لم يكن أمرا جديدا ولا مفاجئا خروج بعض اللبنانيين في مظاهرة احتجاجا على جريمة تفجير ميناء بيروت في الرابع ما أغسطس الحالي. فهناك أحزاب وقوى لبنانية تعاملت مع اسرائيل وسهّلت لها في صيف العام 1982 احتلال مناطق واسعة من لبنان تمتد من جنوبه وتعدّت بيروت العاصمة. ومن هذه الأحزاب التي كان لها السّبق في التّعامل مع اسرائيل حزب الكتائب، والقوات اللبنانية التي يتزعّمها سمير جعجع، وجماعة “حرّاس الأرز”. وجماعة “الوطنيّين الأحرار”. وكانت اسرائيل تزوّدهن بالأسلحة والتدريب في الحرب الأهلية التي شهدها لبنان بين 1975-1989. وقد اعترفوا بذلك علنا، ومنهم من شارك جيش الاحتلال في احتلال الأراضي اللبنانية وارتكاب مجازر بحق اللبنانيين والفلسطينييّن مثل مجزرة مخيمي صبرا وشاتيللا.
ومنهم من انشقّ عن الجيش اللبنانيّ وأعلن ولاءه للجيش الإسرائيليّ مثل جماعة سعد حداد وأنطون لحد، الذين أقاموا بؤرة للعمالة في الجنوب، وبقوا يحاربون وطنهم وشعبهم حتّى الإنسحاب الإسرائيليّ من الجنوب اللبناني في مايو العام 2000. وهروب جزء من هؤلاء العملاء معه.
ولا يخفى على أحد أنّ هناك أحزابا لبنانيّة ولها ممثّلوها المنتخبون في البرلمان، ولها وزراء في الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة، تعلن ارتباطها بإسرائيل التي تحتل مزارع شبعا اللبنانية والجولان السّوريّة وفلسطين التّاريخيّة. وهذه الأحزاب التي تأسّست لتمثيل طوائف وأقليّات ربّتها وثقّفتها على الخوف، وأنّها مستهدفة من طوائف أخرى في لبنان، بل من محيط لبنان العربيّ أيضا، لتبقى أيدي أتباعها على الزّناد للدّفاع عن أنفسهم بناء على الوهمّ المعشّش في عقولهم. وهذه الأحزاب تموّل من جهات أجنبيّة ومعاديّة وتخدم أجندات مموّليها. لذا فإنّ زيارة الرّئيس الفرنسي مكرون للبنان بعد فاجعة بيروت لم تكن عفويّة، ولا تضامنيّة، فالرّجل تصرّف وكأنّ لبنان مزرعة خاصّة له.
والسّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل القوى الإنعزاليّة في لبنان هي الوحيدة في العالم العربيّ التي تدعو لعودة القوى الإمبرياليّة لحكم أوطانها؟
وفي الواقع فإنّ موقع “إيلاف” الإلكترونيّ قد فتح صفحاته لهكذا دعوات منذ ما يزيد على ربع قرن، وممّن شاركوا في هكذا دعوات الرّوائيّ الفلسطيني الرّاحل أحمد أبو مطر الذي كان يعيش في السويد.
ورغم تعقيدات الوضع الدّاخلي في لبنان، والتّجاذبات السّياسيّة فيه، وولاءات قواه وأحزابه السّياسيّة، واستئثار بعض العائلات بزعامة هذه الأحزاب وسيطرتها بالوراثة على مقدّرات البلد وسياساته، والتي جعلت من لبنان جسدا ممزّقا متعدّد الولاءات، إلا أنّ دعوة البعض لعودة الإنتداب الفرنسي تستدعي التّوقّف والتّأمّل والتّفكير العميق. وتطرح تساؤلات كبيرة منها: هل الدّول العربيّة الأخرى مستقلّة وذات سيادة؟ وهل يتحكّم حكّامها بمقدّرات وثروات وسياسات بلدانهم؟ وإذا كنّا منصفين فإنّ غالبيّة الأنظمة العربيّة لا تتحكّم إلا برقاب شعوبها، وتفرّط بأوطانها، وتنفّذ سياسات من يحمونها ويتقاسمون ثراوات بلدانها، ويدفعون ثمن احتلال بلدانهم التي يتغّنون باستقلالها الذي لم يكن يوما إلا استقلالا شكليّا. ولعلّ تفجير بيروت ومينائها وموقف الأنظمة العربيّة منه، وبغضّ النّظر عن أسباب هذا التّفجير، إلا أنّ استغلال هذا التّفجير لا يخرج عن نطاق استهداف لبنان وقوى الممانعة فيه وفي غيره من البلدان، لخدمة المشروع الأمريكيّ “الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم المنطقة لدويلات طائفية متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ. مع ضرورة الإنتباه إلى دعوات قيادات سياسيّة لبنانية هي المسؤولة عن دمار لبنان وتخريبه على مدار عقود؛ لتشكيل لجنة تحقيق دوليّة بخصوص تفجير بيروت الأجراميّ، وتساند دعواتهم أنظمة عربيّة ودول امبرياليّة.
والحديث يطول.
11 –8-2020