ريحٌ في الخارجِ تعلنُ انتهاءَ فصلِ الصيفِ المقيتِ الذي غالبًا ما يمرُّ ثقيلًا على نفسي، وتعلنُ معه انتهاءَ العطلةِ المملَّةِ التي غالبًا ما تطولُ وتطولُ، حتَّى أَكاد أَشعرُ معها أَنَّ موعدَ القيامةِ أَقربُ إِلى القدومِ من انقضائِها.
تضيقُ أَنفاسي تحتَ رتابةِ الصيفِ وحرِّ شمسِه، فهو يبثُّ البقعَ السوداءَ على وجهي مما يحملُني على المكوثِ ساعاتٍ طويلةً حبيسةَ جدرانِ غرفتي المتآمرةِ مع الشمسِ عليَّ، وكعيونِ الرقيبِ في أَجهزةِ أَمنِ الدولةِ يجعلُ هذا الحرُّ حركتي بطيئةً تُجاري الموتَ… كثيرًا ما أَتندَّرُ قائلةً إِنَّ ولادتي في هذا الشرقِ وقعَت سهوًا، غالبًا ما يرافقُ هذا التندُّرَ إِحساسٌ من الامتعاضِ، يكونُ عندما ينتابُني شبيهًا بحالاتِ المغصِ الشديدةِ في البطنِ!
إِنّ حرارةَ صيفِ هذا الشرقِ ورتابتَه يحتلَّانِ نافذةَ روحي إِلى العالمِ، فتضيقُ المخارجَ عليَّ وكأَنِّي أَبتلعُ ضفدعًا وأَختنقُ، هما نسخةٌ طبقُ الأَصلِ عن ذهنيةِ أَهلِ الشرقِ التي تشبَّعَت رتابةَ واجترارَ الصحراءِ؛ أَرضٌ جدباءُ تولِدُ نفسَها تكرارًا واجترارًا، وأَنا امرأةُ الانقلاباتِ والثوراتِ والخصبِ!
الريحُ في الخارجِ داهمَت العالمَ من حولي قبل أَوانِها هذه المرَّة، وجاءَتْ أَكثرَ اعتدادًا وغرورًا، تطلقُ صفيرَها عاليًا، وتدعوني إِلى الركونِ إِلى زوايا بيتي الدافئةِ، احتماءً من البردِ الذي يرافقها، وانتظارًا وترقُّبًا لفرحِ المطر،ِ ولغمرةِ احتضانِه لروحي وجسدي اللّذين تعلَّما الرقصَ مع حركةِ الريحِ وزخَّاتِ المطرِ.
الريحُ تضربُ الأَجراسَ المعلَّقةَ في الخارجِ على مدخلِ البيتِ، فوق البابِ وعلى الأَشجارِ، فيضطربُ رنينُها وتختلطُ نغماتُها محدثةً مزيجًا جديدًا تطربُ له روحي، ولكنها تهزُّ أَيضًا بعنفوانٍ كبيرٍ كيسَ النايلون، نيليِّ اللونِ الذي وضعْتُه بدلًا من زجاج شباكي المكسورِ، المصنوعِ من الخشبِ القديمِ، والمطليِّ باللونِ الأَزرقِ الفاتحِ، وأَنا في الداخلِ أُحاولُ أَن أَنامَ، لكنَّ طقطقةَ الكيسِ تشدُّ أَعصابي، تضغطُ عليها، فتتسمَّرُ عيناي محدِّقةً في الظلامِ الأَسودِ سيِّدِ غرفتي.
أَنا غيرُ مستعدةٍ لهذه الريحِ…!
أَنا أَعشقُ حلكةَ الليلِ لأَني بها أَسكنُ إِلى ذاتي فتسكنُ، يغمرُني فيها صفاءٌ يجعلُني أَخلعُ عنِّي ما تراكمَ من انفعالاتِ النهارِ، عندما أَركنُ إِلى هذه الحلكةِ تختفي معالمُ الأَشياءِ وملامحُ الوجودِ، فأَلتقيني عاريةً من زيفِ الحياةِ، وأَحتضنُ الحقيقةَ بوهجِها بلا طبقاتِ الغبارِ، بلا ستائرِ التحجبِ والتغييبِ.
ذهابي كل ليلةٍ إِلى مخدعي تحتَ جناحِ العتمةِ المطلقةِ، هو طقسٌ من طقوسِ الاختلاءِ وكشفِ ما خفي، لكنَّ هذه الطقطقةَ تشوِّهُ ليلَ غرفتي، تخترقُه، تقفُ ارتجاجاتُها حاجزًا بيني وبين سكونِ ذاتي، لتعلنَ أَنَّ العالمَ في الخارجِ يخرجُ عن جلدِه، يثورُ برياحِه، والبردَ يتسلَّلُ عبرَ النافذةِ إِلى أَطرافي، ويسري هو الآخرُ ارتجاجًا في جسدي، ارتجاجٌ لا أَتبينُ معالمَه.
تعودُ هذه الطقطقةُ التي تستفزُّني وتستنفرُ كلَّ وجودي ووجداني، لتذكرَني من جديد بأَنَّ الفأرَ ذاك الزائرَ المفاجئَ غيرَ المرغوبِ به، ما زالَ موجودًا في هذه الغرفةِ، يعبثُ في زواياها، يسخرُ من أَشيائِها، يهددُ بتشويهِ تكوينِها، تاركًا خلفه دليلَ وجودِه فتاتًا من برازِه.
هذه الطقطقةُ تعلنُ لي بسخريةٍ عجيبةٍ أَنَّ أَهم أَشيائي؛ كتبي، دفاتري، قصصي، مذكراتي وألبومات صوري، كلُّها قد تكونُ في ليلةٍ ما طعامًا شهيًّا لهذا الفأرِ مجهولِ الهويةِ، مجهولِ الشكلِ والأَوصافِ، مجهولِ الشخصيَّةِ.
رائحتُه النافذةُ باتت أَقوى من ليلِ غرفتي، أَقوى من رغبتي في الاستكانةِ إِلى ذاتي، أَتحسَّسُها في كلِّ شيءٍ وعلى كلِّ شيءٍ، على المخدَّةِ والفرشةِ والغطاءِ، بينَ الملابسِ، داخل علبِ الماكياج، على الكنبةِ، فوق السجادة…
اختناقٌ!
كيفَ لي أَن أَغفوَ بعدَ اليومِ؟ كيف أَعشقُ هذا الليلَ؟ كيفَ أَسكنَ إِلى ذاتي وأَعشقُ سكونِها، والريحُ في الخارجِ تبشِّرُ بالخريفِ وتهزُّ الكيسَ، وتعلنُ مع كلِّ اهتزازٍ وجودَ الفأرِ مجهولِ الهويةِ، والرائحةُ تعبقُ في الغرفةِ، وفتاتِ البرازِ في كلِّ مكانٍ ولا أّثر لتخريبٍ؟
احتلالٌ!
تُرى ماذا ينتظر هذا الفأرُ الدخيلُ حتَّى ينقضَّ على أَشيائي، ويعيثُ بها خرابًا؟
ما هي خطتُه؟
الجولةُ الأُولى قد كسبَها، فغرفتي مضاءةٌ طوالَ الليلِ، حياتي اقتُحِمَتْ، أُذني ترافقُ صوتَ الكيسِ، وأَنا صرْتُ أَسكنُ زوايا غرفتي؛ رفوفَ مكتبتي، مشاجبَ ملابسي، علَّني في لحظةٍ أُسطوريّةٍ أَستطيعُ رؤيةَ هذا الدخيلِ إِلى عالمي، قبلَ أَن يداهمَني سهوًا…!
(الوسط اليوم)