د.صافي صافي أكاذيب المساء/ محمد رمضان الخضور/ عمان 2020

ليس من السهل علي قراءة مجموعة قصصية بصورة نقدية، بينما ربما أحسن ذلك مع الرواية، ولكن الصديق الجديد الكاتب محمد رمضان الخضور وضعني في هذه الزاوية، وأنا سعيد بذلك.

ربما، يشير العنوان “أكاذيب المساء” بشكل ما إلى محتوى المجموعة القصصية، فهي أشبه بالأحلام، والتأمل في الذات وما حولها، من نسج لقصص وأحداث مختلفة ومختلقة، لتعزيز هذه الذات، والبدء من جديد في نهار يوم قادم. ليس بالضبط أن كلام الليل يمحوه النهار، ولكنه بالضبط هو إعادة صياغة للهوية الحالمة، الناقدة، المتبصرة، المتأملة، وإن كانت أكاذيب ما بعد النهار.

يعزز ذلك الإهداء الذي قدمه الجبور في المجموعة “إلى الذين يحبون الوطن على أوراق مزقتها الريح والأماني، وقصائد ضاعت في دفاتر الشعراء”. من الصعب، بل من غير المقبول تحليل هذه الجملة الطويلة نسبياً، والمعبرة بشكل دقيق لمحتوى القصص قبل أن نقرأها، لكني أدعي أنها تنطبق فعليا على ما جاء فيها، فهي بالتالي ليست أضغاث أحلام بقدر ما هي رؤية الكاتب، وأهدافه من كتابة قصصه.

لست معنياً كثيراً بما قدمه أصدقاء الجبور للقصص أو ما أخرّوه، فهذه وجهات نظر، قد أتفق مع بعض مقولاتهم، أو لا، لكني أعرف من تجربتي أن التقديم والتأخير للعمل الأدبي قد يحدد أو يؤثر على انطباعات القارئ، وبالتالي فعلينا محاكمة ما نقرأه وفق وجهة نظر كل منا، وليس من خلال كتاب آخرين حتى لو كان نقداً، وعادة ما تمنعني هذه التقديمات والتأخيرات من قراءة النصوص بشكل جيد، فأزيحها مؤقتاً بعدما أنهي قراءتي الخاصة، إلا أنني لم أفلح، ووجدت أن كتابتها لا يمثل المجموعة بدقة، فقراءة القصص أكثر متعة حين أؤجل هذه القراءات لأناس نحترمهم.

عادة ما تربكني كتابات المتخصصين باللغة العربية، فعادة ما تكون تقليدية، متحفظة، محافظة، لا تبتعد عن المجتمع كثيراً، فما بالك بالمتقاعدين الذين عادة ما يرجعون للحياة العادية، فأنا لا أحب العادي، بل أحب أن ترشقني القصص بدفقات تثويرية، متأملا في ذاتي نفسها، لكن قصص الجبور كانت عكس ما توقعته، فهناك شوق، وعين بصيرة، ونقد للذات بالمفهوم العام والخاص، وهناك تأمل فوق التأمل، وهذا أسعدني.

القصص المحتواة هي: وصول، وطن، خبر مفجع، ليس الآن، رسائل، جثة رجل آخر، موت الحصان والأمر 72، أكاذيب المساء، أبطال من ورق، رحلة، شواخص، فاكهة متنكرة، نافذة، من أنت؟، قرائح ميتة، أحلام طائرة، محاولة، انحناء، صور، اعتذار، حالة، جثة غامضة، زهرة الأمارلس، هذيان، لماذا، حوار، خسة وغدر، سر الابتسامة، مغادرة، البوابة السوداء، تشوه، فاصل.

إن استعراض بسيط للعناوين يوشي بدلالة المحتوى، فهي في معظمها قاتمة، وحالمة، ولم تكن النافذة مثلاً، نافذة للفرح، ولا زهرة الأمالس، ولا الابتسامة فرح، وبالتالي، ورغم أن عنوان المجموعة هو عنوان إحدى القصص، فإنها كلها تقع ضمن السياق نفسه “أكاذيب المساء”، فلماذا أكاذيب؟ أهي مثل الحواديث والحكايا التي نسمعها قبل النوم؟ لكن القصص هذه تقلقني، ولا تجعلني أنام مرتاحاً، بل ربما تأتيني في الأحلام، رغم أن أحد العناوين “أحلام طائرة”، فتنتهي حال انتهاء الحلم ربما، لولا كونها جزءاً من المجموعة.

ليست القصص جميعها بالطول نفسه، فهناك قصص قصيرة جداً، بينما يطول غيرها لصفحات عدة،
ورغم أختلاف الأحداث بين قصة والثانية، إلا أني وجدت نفسي في القصيرة جدا، فهي مكثفة، بسيطة، معبرة، وربما ممثلة لما يود الجبور قوله، وهنا استشهد بقصتين:

تشوه (عندما أراد الشاعر أن يستعير مفردة من مفردات العصر الذي يحضنه، ليكمل بها قصيدته الشوهاء، لفظته الحروف والكلمات إلى زمن أشوه)

فاصل (تلعثم …. تعتع …. تلكأ ….المذيع طويلا، وكثيرا وهو يحاول سرد أسباب انفجار ما، راح ضحيته مئات الأنفس البريئة، ثم واصل قراءة النشرة الاخبارية بعد أن توقف لبث فاصل دعائي عن مسحوق غسيل جديد)

ما لفت انتباهي في هذه القصص جميعاً، هو مزاج الكاتب، وهو المحور الأساس الذي سأتناوله.

أتيحت لي فرصة، قبل شهرين، استعراض حوالي مئة نص قصصي لشباب فلسطينيين، ومحاولة تحكيمها، فاحتوت هذه القصص: ألم، غضب، انتقام، حزن، موت، ضياع، فقد، صراع، صرع، دماء، عطش، صدام، انفصام، رحيل، هروب، دموع، هلاك، عتم، احتضار، جراح، غربة، خيانة، تشاؤم. وكانت النصوص المتفائلة، المحبة للحياة، العاشقة، قليلة، وتساءلت: ما هي الحياة التي تنتظرهم، وتنتظر المجتمع؟

في قصص الجبور أجد المزاج نفسه، رغم فارق الخبرة والعمر: ولا يمكن أن أحصي بدقة، الكلمات، والعبارات المعتمة: أحلام، ازدحام، أفكار، أكاذيب، ألم، انتظار، انفجار، إهانة، بشاعة، تجسس، تجهم، تسول، تشاؤم، تشرد، تشوه، تعب، تلعثم، تناثر، جبن، جثة، جحيم، جراح، جوع، حرب، خراب، خسة، خمول، خوف، خيبة، دجل، دماء، دمار، دموع، ذبح، ذل، رحيل، رعب، سخط، سقوط، سواد، شرود، شهادة، صحراء، صداع، صمم، ضجر، ضجيج، ضياع، ظلم، عتمة، عجز، عفن، عقاب، علقم، عنف، عهر، غثيان، غدر، غش، غضب، غفلة، فراغ، فزع، قتل، كذب، كسل، كهف، متهم، مجاري، مرض، مسمار، موت، نزف، نفاق، نوم، هذيان، هموم، وحشية، ويل …الخ

إذا كان كذلك، فما الذي شدني في هذه القصص؟

ربما أمران:

الأول: أن البيئة الثقافية التي يسميها “ضياع” في موقع آخر، ليست على ما يرام، فالبيئة المحيطة محبطة، معتمة، ليست سارة، وما الجمال الذي نبحث عنه في حياتنا، إلا مرحلة ضياع، فالصورة قاتمة.

الثاني: إذا كان الوضع كذلك، فيجب العمل على تغييرها، أن نقرأ النصوص بعكس ما توحي به، لنكون أفضل، ولتكون الحياة أفضل. هذا يعني أن علينا بذل جهود مضنية، في البحث عن الجميل، والثورة على كل ما هو قبيح.

لا أدعي أني ناقد، لكن القصص مثيرة للقراءة، ومحفزة للبحث في تفاصيل ما حولنا، والتأمل فيها، علّها تتغير.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .