كتب اياد الحاج:
كما تكثر في تمّوز الفواكه الصّيفيّة المتنوّعة والمميّزة، تكثر المناسبات الوطنيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة المتعدّدة والمميّزة كذلك، منها الخاص الذي لا يعني المجموع، وهو كثير، ومنها العام الذي يعنينا جميعًا، وهو ليس بكثير.
في يوم ميلادي، من هذا الشّهر، يصادف عيد استقلال الجزائر، بعد انتصار أكبر ثورة في القرن العشرين (5/7/1962)، وذكرى وفاة قائدنا وشاعرنا، توفيق زيّاد (5/7/1994)، وذكرى استشهاد الأديب الفلسطينيّ المتميّز، غسّان كنفاني (8/7/1972)، وذكرى حرب تمّوز التي قلبت موازين القوى في المنطقة (12/7/2006)، وذكرى استشهاد شاعرنا الثّائر، عبد الرّحيم محمود (13/7/1948)، وتصادف كذلك، ذكرى وفاة الشّخصيّة الوطنيّة اللّامعة، يني قسطندي يني (17/7/1962)، كما تصدمنا ذكرى وفاة رفيقنا المتميّز وصديقي الوفيّ، يني جورج لاذقاني (18/7/2013)، هذا الرّفيق الذي حمل باعتزاز اسم “ينّي” تيمّنًا بينّي ينّي.
كلّ واحدة من هذه المناسبات لها أهميّتها، ومن الضّروريّ إعطاؤها حقّها، وتخليدها في الذّاكرة الجمعيّة لنا كشعب، وكبشر، لما لهذه المناسبات من قيم قوميّة، وطنيّة، ثقافيّة، تاريخيّة وإنسانيّة؛ فهذه المناسبات هي ماضينا الذي شكّل حاضرنا، وبعضها مركّب أساس من مركّبات وجودنا وتكويننا ووعينا وثقافتنا، وبعض أبطال هذه المناسبات هم رموز ماضينا الذي يضيء لنا حلكة الحاضر، الذي تشتدّ حلكتة كلّما تقدّمنا في مسيرتنا نحو المستقبل، وما أحوجنا إلى هذه الرّموز، التي يلخّصها بيت أبي فراس الحمدانيّ الخالد، في قصيدة “أراك عصيّ الدّمع” الرّائعة:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم
وفي اللّيلة الظّلماء يفتقد البدر
أحد هذه الرّموز التي يجب أن تبقى في محور الذّاكرة الجمعيّة، هو طيّب الذّكر، ينّي ينّي، الشّخصيّة الوطنيّة، ورئيس مجلس كفرياسيف المحلّي، من عام 1934، وحتّى عام 1962، هذه الشّخصيّة المتميّزة بصفاتها، ومواقفها وسيرتها، يجب أن تتحوّل إلى جزء من المعارف الأساسيّة التي يكتسبها كل مواطن كفرساويّ، وكل عربيّ في هذه البلاد.
لقد كنت أستغرب من التّشديد المُفرط الذي كان يوليه، خالد الذّكر، القائد الشّيوعيّ، رئيس مجلس كفرياسيف المحليّ الأسبق، نمر مرقس، للرّاحل ينّي ينّي، وأعترف أنّني أدرك الآن، عمق ما كان يرمي إليه؛ فقد كان لا يوفّر مناسبة إلّا ويعدّد فيها أفضال هذا الزّعيم الوطنيّ ينّي ينّي، كما كان يسمّيه، لكي يذكّر بقيمة أعماله وتأثير مواقفه على حاضرنا، هذا الحاضر الذي كان من الممكن أن يكون أسوأ بكثير، لولا فضل هذه المواقف على بلدنا، وعلى شعبنا.
ومن هذا المنطلق قام نمر مرقس الذي شغل منصب رئيس مجلس كفرياسيف المحليّ من عام 1978 وحتّى العام 1998، بإصدار كتيّب، عن الزّعيم الوطنيّ ينّي ينّي، عام 1987، وذلك إحياء للذّكرى الخامسة والعشرين لوفاته، حيث بذل جهدًا شخصيًّا في جمع تفاصيل هامّة عن حياة ينّي الشّخصيّة والعامّة، كما وغذّى هذا الكتيّب ببعض الوثائق التّاريخيّة التي تدلّل على مواقف وأعمال هذه الشّخصيّة، التي ساهمت في تخليدها في الذّاكرة الشّعبيّة، والتي نقلت تأثيرها إلى دوائر أوسع بكثير من قرية كفرياسيف، لتصل إلى الجماهير العربيّة الباقية على أرض وطنها، وتساهم في هذا البقاء الكريم على أرض هذا الوطن العزيز.
ونحن نتقدّم، في هذه الفترة، نحو الذّكرى الخمسين لوفاة هذه الشّخصيّة الفذّة، وسنصلها بعد عامين، ونحن الآن في إدارة المجلس الذي أرسى دعائم بنائه وعمله ومشاريعه الخيّرة الرّاحل ينّي ينّي، فماذا سنفعل إحياء لهذه المناسبة الهامّة، وخصوصًا، ونحن نبتعد تاريخيًّا عنها، ممّا يعني ازدياد انقطاع الأجيال الصّاعدة عن رموز تلك الحقبة، فكيف نُحيي الماضي في الحاضر، وكيف نضيء هذه الرّموز التي يفوق نورها ضوء شجرة الميلاد، وفانوس رمضان، فكيف نرسّخ قيمة هذه الرّموز في وعي النشء الجديد، وفي الذّاكرة الجمعيّة الحيّة والمتطوّرة؟
لقد آثرت أن أطرح هذا الموضوع الهامّ مبكّرًا، “قبل الهنا بسنة” كما يقول المثل، من أجل أن يأخذ هذا الموضوع حقّه، ومن أجل أن يحظى بالاهتمام الكافي، والتّخطيط السّليم، والتّفكير الجماعيّ، وصياغة البرنامج الملائم لواقعنا بكلّ مستوياته. وأنا أقترح أن تتمّ برمجة حفظ تراث ينّي ينّي، وأن يجري نقل هذا التّراث إلى الأجيال الجديدة، بمختلف الوسائل التّعليميّة والطّرق التّربويّة، والإبداعات الثّقافيّة، بحيث يأخذ هذا الموضوع نصيبه في كلّ مؤسّسة عامّة من مؤسّسات البلد، بدءًا بالمدارس الابتدائيّة، وصولًا إلى مراكزنا الثّقافيّة.
إنّ السّلطة المحليّة هي المؤسّسة التي يجدر بها أن تبادر إلى هذا المشروع، فهي المسؤولة المباشرة عن هذا التّراث، وعن كل المؤسّسات العامّة في القرية، وهي الاستمرار الطّبيعيّ، التّاريخيّ، البلديّ، الثّقافيّ والاجتماعيّ لهذا الإرث الذي لا يقدّر بثمن. وهذا الإرث هو بشكل أو بآخر، هو هذا الحاضر الذي تبرز لنا معالمه، وتفرض نفسها على وعينا ووجودنا وشخصيّتنا، وللسّلطة المحليّة دور في التّثقيف، وفي بناء الإنسان، وفي تشكيل وعيه، فوظيفتها أكبر من توفير الخدمات المباشرة للمواطنين، وظيفتها أخطر من ذلك بكثير، لمن يريد أن يرتقي بوعي النّاس، وأن يوجّه الرّأي العام، وأن يؤثّر في اتّخاذ المواقف، وأن يطبع الصّورة العامّة لمجتمعه بأفكاره وقيمه وأخلاقه وبرنامجه على مختلف الأصعدة.
في سيرة حياة الرّاحل الكبير ينّي ينّي الكثير الكثير الذي يدعونا للاعتزاز به، ونقله للأجيال النّاشئة، وسأقتبس ممّا أورده رفيقنا وقائدنا، نمر مرقس، في الكتيّب الذي ألّفه إحياء للذكرى الخامسة والعشرين لوفاة طيّب الذّكر ينّي ينّي: “في سنوات الحرب العالميّة الأولى جنّدته السّلطات العثمانيّة للخدمة العسكريّة، وعمل في دمشق كضابط تموين (كما كان يروي لأقرب أصدقائه). وبعد انتهاء الحرب عاد إلى كفرياسيف متأثّرًا بما شاهد وعاش في دمشق. فبدأ نشاطه الاجتماعيّ وأقام مع نفر من أبناء جيله المتنوّرين، في بداية سنوات العشرين، جمعيّة أطلقوا عليها اسم “جمعيّة النّاشئة”. وكان من أعضائها معه: نجيب مرزوق أنيسة، سليم مرقس، طعمة عودة، خليل سعيد، كريّم فرح، خريستو ينّي (أخوه)، والياس حاج ينّي.
ونشطت هذه الجمعيّة في خدمة وتطوير المصلحة العامّة للقرية. فكان أعضاؤها، وفي طليعتهم ينّي ينّي يجمعون التّبرّعات الماليّة، ويعرضون المسرحيّات (كانوا يخرجونها ويؤدونها بأنفسهم) التي كان يشاهدها أهل القرية وأفراد من عكا وحيفا مقابل دفع رسوم. وريع هذه المسرحيّات، مع ما تجمعه الجمعيّة من تبرّعات كانت تصرفه على المصلحة العامّة. ومن ضمن ما يذكر أنّ هذه الجمعيّة عملت على إنارة زوايا وطرقات القرية ليلًا بقناديل الكاز.
وبعد تأسيس المجلس المحليّ في كفرياسيف (عام 1925)، صار أعضاء الجمعيّة يقدّمون التّبرّعات التي يجمعونها إلى صندوقه، ويتعاونون معه في خدمة المصالح العامّة وتطويرها” (صفحة 7 من الكتيّب).
هذه نبذة من البداية التي تدلّل على عطاء هذه الشّخصيّة، وعلى رؤيتها للمصلحة العامّة، وللسّلطة المحليّة، ولانخراطها في الشّأن العام، ولرؤيتها لدورها خاصة، ودور الفرد عامّة، في تقدّم المجتمع، وتطوّر القرية، وهو يغني عن كلّ الشّرح والتّفصيل.
والجدير ذكره أنّ هذا الزّعيم الوطنيّ مارس عمله كرئيس لمجلس كفرياسيف المحليّ من عام 1934، وحتى عام 1954، بدون مقابل، حيث كان منصب رئيس السّلطة المحليّة، بدون راتب، وكان ينّي يعتاش من أجرة الأرض التي كانت تملكها العائلة، وفي عام 1954، وفي هذا العام، فقط، أصبح الرّئيس ينتخب من قبل أهل القرية، بانتخابات عامّة، حسب قانون الانتخابات الإسرائيلي، وبناء عليه أصبح يتقاضى راتبًا مقابل عمله كرئيس للسّلطة المحليّة،أي بمعنى أنّه تلقى راتبًا كرئيس للسّلطة المحليّة، في آخر دورتين من تبوّئه لهذا المنصب، من عام 1954، وحتّى 1962، فكانت الحصيلة عشرين عامًا مجّانًا، وثماني سنوات مع راتب. وهذه الحقيقة تغني عن الكثير من الأقوال.
من الأعمال التي يجب أن تبقى ماثلة في الوعي يجب ذكر تصرّف ينّي كرئيس للسّلطة المحليّة بأموال التّعويضات التي دفعتها حكومة بريطانيا، عام 1940، لمجلس كفرياسيف المحليّ، تعويضًا عن حريق القرية عام 1939، والتي رفضت أن تسميها تعويضات، بل منحة (مبلغ أربعمائة جنيه فلسطينيّ): بناء المدرسة الابتدائيّة “ب”، مكاتب المجلس المحليّ، الطّابق الأوّل، ومخازن تجاريّة في ساحة السّوق. وبعد ذلك قامت السّلطة المحليّة برئاسته بإتمام تبليط طرقات البلد وساحاتها، افتتاح السّوق الأسبوعيّ، توسيع المدرسة الابتدائيّة، إقامة محرقة للنّفايات الضّارّة، بناء مجرى تحت أرضيّ لمياه المطر التي كانت تتجمّع في شارع العين، تأسيس المدرسة الثّانويّة، عام 1949- 1950، هذه المدرسة التي كانت وحيدة في منطقة الجليل الغربيّ والشّماليّ، فاستقبلت طلّابًا من هاتين المنطقتين، ومن عكا، ومن شفاعمرو، وقرى الكرمل، وقد بلغت هذه البلدات 46 قرية ومدينة، ربط القرية بشبكة المياه، تحضير خارطة هيكليّة للقرية تتضمّن احتياجاتها المستقبليّة … والأهم من كل ذلك هو الحفاظ على أراضي القرية.
جاء في الكتيّب الذي أعدّه رفيقنا نمر مرقس، صفحة 9، ما يلي: “ولكن المأثرة التي فعلها ينّي ويجب ألّا تُنسى، ضمن خدماته لكفرياسيف، فهي حمايته للأرض العامّة للقرية، عندما نقل ملكيّتها في تسوية الأراضي، عام 1946، من اسم المندوب السّاميّ البريطانيّ إلى اسم مجلس كفرياسيف المحليّ؛ بينما سُجّلت مثل هذه الأراضي في كلّ القرى الأخرى على اسم المندوب السّاميّ كممثّل للحكومة، وعندما قامت دولة إسرائيل، وبدأت عمليّات مصادرات ولطش أرض المواطنين العرب قامت يتسجيل هذه الأراضي على اسم الحكومة (الدّولة) وحرمت أصحابها من التّمتّع بها. ولم تستطع فعل ذلك في كفرياسيف”.
يفرد الرّفيق نمر مرقس فصلًا عن مواقف ينّي ينّي الوطنيّة، وكيف ثبّت بمواقفه أهل القرية، وكيف جنّبهم بحكمته ترحيلهم عن القرية، أسوة بالقرى المجاورة: عمقا كويكات، الغابسيّة، أم الفرج، النّهر، الكابري، البصّة، البروة، … وعن تحوّله إلى زعيم وطني، حتّى انتخابه رئيسًا للجبهة الوطنيّة العربيّة، التي أصبح اسمها “الجبهة الشّعبية”، وذلك في مؤتمرها التّأسيسيّ، في 6/8/1958، هذه الجبهة التي كانت أوّل تحالف معلن بين الوطنيّين والشّيوعيّين، فأصبحت مثلًا يحتذى في الكفاح الوطنيّ العام المنظّم ضدّ الحكم العسكريّ، ومن أجل حقوق الأقليّة العربيّة، حتّى أنّ إميل حبيبي أطلق آنذاك نداءه، عبر صحيفة الإتّحاد “تكفرسوا يا كلّ العرب”.
وكان طيّب الذّكر ينّي ينّي، أوّل رئيس سلطة محليّة في البلاد عامة، وفي الشّرق الأوسط ككلّ، قد شكّل ائتلافًا في المجلس المحليّ، مع الشّيوعيّين، في العام 1954، وكان هذا حدثًا كبيرًا آنذاك تجاوز تأثيره حدود القرية، وحدود الدّولة كلّها، من حيث النّموذج الجديد الذي مثّله هذا التّحالف الوطنيّ الشّيوعيّ، في ظلّ الحكم العسكريّ البغيض.
إنّ المواقف الوطنيّة التي اتّخذها هذا الزّعيم الوطنيّ، من مساندة ثورة 1936، ضدّ الاستعمار البريطانيّ لفلسطين، إلى المساهمة في تثبيت الأقليّة العربيّة في البلاد، إلى مقارعة الحكم العسكريّ، إلى الكفاح لتحصيل الحقوق للمواطنين، والحفاظ على المصالح العامّة، والتّفاعل النّشط مع الكفاح العام للجماهير العربيّة في البلاد، يثير في النّفس كلّ التّقدير لهذه الشّخصيّة الوطنيّة القياديّة، ويعزّز الحاجّة إلى إبراز دورها، واستلهام روح عطائها وانتمائها وتضحياتها، وهذا هو دورنا، ومسؤوليّتنا الحاضرة نحو الإرث النّفيس للحقبة الماضية.
غنيّ عن القول أن ممارسة شخصيّة وطنيّة لهذا الدّور، على كلّ الأصعدة، سيشدّد التآمر عليها، وعلى دورها، وعلى عملها، فقد حاكت السّلطة الكثير من المؤامرات، وسلّطت أعوانها ضدّها، وحاصرتها، من خلال العقاب الجماعيّ للبلد ولحقوقها، ولكنّ هذه الشّخصيّة ظلّت صامدة على مبادئها، ومواقفها، وسياستها، ولم تتراجع قيد أنملة.
إنّ الدّور الذي اضطلع به طيّب الذّكر ينّي ينّي هو مصدر اعتزاز وفخر لكلّ عربيّ في هذه البلاد، وهو نقطة مضيئة في الماضي الذي أنهكته النكبة والنكسة والحكم العسكريّ، ومصادرة الأراضي، والنّفي، والسّجن، والحرمان من لقمة العيش، وهو يستحقّ منّا كل اهتمام حفاظًا على كياننا بكلّ أبعاده، وتخليدًا لرموزنا التي تستحقّ الحضور الدّائم في سمائنا، وصونًا لذاكرتنا الجمعيّة، وتشكيلًا لوعي الأجيال الصّاعدة بواقع حياتنا، وذودًا عن هذا الإرث من التّشويه، وحمايته من الضّياع أو النّسيان.
كفر ياسيف