البحر نَوّ.. قصة قصيرة  بقلم:  ميسون أسدي

 

منذ نعومة أظفاره، عشق موريس البحر، ويقال إنّه تعلم العوم قبل أن يتعلم السير على قدميه، فقد كان يرافق والدته إلى البحر ويمارس معها العوم، وقد بقيت الوالدة تمارس هوايتها هذه حتّى قاربت المئة من عمرها، لكن موريس اتّخذ منحى آخر يقرّبه من البحر، فاهتمّ بالملاحة وصار يعمل على ظهر سفينة تجارية، فهو بمثل حيوية ونشاط الطيور التي تحلق في السماء بحرّيّة، رغم أنّ صديقه أنطوان كان يحثّه على العمل في مجال الحسابات، لأنّهما كانا من أنجب الطلاب في المدرسة بهذا المجال. بالمقابل، أصبح أنطوان محاسبًا مشهورًا، وبقي على روابط الصداقة مع موريس.

تزوّج موريس من شابّة ذات أصول بولونية حسناء حزينة متواضعة، بالغة الحياء مرحة نظيفة كالسمكة بالماء ومثل هذه لا يعلق بها الرديء. وقد كان أنطوان يمازحه دائمًا بأنّ زوجته خرساء، لأنّها قلّما نطقت بكلمة أثناء وجود الغرباء. وكان موريس يردّ عليه ضاحكًا بأنّ معظم الرجال يتمنّون أن تكون زوجاتهم خرساء.

رغم الصداقة المتينة بين موريس وأنطوان، إلا أنّهما لا يشبهان بعضهما بالشكل أو الشخصية، فالأول رجل ذو عقل نشيط ولسان سليط، فائق الذكاء والتناقض، يلبس قبّعة بحارة ليست بجديدة، ويبقي قميصه مفتوحًا إلى النصف، يرتدي ثيابًا فرحة الألوان، ولا ينتعل الأحذية صيفًا وشتاء، يسير بالحفّاي بشكل دائم، يتحلّى بجمال أخّاذ يجعله محبوبّا لدى العديد من النسوة، وقد جعله البحر من عشاق المغامرات وقلبه قويّ، يجوب العالم وله أصدقاء وخليلات في كلّ ميناء، وما يميّزه أيضًا، أنّه يجيد العديد من المهن اليدوية، فهو الذي يقوم بتصليح أي خراب في بيته أو في أي بيت من بيوت الأصدقاء والجيران، ممّا جعله محبوبًا لدى الجميع.

أمّا أنطوان، فلباسه مهندم على آخر طراز، متأنّق إلى آخر درجة، حذاؤه من الجلد الإيطالي، ورغم أناقته، إلا أنّه يفتقر إلى الجمال ولديه نظرات منفّرة، تبعد الناس عنه، لذلك لم يستطع أن يجذب له أي فتاة وبقي أعزبا. معارفه هم زبائنه، لا أصدقاء حقيقيون. يمكث في مكتبه معظم ساعات اليوم ولا يزور سوى صديقه موريس، وهو في نفس الوقت، لا يجيد سوى عمله في الحسابات، ويستدعي الصنائعية لتصليح أصغر خراب في بيته، ودائمًا ما كان صديقه موريس يقوم بذلك إذا لم يكن على سفر.

تقضي زوجة موريس معظم أوقاتها وحيدة بالمنزل، بسبب غياب الزوج لأيام وأسابيع متنقلا بين بلد وأخرى على متن السفينة، وقد حاول أحد الجيران وهو محام، التودّد إليها لكنّها صدّته بقوّة لأنّها تعرف زوجته التي تزورها من حين لآخر. ممّا جعله يضمر لها الضغينة، وقد أخفى الأمر على مضض، خوفا من أن تعرف زوجته ما بدر منه. لكنّه اكتشف فيما بعد، أنّ صديق زوجها أنطوان يتردّد كثيرًا على الزوجة أثناء غياب موريس في رحلاته البحرية.. رغم أنّ أنطوان كان لا يخفي زياراته، فهو الذي يقوم بتلبية طلبات الزوجة من السوق وغيرها بطلب من صديقه موريس وهذا الأمر خفّف عنها كثيرًا.. وكما أن الانسان يتحرك غريزيًا نحو النقطة المضيئة فكذاك هي، كانت تائهة في وادي الأفكار تسعى لا اراديًا للبحث عن الطمأنينة النفسية نحو أنطوان، إلا أنّ المحامي الحقود لم يستسغ هذه الزيارات، فعمل على مراقبة أنطوان والزوجة بدقّة، حتّى اكتشف أن الزوجة تخون الزوج مع أعزّ أصدقائه. عندها، أخذ يحرّض الجيران على الزوجة وعشيقها، غسل نفوسهم بالكلام الفارغ وأوغر صدرهم عليها، وكال لها صاعًا أو صاعين من الكلمات التي لا تخلو من الوقاحة، فما كان من البعض إلا أن أسرع وأبلغ موريس بخيانة زوجته.  كان المحامي يشعر بالإهانة من قبل زوجة أنطوان فحركته مشاعر الحقد، واستغلّ أولّ فرصة ليفترسها كجرذ محبوس في قفص صغير جدًّا، وهي السمكة الصغيرة التي تسبح في بحر مليء بالحيتان.

كذّب موريس خبر خيانة زوجته في بادئ الأمر، ولم يصدّق ما سمعه، واعتبر الكلام إشاعة مغرضة من نساء غيّورات، إلا أنّ جاره المحامي، أصرّ على أن يثبت له حقيقة ما قيل، لغرض في نفس يعقوب، واقترح عليه أن يدّعي السفر ويقوم بمراقبتها، وأوصاه بمحقّق خاص يقوم بمثل هذه الأعمال..

ذهب موريس الى قبطان سفينته وطلب منه عطلة لمدّة شهر، وعاد إلى البيت وأبلغ زوجته بأنّه سيسافر في عب البحر ثانية، ثمّ ذهب واستأجر غرفة في فندق بعيد في البلدة.. خلال ذلك، كان جاره المحامي ينقل له التقارير المصوّرة من المحقّق التي تثبت بالأدلة الدامغة خيانة زوجته مع فانتازيا لا تنتهي، وفي نفس الوقت، أخذ يجري له معاملات قانونية، تدلّ على أن جميع ما يملك ليس له بل لأمّه وشقيقه الأصغر الذي يعيش في كندا، حتّى إذا تم الانفصال بينه وبين زوجته، تخرج من عنده “لا من ورا ولا من قدّام”.

بعد انقضاء الشهر، كان موريس يملك جميع البراهين التي تخولّه الطلاق من زوجته وإخراجها من بيته خالية الوفاض، فقد تقدم موريس للمحكمة ونفّذ ما خطّط له جاره المحامي.. وقد طلّقها وأبعدها عن بيته وشفتاها مهدولة الزاويتين قلقًا وشعورًا بالضياع الذي غزا وجهها حتّى كأنّها شاخت قرنًا من الزمن.. ولم تحصل زوجته بعد الطلاق سوى على نفقة أولادها الثلاثة.

انبلج الفجر تدريجيا فغسل بنوره العتمات وشعشعت الشمس بلون أصفر ناصع يعشي العيون حدّ الألم. انقطعت العلاقة بين موريس وأنطوان، وقرّر موريس قضاء بعض الوقت لدى شقيقه الأصغر في كندا ليدفن رأسه في ثلوج من الصمت.. كان الشقيق الأصغر في استقبال أخيه في مطار أوتاوا الكندي، وقد لاحظ عليه علامات الحزن والاستياء، فما كان منه إلا أن بدأ بالتخفيف عنه، محاولا قدر الإمكان الابتعاد عن موضوع زوجته… لكنّ موريس وبمجرد أن حطّ حمله في بيت أخيه، أنزل راسه بين كتفيه وتقنفذ وانفجر بالبكاء. عندها، خرج الشقيق الأصغر عن صمته وقال بغضب: اوه يا للسماء.. أنت تعشق البحر وتسافر كثيرًا ولك الكثير من الخليلات في كل مرفأ ولا تنكر أنّ لك أيضًا عشيقات داخل البلاد، ألم يسعك أن تسامحها وهي الوحيدة القابعة في بيتها تنتظرك لأيام وشهور؟  ألا تعرف بأنّه إذا اشتدّ النوّ في عرض البحر، ما على البحار إلا التصرف بهدوء وجعل قاربه مستقرّا حتّى لا تتقاذفه الأمواج ويغرق، وإن لم يفعل كذلك، فسوف تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؟

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .