعة من الأصدقاء لتقديم واجب العزاء، فقال أحدهم:
عادات مسيحيّي بيت ساحور في العزاء أنّهم يقدّمون قليلا من “العَرَق” للمعزّين، وهذا ما شاهده عندما قدّم العزاء بوفاة أحدهم قبل ذلك التّاريخ بشهر، فتساءلنا عن كيفيّة التّصرّف إذا قدّموا لنا “العَرَق”! فقال أحدنا: هم يعرفون أنّنا مسلمون لا نحتسي الخمور، وسنعتذر عن ذلك وبالتّالي فإنّهم سيقبلون عذرنا. وعندما وصلنا بيت العزاء وجدناهم يقّدمون للجميع القهوة المرّة”السّادة” فانفرجت أساريرنا.
فالرّحمة للفقيد الرّاحل جمال بنّورة الذي ترك إرثا أدبيّا وسيرة حسنة وذكرى طيّبة، والعزاء لأبنائه ولكريماته ولعائلته الكريمة، ولمن عرفوه، ولمن تتلمذوا على يديه.
22-12-2020