كتب شاكر فريد حسن:
الكارثة التي حلت ببيروت قبل أسابيع بانفجار مرفأها، الذي يشبه إلى حد ما الانفجار في هيروشيما، هذه الكارثة الهمت الشعراء، فكان لبيروت نصيب كبير بل حصة الأسد من الشعر الذي حملها لحنًا حزينًا. فغنت لها آلاف الحناجر، وتضامنت معها الشعوب العربية في كل مكان، وتخضبت القصائد بالعذابات والآلام الإنسانية الصادقة.
ومن الذين كتبوا عن كارثة بيروت ومأساة شعبها، الشاعرة اللبنانية الرقيقة الناعمة، والنجمة التي تضيء سماء مدينتها، من خلال برامجها الحوارية، جولييت أنطونيوس، صاحبة ديوان “أغمض عيني لترى”، التي عاشت الحدث وحادثته بكل نبضة وآهة في داخلها ووجدانها، ففاضت روحها وجاد يراعها بفيض من الومضات والقصائد التي نشرتها على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي.
ومن هذه القصائد الحزينة الباكية العفوية المؤثرة والمتفائلة في الوقت نفسه قصيدتها ” ستقوم حقًا “، التي تقول فيها :
سكن الحريق وبالقلوب تسعّرا
بيروت كم قال التراب وعبّرا
يا زهرة فوق الأيادي تعلّقت
بيروت قولي أين أنتِ وما جرى
فقْدٌ وموتٌ مفجعٌ وظلامةٌ
لو لامست قلب الأصمّ تفجّرا
ماذا فعلتِ ليبرحوكِ تكاذُبا
في كلّ خاصرة ندوبا غائرة
ما كان جرمك كي تساقي عنوة
من حفنة جعلوا الهياكل متجرا
بالله قولي كم أثرتِ جنونهم
ليعلّقوا فوق اللّهيب جمالك
وصراخنا شقّ السماء مزمجرا
هل كان ذلك صرف دهرٍ غادرٍ
أم إنّ موتك كالمسيح تقدّرا
بيروت يا قدّيستي وأميرتي
القلب تخنقه الدموع تحسّرا
فتمرّدي وتحرّري وتوقّدي
لتحاكمي وتعاقبي المستهترا
قولي لهم بيروت مهما تمزّقت
“ستقوم حقّا” سالمة متفاخرة
قولي لمن قتلوا الربيع بمهده
ما مات برعم بالمدامع مُشْترى
بيروت يا نبض الحياة فإن بكَتْ
فوق الرّماد يطلُّ قمحا أخضرا
جولييت أنطونيوس كتبت قصيدتها بإحساس شفاف تلقائي صداق سلس وواقعي، فقد عاشت اللحظة الشعورية وتعايشت مع الحدث وعبرت عن هموم الوطن والشعب اللبناني وعواطفه بأسلوب شعري سلس واضح وطريقة مميزة، بعيدة عن الكليشهات والألغاز والكلمات المتقاطعة.
وجاءت هذه القصيدة وليدة الروح والقلب وتحاكي فيها جولييت بيروتها وتناجيها، وتنعتها بأحلى النعوت والأوصاف والصور، ونلمس فيها الحزن والأسى والشجن والوجع العميق جرّاء الانفجار المرعب في المرفأ الذي ذهب ضحيته العشرات فضلًا عن أعداد الجرحى.
إنها قصيدة تبث فيها الشاعرة هواجسها ومشاعرها وعواطفها المضطربة الصادرة عن روح ونفس مكلومة، وتزخر بصدق الشعور ولوعة الحزن العميق.
وأسلوب القصيدة في صنعتها الفنية وصياغتها الأدبية في غاية الروعة والجمال والعذوبة، وكلماتها تسلس القيود لنبرات العذاب وألحانها الحزينة التي تنفذ إلى أعماق ووجدان القارئ والمتلقي. ويتناسب فيها اللفظ والمعنى، ونلمح إيحاءات جميلة عميقة وأوصاف مثيرة، وصور حسية وحية مؤثرة تسجلها جولييت بشاعريتها الملهمة.
والحق أن رؤيتها لموضوع النص جاء وفق رؤية وأفكار واضحة وعميقة معًا، واستطاعت بهذا الوضوح والبعد السياسي والفكر المناهض للطائفية والمحاصصة البغيضة، التعاطي مع الحدث والارتقاء به والسمو بمستوى قصيدتها، ومن خلالها نستشف روح الثقة والتفاؤل بأن بيروت مهما تمزقت ستنهض من تحت الركام وتعود للحياة الطبيعية، رغم الكارثة والمحنة التي تمر بها.
فتحية طيبة وعطرة للصديقة الشاعرة جولييت أنطونيوس، وتمنياتي لها بدوام العطاء والإبداع الشعري المتجدد، وبانتظار ما يجود به قلمها السيَال من أناقة حروف وكلمات ونبض الروح والوجدان والإحساس.