د. سامي الكيلاني: ندبة في ظاهر اليد-قصة قصيرة

مددت يدي معزيّاً أيمن بوفاة أخيه خليل “عظم الله أجركم، البقية بحياتك”، وقع نظري على الندبة القريبة من الإبهام في ظاهر يدي وهي متشابكة مع يده، تذكرتها وكأنها كانت غائبة عني.
***
كان صيف القرية موسماً خاصاً من نواحٍ عدة، أهمها عودة المغتربين العاملين خارجها لقضاء إجازاتهم، وقدوم أبنائهم بقصص وحكايات يسردونها على مسامع أطفال القرية حول الحياة التي يعيشونها في المدن، فنفتن بهذه الأحاديث، خاصة وصفهم لأفلام السينما التي شاهدوها، ونتحسر على حالنا. وكان الصيف في الوقت ذاته موسم “العزايم”، حيث يدعو المقيمون الأقارب والأصدقاء العائدين لتناول غداء أو عشاء، وذلك ترحيباً بعودتهم وشكراً لهم على هدية حملوها لهم. كان العائدون يأتون في إجازات عمل من الكويت أو السعودية في الغالب، إضافة إلى الذين بدأوا العمل في الإمارات المتصالحة في الخليج العربي، هذا الاسم الذي تعلمته من طوابع البريد التي كانت على الرسائل التي تصل جدي من خالي المغترب في أبو ظبي بعد مغادرته الكويت. كانت العزايم ترحيباً بالعائدين ولكنها أيضاً فرصة لأفراد العائلة، خاصة الأطفال، للحصول على أطباق مشتهاة تحوي الرز واللحم، بعيداً عن البرغل وطبخات الخضروات “الكذابة”، أي التي تخلو من اللحوم، فيومها كان مثل “العز للرز والبرغل شنق حاله” وصفاً حقيقياً للحال.
كانت الدعوة لقريب وصديق لأبي جاء مع عائلته في إجازة. طلبت مني أمي أن أذهب لشراء اللبن الرائب من مطعم اليافاوي، إذ يبدو أن “مانوحتنا” لم تكن تدر حليباً في ذلك الوقت لأنها “معشرة”، أو أننا كنا في مرحلة انتقالية بين بيع الغنمة التي نقتنيها عادة ك”مانوحة” وشراء واحدة غيرها. حملت الطنجرة الألمنيوم الصغيرة والمبلغ في داخلها ووضعت الصندل البلاستيكي في قدمي وانطلقت لأداء المهمة المطلوبة. عندما وصلت الحارة المجاورة لحارتنا في منتصف المسافة بين البيت والمطعم التقيت بعدد من الأصحاب من أبناء الحارة، بينهم ابن صفي خليل. وقفت معهم قليلاً، تحدثنا، انتبه خليل لقلم ملون من الحبر الجاف أحمله في جيب قميصي. تناوله وتأمله، وقرر أن يمزح معي مزحة ثقيلة، مزحة أو شيطنة، رمى القلم ليسقط القلم على سطح بيت قديم مجاور. استنكرت فعلته، وربما شتمته، وكان لا بد من أن أستعيد ذلك القلم، الذي حصلت عليه من معلم قريب لنا تقديراً لاختبار أجراه لي بكلمات باللغة الإنجليزية إذ أبهرته بمعرفة كلمات متقدمة على ما يعرفه تلاميذ الصف السادس. كان البيت ملاصقاً لخرابة صغيرة، عبارة عن بيت صغير انهار سقفه فحوّله الجيران إلى مكب لنفاياتهم. تسلقت جدار الخرابة ومنها إلى سطح البيت وتناولت قلمي. فعلت ذلك كله وأنا ممسك بالطنجرة الصغيرة وبداخلها المبلغ الذي سأدفعه ثمن اللبن. بدأت الرجوع سيراً على الجدار لأنزل منه إلى داخل الخرابة ثم إلى الشارع. انفلت حجر من الجدار من تحت قدمي فوقعت داخل الخرابة التي تحوي كل ما يلقيه الجيران فيها من نفايات من بينها أوانٍ زجاجية محطمة. نهضت ساحباً يدي التي كانت وسط كومة النفايات، فانطلق دم غزير من ظاهر يدي، ينشّب في الهواء، جرحان كبيران، أحدهما يتضمن قطعاً في وعاء دموي جعل الدم ينطلق كنافورة. تجمع الأولاد وبينهم خليل يولول ويعتذر. كنت ممسكاً يدي اليمنى الجريحة بيدي اليسرى وقلت لهم أن يجمعوا الطنجرة والقروش المتناثر، أما القلم فكان في جيبي. خرجت سيدة من بوابة البيت المجاور على ضجيج الأولاد وصراخهم، أدخلتني إلى ساحة بيتهم الصغير، كانت في غاية اللطف وحاولت تهدئتي، وحاوت معالجة الوضع بالأساليب التقليدية بوضع كمية من البن على الجرح دون فائدة، فتدخلت ابنتها التي حضرت من داخل الدار وحسمت الأمر بأن نسرع إلى العيادة. كانت نافورة الدم مستمرة رغم ضغطي على الجرح، ركضت باتجاه العيادة وخلفي فوج الأولاد يحملون الطنجرة وفيها المبلغ وأحدهم يحمل فردة الصندل التي فلتت من قدمي.
وصلت العيادة، ولحسن حظي كان الممرض موجوداً. ممرض العيادة اللطيف أبو ريرو، وهكذا كنا نسميه، العنصر الطبي الوحيد في العيادة التي يأتيها الطبيب مرة في الأسبوع، كان يعتبر “الحكيم” الذي يداوي المرضى ويستدعيه الأهالي في حالة الطوارئ، فالقرية دون طبيب. ريرو هو اسم التدليل لابنه الأكبر هنري، فهو مسيحي من الكرك جاء يعمل في العيادة التي تديرها وكالة الغوث الدولية وتعالج اللاجئين في القرية ومحيطها ومعهم أهل القرية أيضاً، وعاش في القرية كواحد من أهلها.
بدأ الممرض بوضع طبقة من الشاش والقطن وضغطها على الجرحين المتقاربين فانتقعت بالدم فأضاف طبقة جديدة فكان مصيرها كسابقتها، ثم ثالثة فكانت أقل تبقعاً بالدم، وأضاف طبقة رابعة وبدأ بشدّ الضمادة التي وصلتها بقع صغيرة هي الأخرى، وقال لي أن أراجع العيادة بعد يومين، بالطبع لم يصرف لي أي دواء، ولم يكن بإمكانه أساساً أن يخيط الجرحين. حملت الطنجرة وذهبت إلى مطعم اليافاوي، والدم على ملابسي، لشراء اللبن. سألني صاحب المطعم مستغرباً عن المنظر فأجبته أنني وقعت. حملت الطنجرة باليد السليمة وأسندتها للتوازن باليد الجريحة.
عندما وصلت الممر المؤدي إلى بيتنا كانت أمي تقف منتظرة عودتي بقلق، فقد غبت أكثر من المتوقع بكثير، وربما كانت قد حضّرت لي تقريعاً شديداً إن كنت قد تأخرت بسبب لهوي باللعب، ولكنها صعقت من المنظر، وسألتني ما الذي حصل؟ لا أذكر فيما إذا كنت قد أخبرتها أنني وقعت دون أن أذكر اسم خليل، أو ما الذي قلته بالضبط. أدخلتني إلى البيت وأجلستني على الفراش الذي كان معداً لاستقبال الضيوف.
طلبت أن أستلقي، كان الألم يفاقم التعب، والتعب يمد الألم بموجات إضافية. وضعت لي “جنبية” ووسادة إلى جانب الفراش المعدّ للضيوف، فغطست في نوم عميق.
فتحت عيوني، كانت عتمة الغروب الخفيفة قد بدأت تخيم على البيت متنافسة مع بقايا الضوء القادم من الشباك الغربي الصغير. تقلبت ثم صحوت تماماً على ألم يدي. ناديت “يمّا”، فدخلت مسرعة واستفسرت عن حالتي، ولم تنتظر جوابي، أمسكت بطرف كفي وقلبته مراراً بلطف، “سلامتك يا حبيبي، بتوجعك؟”. هززت رأسي وقلت مكابراً “شويّة”. تناولت من “النملية” صحن رز وعليه قطعة لحم وصحناً آخر مجوّراً فيه اللبن المطبوخ، “إنت ما أكلت اليوم، قوم كل”. اعتدلت، ووضعت الصحنين أمامي ثم ناولتني ملعقة. أمسكت الملعقة بيدي اليسرى السليمة، تناولت ملعقتين من الرز مع اللبن وقطعة صغيرة من اللحم. لم أشعر برغبة في الاستمرار، وقررت العودة للنوم. حاولت معي أن آكل ولو لقمة أخرى، قلت لها “بعدين” ومددت جسدي محاذراً أن تصطدم يدي بالفراش أو الأرض. حملت الطعام وابتعدت وتمتمات دعائها تتسلل إليّ مع موجات الألم والنعاس.
***
سامحت خليل مجدداً بيني وبين نفسي، لأضيفها للمسامحات الكثيرة التي كان يطلبها مني كلما التقينا منذ يوم الحادث حتى آخر لقاء بيننا. كان يمسك بيدي ويتأمل الندبتين ويطلب أن أسامحه، سامحته اليوم ربما للمرة الألف. لم أره منذ سنوات طويلة. بعد المدرسة، ذهب ودرس في الخارج ثم بدأ العمل مدرساً في الكويت، وفقد تصريح السفر الذي يسمح له بالعودة إلى الوطن، حرمه الاحتلال الإسرائيلي من هذه العودة كالكثيرين، وخرج من الكويت بعد الاحتلال العراقي لها. استقر خليل في الأردن يعمل سائق سيارة أجرة، كما كنت قد علمت من أخيه في مناسبات سابقة حين ألتقيه وأسأله عنه. رحل هناك بسكتة قلبية حادة لم تمكنه حتى من الوصول إلى المستشفى.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .