تضاريس لا بد عنها:
الكتاب بقلم الأستاذ: علي عطا أبو سرحان، صدر عن مطبعة أبو خليل، الطبعة الأولى سنة 2020
يقع الكتاب في 188 صفحة، وقد جاءت على النحو الآتي:
تقديم الأستاذ جمال الدرعاوي من صفحة 1 – صفحة 6
ثم مدخل بقلم الأستاذ علي أبو سرحان من صفحة 7 – صفحة 14
من صفحة 15 – صفحة 110 بعنوان “خلف العبيدي”
من صفحة 110 – صفحة 188 بعنوان ” أنا والأعراف البدوية ”
ليس صعباً على القارئ المتأمل أن يرى بوضوح إمكانية قسمة الكتاب في كتابيْن، القسم الأول بعنوان ” خلف” وفيه تحدث الكاتب عن سيرة خلف العبيدي، والثاني عن الأعراف العشائرية.
لقد نجح الكاتب أبو سرحان، في تحويل السيرة الغيرية إلى سيرة ذاتية، وصرّح بذلك منذ الصفحة الأولى، بأنه صاغ هذه السيرة من خلال طرح أسئلة على بطلها، وكانت الإجابات بضمير “أنا المتكلم ” ” خلف العبيدي، ولدت لأبوين كادحين، هما… ” واستطاع الكاتب أن يبلغ مستوى سامقا من الموضوعية والمصداقية في تحويل الهُوَ إلى أنا، حيث كانت هذه الأنا تتحدث بلغة بسيطة، تسلسل الحدث من لحظة الولادة للحظة الراهنة… تبوح هذه الأنا بما لديها من معلومات عن الأنا… وعن ممارسات هذه الأنا التي تتفاعل مع المحيط وتندغم معه… وعند التأمل في العنوان ” عتبة النص” فإننا نجد جملة اسمية… و”خلف العبيدي” إمّا أن يكون مبتدأها أو يكون خبرها، وهذه الجملة الاسمية عرّفت، بجملة أخرى ” رجل من هذا الزمان” فهل كان العنوان دالّاً على سيرة؟ أم كان ملخصاً لممارسات شخصية في الزمان وتفاعلاتها في المكان…؟ وكيف رُسِمَت الشخصية؟ ثابتة، أم نامية منسجمة وتطور الحدث؟ هل تشكلت من فردانية الذات؟ أم مثلت نموذجاً لشريحة، وربما لشعب؟ كل هذا يمكن استخلاصه من القراءة التحليلية لهذه السردية.
إذن، فإن الذي أمسك ناصية السرد هو خلف العبيدي، لكن بقلم ” أبو سرحان ” … وقد جاءت هذه السردية/ السيرة غنية بمبناها، وغنية بمحتواها أيضاً، فهي قصصية مشوقة، ترسم الحدث بأسلوب (القصة الومضة) بتكثيف الحدث في الزمان والمكان، ثم تنتقل إلى ومضة أخرى، يتحرك خلالها البطل بكل موضوعية في الزمان والمكان، وينتج عن هذه الحركة تعايش المتلقي واندغامه في هذه الومضات، وكأنه يسمعها لأول مرة… وأتت هذه الومضات تحمل المضامين كلها في حزمة واحدة نوّعت الحدث والمكان والممارسة اليومية، لكنها أبقت على البطل الذي ظل يهاجم وعينا وتوقعاتنا في كل لحظة من لحظات القراءة…نعم، إن جيلا ولد في خمسينيّات القرن الماضي، هو من مجاييل شخصية السيرة (خلف) لكن أثناء القراءة، يعود هذا الجيل، ليعيش تلك اللحظات التي عاشها البطل، يعيشها بحلوها ومرها، بسعادتها وتعاستها… فيشعر أثناء القراءة، وكأنه يصعد جبلا… كطريق مدرسة خلف أثناء الذهاب… ويهبط واديا… كالطريق نفسه أثناء العودة… لكنك – أيها القارىء العزيز- حتما ستتنفس الصعداء… بين كل مجموعة من العبارات، ومجموعة أخرى… أمّا للجيل الأصغر، فسيرى في هذه السيرة مجموعة من الأساطير والملاحم، وتلك الحياة البدائية التي يصعب عليه تخيلها أحيانا، ومن هنا كانت جماليات هذه الكتابة السردية، فمن جهة فتحت لنا بابا نحو الجمال نستمتع عندما ندلف عتبته، وبابا آخر يطلعنا على معلومات غنية، وممارسات – ربما تكون غريبة- لكنها كانت طبيعية واقعية في زمانها، وتلك المعتقدات وأنماط التفكير التي أثّرت على تلك السلوكات.
اللافت في الأمر أن مسرح الأحداث كان في بيئة تلامس البداوة، في هيكلة الإنتاج، وهذا بدا من دور المجتمع وتسلطه الذكوري، وفي تقسيم الأدوار الإنتاجية الاجتماعية بين الجنسين… ” فالرجل كان جنّى، والمرأة بنّا ” كما يقول المثل الشعبي، فالوالد يعمل مع ابنه البكر مع حميرهما، يجوبان الأسواق لنقل بضائع الناس من مطلع الشمس إلى مغيبها، بينما تعمل المرأة في رعي الحلال (الغنم) وحلبها، وتجبين الجبن أو صنع الجميد، أو اللبن، وتسويق المنتج… كما تعمل في غزل صوف الغنم على النول، وفي النسيج اليدوي، هذا إضافة لأعمال البيت الروتينية من طبخ وكنس وغسيل… وقد برع الكاتب عندما شابه ما يعتري هذه العمليات شبه البدوية وقاربها بأعمال الفلاحة في القرى… إلا أن نكهة البداوة بقيت في طعم فنجان القهوة المرّة، التي تدلل على بيت الشَّعْر، وسرعة التنقل، والبحث عن كلأ وماء، والسكن في بيوت الشعر، أو بيوت الحجر، في أمكنة كثيرة، تفرضها الأحداث أو الظروف الخارجية، وما يؤثر ذلك على تطور الشخصية/ البطل ونماء هذه الشخصية… نعم لقد كان للبيئة دور فاعل في تشكل الشخصية، بل لا أبالغ إذا قلت أنها ربما شاركت الشخصية الرئيسة بطولتها.
لقد رصدت هذه السيرة تجليات الحياة الشعبية الفلسطينية في مختلف جوانبها، فمن الجميل بل الرائع، أن تقرأ عام 2020 عام التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد، أن تقرأ وتستذكر النظام المدرسي البسيط الذي خضع له تلاميذ ستينيّات القرن الفارط، حيث تجد نفسك في مدرسة من غرفة واحدة أو غرفتين اثنتين، بمعلم واحد أو معلميْن اثنيْن، في كل غرفة صفان (مستويان) من الطلاب، مدرسة بلا مرافق، بتعلم تحفيظي تلقيني استظهاري، فيه العقاب أكثر من الثواب… وفيه قضاء التلميذ يومه كله في المدرسة على نمط الفترتيْن، فيه النسخ العقابي، والضرب العقابي، والحبس العقابي في غرفة الدرس… والأهل يوافقون برضاهم عن هذه العقوبات كلها تحت شعار ” خذو لحم ورجعو عظم” أساليب تربوية رغم عقمها وقساوتها إلا أنها خرجت قادة في الفكر والسياسة والتربية والاقتصاد… وغيرها.
ترى كل جزئية في الحياة على فطرتها، تعيش جُرْح البطل والناس، وقد غمسوه بالرماد أو البنّ حتى لا ينزف، تعيش مطاردة الإنسان للحيوانات البرية والبواهش كالأفعى ( التي كانت تبتلع الفراخ ) وربما كشرت عن أنيابها للدغ البشر… تعيش نشل المياه من الآبار العميقة بدلو من الجلد (الركوة)، وشرب العطاشى منها مباشرة، وشربهم من ظحاظيح الشتاء التي تحتوي الطفيليات والأشياء المتحركة والساكنة… تسكن في مغارة، وتخرج منها لأن حاملا ستضع مولودها فيها.
لقد تحركت هذه الموتيفات القصصية بشكل فعّال وفاعل وحركت فينا الإحساس بالماضي، وعشنا البطولة مع الشخصية لأنّها حياتنا… حياتنا التي تشكلت من النظام نفسه مع اختلاف في بعض الشكليات البسيطة… وهذا سر الجمال في النص، حيث استطاع الكاتب أن يشرك كل واحد فينا في الأحداث، فحركنا كما تحرك البطل، وبذا تشكلت الدهشة، وتولد الانبهار بالجغرافية والتاريخ والموقف الاجتماعي بل الإنساني… وكانت ملحمية النص التي اقتربت من الأسطورية في رسم الصور الجميلة، وتحقيق المفارقات التي تقارب العجائبية، وتحريك الشريط البانورامي بلغة راقية رائقة كأنها النسيم العليل.
يحسب للكاتب، رصده الدقيق للأحداث، ووضعها في سياقها الاجتماعي السياسي الاقتصادي، فمن حياة الرعي والزراعة البسيطة، ومن عمل الطبقة الكادحة، ومن غزل النساء واستخدام النول، والخبز عل الصاج… ومن وصف التعليم البدائي، والزواج المبكر، زواج العزوة، والعائلية، والحياة الاجتماعية البسيطة، ومعتقداتها ونظمها القيميّة البسيطة التي أنتجتها ممارسة هذه الطبقة على الأرض… من كل هذه البساطة، ينتقل بنا كاتب السيرة، فيرينا وجها آخر للحياة، وجها يقوم على الصراع، ويتأسس على مأساة الفلسطيني في شتّى أماكن تواجده… يرينا نكبة الفلسطيني، والمذابح التي تعرض لها… يرينا تشرده في منافي الأرض، وتشرده حتى في وطنه، يرينا الحروب التي خاضها، وهو لا يمتلك من السلاح سوى الانتماء والعقيدة… وهنا تبرز في هذه السردية صور كثيرة من النضال والجهاد ضد الصهيونية المتغطرسة، الصهيونية التي سرقت الأرض، والحلم والفرح… وهنا يظهر البطل أو أحد جدوده في علائق نضالية مع قادة فلسطينيين عظماء، أمثال الشهيد عبد القادر الحسيني، وبهجت أبو غربية، وفؤاد نصار… ونعيش حركة الجهاد المقدس، والكف الأسود، ومعركة القسطل، وصورا لشهداء ضمخوا الثرى الفلسطيني بدمائهم الزكية.
وفي صفحات السردية، تسمع رثاء شهداء بلدة السموع، في بلدة السموع، ترى صور شهداء أردنيين، جاؤوا من مناطق الأردن كلها، وشهداء فلسطينيين جاؤوا من مناطق فلسطين كلها. رجال دافعوا عن أرضهم حتى الرصاصة الأخيرة، واستشهدوا، وترى بيوتا آمنة نسفت، وأرواحا مدنية ذبحت، بآلة الغطرسة الصهيونية… كان ذلك سنة 1966… وفي سنة 1967تسمع أزيز طائرات الميراج الصهيونية، تغير على مواقع العروبة، وترى الجيش الغازي يتقدم لسرقة ما تبقى من فلسطين، والجولان، وقطاع غزة، وسيناء، في حرب أطلقوا عليها حرب ال 1967، أو النكسة… وتستذكر صوت المذيع اليعربي أحمد سعيد، يهدر من صوت العرب، ربما من مذياع وحيد في المنطقة، إلا أنه يصرخ حتى تسمع المنطقة كلها… وترى التشريد يتجدد، والترحيل والتهجير لأبناء هذا الشعب… وفتح منافٍ جديدة… وترى جموع المتظاهرين في مصر، يهتفون لعبد الناصر، ويرفضون استقالته… إثر الهزيمة…
إنها لحظات صراع قومي، ولحظات حروب دامية، ومآسٍ جديدة تجسدت في احتلال الأرض، وسرقة مقدرات الإنسان، هذا كله عظّم من صراع الشخصية في السيرة، فعلاوة على همّها اليومي، وشقائها وكدّها جاءت طقوس هذه الحياة الجديدة شديدة البؤس، وأجبرت الشخصية في التعامل معها، وهذا بلا شك أثّر في مسار الشخصية، سواء أكان ذلك في الجانب المعرفي، أم القيمي، أم المعاشي اليومي بما في ذلك العمل وكسب الرزق… وبالتالي وقفنا على نتائج تفاعل هذه المعطيات… وكانت المخرجات تتجسد في استواء الشخصية على سوقها، وتأهل صاحبها ليكون من شيوخ العرب، ورجال إصلاح ذات البين…
نعم، بكل براعة استطاع الكاتب توثيق مختلف هذه الجوانب التي أحاطت بالشخصية، الجوانب الجغرافية المكانية، والجوانب التاريخية السياسية، والجوانب الاجتماعية القيمية… استطاع أن يرصدها ويوثقها ويحللها أحيانا… ويربط بعضها ببعض من خلال الشخصية، التي انزاحت من مكانتها الفردية؛ لتمثل شريحة اجتماعية كاملة… بل ربما لتجسد همّ شعب.
هذا في الكتاب الأول (إن دقّ التقدير، وصحّ التعبير) وهو الذي امتد من صفحة 1- صفحة 110 وتفرّد فيها البطل بأحداثه التي شكّلتها حياته، أو شكّلها في حياته. وهو كتاب مشوّق بكل ما تعنيه الكلمة، تبدأ بقراءة الصفحة الأولى فلا تغادر الكتاب إلا في آخر صفحة منه.
أما الكتاب الثاني، الذي امتد من صفحة 110- صفحة 188 والموسوم ب( أنا والأعراف العشائرية ) أنا (خلف العبيدي) وقد انخرطت في العمل العشائري شيخا ومصلحا. برؤيتي المتواضعة هنا، واجتهادي الشخصي، فإنني أقول” حبذا لو تم فصل هذا الكتاب عن الأول… وبقيت السيرة الرائعة التي استمتعنا بقراءتها كتابا منفصلا عن الجزء الثاني… وجاء الكتاب الثاني في العادات العشائرية والقضاء العشائري وحده منفصلا عن الجزء الأول.
لقد حاول الكاتب أن يرينا ما وصل إليه البطل، والمركز العشائري الذي تبوأه، وهذا مبَرّر ضمن مفهوم السيرة، لكن الذي لم يكن مبرّرا، ولا تفرّد فيه، ولا تميّز، جاء في إعلاء قيمة القبلية وتعظيمها، وفي سرد مسهب عن العادات والتقاليد العشائرية، والقضاء العشائري، وأصوله… وآليات الحياة العشائرية اليومية، حيث استفاض في شرح قيمة القهوة بين العشائر، وطريقة صناعتها وتقديمها وربما فوائدها، ثم تناول أنواع القضاة عند العشائر، وأنواع المشاكل العشائرية والقضايا، وآليات الفصل في المحاكم العشائرية، لدرجة أنه تحدث عن (البشعة)، وأصلها واعتقاد الناس بها… وأعتقد أن كل ذلك جاء في سياق صيرورة البطل، الذي أصبح يتذوّت هذه الحياة بقضّها وقضيضها، بل أصبح له كلمة فاصلة فيها، من خلال مهنة القضاء العشائري… أي إن هذا الشرح المسهب عن الحياة القبلية جاء لإكمال دور البطل فيها… لكني – وآمل أن أكون على خطأ – أعتقد أن هذه المعلومات والمعارف عن الحياة العشائرية والقضاء العشائري، وثّقها وكتب فيها غير باحث، وهي مكتوبة في صفحات الحياة البدوية، وكتب القضاء البدوي هنا وهناك… وهي معلومات نظرية معرفية، وان استجدّ فيها بعض القصص والقضايا التي قامت الشخصية في حلّها… وقد ظهرت من خلال وثائق، لتظهر الزمان والمكان، والحكم فيها… لكن مع كل هذا فإن التفصيل في معارف البادية أصبح من الأمور البدهية، لكثرة تناول هذه المعارف وبحثها في الكتب والمصادر والمراجع التي تتعلق بذلك.
في الخلاصة، أرى أن كتاب ” خلف العبيدي- رجل من هذا الزمان” يوثق لمرحلة تاريخية مهمة في حياة الشعب الفلسطيني بتفاصيلها كافة، بأسلوب أدبي مشوّق جميل أخّاذ، وأرى أن أجزاء كثيرة منه تستحق التأمل والدرس والإطالة بالوقوف عندها… كما تستحق أن تمسرح، لأنها تعزز وعي الأجيال، بهويتها وانتمائها، وتعزز الاعتزاز بهذا التاريخ الذي ضحّى فيه الفلسطيني بأعز ما يملك – بروحه – من أجل صناعة الحياة ضد غزاة لا همّ لهم إلا إعدام الفرح في عيون الأطفال… رجل من هذا الزمان، سيرة رجل تستحق القراءة، والاستمتاع بهذه القراءة.