(إجلالًا لذكرى الرّفيق الرّاحل منعم سليم جريس)
ينسحبُ الماضي نحوَ تاريخِهِ حزينًا على غيابِ منعم سليم جريس، فلم يعدْ له حضورٌ، عميقٌ، سحيقٌ، رقيقٌ في جغرافيا الحاضرِ. ينحسرُ الماضي عنِ الحاضرِ كموجةٍ عاليةٍ ترتمي بثقلِها على الشّاطئِ، خائرةَ القوى، بعدَ رحلةٍ طويلةٍ بكفاحِها، عريضةٍ بعطائِها.
كانَ الزّمنُ واحدًا، قبلَ رحيلِكَ، لا نعرفُ حدودَ رحلتِهِ، وكأنّها ابتدأتِ الآنَ، وكأنّها تتابعُ جَريَها أمسِ في الغدِ الذي نحلمُ به. كانَ الماضي سكّرَ الشّايِ الذي ذابَ، فأصبحَ طعمُ الشّايِ حلوًا كعسلِ البرِّ المقطوفِ في الرّبيعِ، ربيعِ الجليلِ الجميلِ العليلِ الأشمِّ.
مَنْ يَسندُ النّخلةَ، بعدَ اليومِ، قبلَ أنْ تسقطَ، فتقتلَ ظلَّها؛ مَنْ يسندُ الأرضَ حينَ تنحرفُ عنْ مدارِها بِشارةٍ من بنانِ عينيهِ؛ مَنْ يسندُ الشّابَ، جامحَ الطّموحِ، مُتهوّرَ الطّيشِ، جاهلَ الماضي لعثراتِ الحاضرِ، حينَ يكبو وهو يعدو إلى مستقبلِهِ؟!
سأضطرُّ الآنَ أنْ أُمحّصَ الماضي، لكي أتعلّمَ شيئًا عنّي، فقد انكسرتْ مرآتي وتناثرتْ شظاياها في ترابِ الجليلِ، غربيِّهِ وشرقيِّهِ، أسفلِهِ وعاليهِ، من كفرياسيفَ إلى صفدَ، وكلُّ شظيّةٍ منها في سنةٍ، مِنَ السّنواتِ الواحدةِ والتّسعينَ. كنتَ حكايةَ الماضي المتجدّدةَ التي لا تملُّ نفسَها، تذكّرُنا بالحقيقةِ الباقيةِ، ولا تزالُ أصداؤها تحلِّقُ في فضاءِ الذّاكرةِ.
رفيقي منعم سليم جريس، عندما قرأْنا ما تيسّرَ مِنْ أدبياتِنا الفكريّة والسّياسيّةِ والاقتصاديّة، وخبرنا شيئًا منَ الحياةِ التّنظيميّةِ، فهمناكَ أنتَ ورفاقَكَ، فقدْ جسّدتُمْ بواقعِكم كلَّ ما أدركناهُ بخيالِنا، فكانَ خيالُكم واقعَنا، فمتى يكونُ خيالُنا واقعَ أبنائِنا؟
تخرجُ الأفكارُ من بيوتِها الباردةِ في صفحاتِ الكتبِ، تكافحُ منْ أجلِ تحقيقِ نفسِها، في لهيبِ الواقعِ المُثقلِ بمعاناةِ النّكبةِ، وظلمِ الحكمِ العسكريّ، ونزيفِ المدافعينَ عنِ الأرضِ، وشَظَفِ العيشِ للمناضلينَ للبقاءِ الكريمِ، في وطنِ الآباءِ والأجدادِ، وآباءِ الأجدادِ، وأجدادِ الآباءِ. تصبحُ الفكرةُ إنسانًا يمشي على اثنتينِ، وينطقُ بلسانٍ وشفتينِ، بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، يُسجنُ ويُنفَى ويُفصلُ من عملِهِ، ويُحرَمُ منْ سفرِهِ، ويُطارَدُ في أزقّةِ بلدِهِ.
أيُّ إرثٍ نضاليٍّ تتركونَ لنا أيُّها الرّفاقُ، كيفَ سنحملُ هذا الشّرفَ الذي ينوءُ الجبلُ تحتّهُ، ونمضي إلى مستقبلِنا، كما أقبلتُم على حاضرِنا، مَنْ سيقينا مِنْ زلّةِ القدمِ واللّسانِ، مَنْ سينيرُ ظلامَ حاضرِنا الدّامسِ؟!
سيكونُ علينا، برحيلِكَ يا رفيقُ منعمُ، أنْ نَستجمعَ طاقاتِنا، على كلِّ الأصعدةِ، كي نستطيعَ مواصلةَ الطّريقِ بدونِكم. سنحملُكُم في قلوبِنا، وفي أذهانِنا، وفي نفوسِنا، ونظلُّ نستلهمُ منكم النّموذجَ الأعلى ليرشدَنا إلى غاياتِنا الحزبيّةِ والسّياسيّةِ والاجتماعيّةِ والبلديّةِ.
سنبقى أوفياءَ لذكرِكَ الطّيّبِ، ولمسيرتِكَ الحزبيّةِ الجليلةِ، ولسيرتِكَ الشّخصيّةِ المشرّفة، ولتمثيلِكَ المخلصِ لحزبِكَ، وبلدِكَ، ومجتمعِكَ، وأفكارِكَ، وستبقى منتصبَ القامةِ برحيلِكَ، كما ببقائِكَ، فقامتُكَ تبقى منتصبةً كأشجارِ بلادي في حياتِها، وفي مماتِها!
إياد الحاج
13/6/2020