حسام شاهين وحسام كناعنة
سجن نفحة
أخذتنا رواية “رحلات عجيبة في البلاد الغريبة” لسونيا نمر، الصادرة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي 2013، إلى عوالم الخيال والمغامرة المليئة بالتشويق وبالإثارة، فالسفر “الروائي” في غور الزمن الماضوي يكشف النقاب أمام القارئ عن حقبات وأماكن تاريخية تساهم في تفتّح وعي الناشئة، وتنمّي لديهم حب المعرفة والاطّلاع على الثقافات الأخرى، الأمر الذي يؤدّي إلى انفتاح مداركهم على آفاق جديدة، وتأخذ بيد أفكارهم التواقة نحو المستقبل.
عادت بنا هذه الرواية إلى أيام الطفولة، وذكّرتنا بـ (مغامرات السندباد، الليدي أوسكار، ساندي بل…. إلخ)، البرامج التلفزيونية الكرتونية التي كانت تملأ طفولتنا بالمتعة والسرور، ولازالت تملأ حياة الأطفال حتى يومنا هذا. ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الأدب الذي يخاطب الجيل الصاعد، يحتاج إنتاجه إلى قدرات وملكات استثنائية خاصة، تمكّن الكاتب من الولوج إلى عالمهم الذي يتصف بعدم الإستقرار والتقلّب، والبحث عن الهوية الفردية والجماعية بالمعنى الواسع للكلمة، وقد نجحت سوينا نمر بإنجاز هذه المَهمّة، وساهمت بإمداد المكتبة العربية بإضافة نوعية في هذا المجال.
إن المعالجات الدرامية التي قامت بها سونيا نمر في هذه الرواية، وتحديداً معالجة قضية المرأة في عالمنا العربي، لهي من أجمل المعالجات التي قرأناها، خاصة لأنها اتبعت في طرحها أسلوب “السهل الممتنع” ببراعة تامة؛ فوجود قرية لا تنجب فيها النساء سوى الأولاد الذكور، جعل الآباء بعد عشرات السنين، عندما أصبحت أصغر إمرأة في قريتهم لا يقل عمرها عن الخمسين عاما، جعلهم يدعون الله ويبتهلون اليه بأن يمنحهم ويرزقهم مولوداً أنثى!! وكلّما جاء النبأ بولادة ذكر عمّ الحزن القرية برمّتها!! وهكذا تكون الكاتبة قد نجحت بإبراز مكانة المرأة ودورها الطليعي من زاوية الشراكة، وأثبتت أنها تستطيع أن تلعب أي دور بجدارة تامة، بما لا يقلّ عن دور الرجل!
بدليل أن بطلة الرواية “قمر” تمكنت من تجاوز كل العقبات والعراقيل التي اعترضتها في حلّها وترحالها باقتدار وحنكة، دونما أن تنتقص من أنوثتها وانسانيتها لا بالإفراط، ولا بالإسراف. فشخصية “قمر” تذكرنا بالعديد من الشخصيات الروايئة والأدبية، وأكثر ما تذكرنا بشخصية “ايليتا سومرز” بطلة رواية “ابنة الحظ” للكاتبة التشيكية إيزابيل الليندي.
ومن الجدير ذكره أن التكنيك الذي لجأت اليه الكاتبة بالحصول على مخطوطة قديمة، تعود بنا من خلالها إلى حقبة أخرى ما تكون زمانيا لفترة الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي السادس (985م-1021م)، حيث استبدله بالملك تقي الدين الذي كان يعتبر “… كل من لديه مظلمة فهو كاذب يريد إسقاط الحكم” (63)، وتكون بهذا الإسقاط بين الماضي والحاضر قد مسّت العصب الحسّاس في ذهنيّتنا العربية “البطريركية” القائمة على إلغاء “الآخر” بكل أطيافه وأفكاره باعتباره متآمراً وخارجاً عن الملّة!!
من الواضح أن الكاتبة كثّفت من حضور الكتاب والمكتبة بما يمثلانه من علم ومعرفة في محاربة الجهل والقضاء على التخلف و”اللعنات” المتجذرة في ثقافتنا الغيبية، التي تنتظر الحلول لكل معضلاتها ومشاكلها من المعجزات، وهذا التكثيف هو تأكيد على أهمية المكتبة في الوقت الذي يهدر فيه غالبية شبابنا وقتهم متسمّرين على “مقصلة” الإنترنت!!
تمتاز هذه الرواية بعنصر التشويق الذي نحجت الكاتبة في توظيفه بمهارة، حيث إنها تسرقك ولا تتركك ترتاح من قراءتها؛ إنها رواية تلتهمها على نفس واحد لأنها تخطف أنفاسك وأنت تتابع مجرى أحداثها، وتقول: هل من مزيد؟!
ومن المجحف أن تُعرّف هذه الرواية كرواية “للفتيان والفتيات” فهي صالحة لكل الأجيال، والإجماع الذي حصلت عليه بين القرّاء الأسرى خير دليل على هذا الكلام، وإن كان لابد من إضافة ملاحظة نقدية أخرى في هذا السياق، فإننا نعتقد أنه كان من الأنسب للكاتبة أن تستخدم اسم “سرنديب” بدلاً من “سيلان” المعروفة اليوم بجزيرة “سيرلانكا” كما فعلت مع “جزر المالديف”، حيث استعملت “ذيبة المهل” الاسم المعروف قديما لدى الرحالة والتجار والجغرافيين العرب.
ومن جماليات النهاية أنها تركتها مفتوحة، على أمل العثور على “نجمة الصباح” في جزء ثان من الرواية، نتأمل أن تطل علينا فيه الكاتبة سونيا نمر، فهل نجد استجابة لهذا الرجاء؟!
تعقيب
الأسير المحرّر حسام كناعنة
حين وصلتني رسالة الصديق العزيز والأخ الرفيق، الأسير والكاتب المقدسي حسام زهدي شاهين، يخبرني فيها أنه صدفةً وهو ينبّش بين أوراقه في السجن، وجد هذه “القراءة” التي كنّا قد كتبناها معًا في سجن الجلبوع منذ ما يزيد عن ستّ سنوات، تملّكتني الذكريات بتلك الأيام التي عشناها معًا في الأسر، بحلوها وبمرّها، والتي كانت مليئة أيضًا بنشاط وبإنتاج ثقافي مميّز، حيث إن الأسير حسام كان قد انتهى من روايته الأولى، “زغرودة الفنجان”، وكان قد بدأ يختمر لديّ كتابي “مرايا الأسر”، كما أننا كنّا قد كتبنا معًا قراءة أخرى لرواية لا أذكر الآن اسمها (هي أيضًا ضاعت في دروب بريد السجن)، وكنا نتبادل الأفكار حول ما نكتب وما نقرأ، ونتبادل الكتب على أصنافها. في حينه، كنّا قد أرسلنا “القراءة” التي أمامكم للنشر، لكن عرفنا أنها لم تصل، كالعديد من رسائل الأسرى، إلى هدفها المنشود. إنّ النشاط الثقافي في الأسر هو وسيلتنا، كأسرى، للشعور بالحرية، فالقراءة هي وسيلة للخوض في غمار المغامرة الفكرية والذهنية وللحفاظ على أنفسنا من التبلّد الفكري، والكتابة هي انعتاق من حدود الزمان والمكان ومن ظروف الأسر، وهي تحدٍ لقدرات الذات.
الآن، وحين تسلّمت هذه “القراءة” كنت قد نسيت ما كتبناه في حينه، ونسيت أيضًا الرواية، مع أني أذكر أنها كانت إحدى الروايات التي أعجبتني، والتي حين وجدتها في إحدى المكتبات، بعد تحرّري، لم أتوانَ عن شرائها.
عدت لقراءة ما كتبناه، وتركته كما هو، دون أي تعديل أو إضافة، مع العلم أنه يوجد بعض النقاط التي قد تفهم فقط إذا ما تذكّرنا أنها كتبت من قِبل أسيرين قد أمضيا في الأسر، في حينه، عشر سنوات تقريبا، ولهذا، كانت قراءتهما وتعليقهما محصورًا بما كانا يعرفانه عن عالم الأطفال قبل أسْرهم (مثلا، حين كتبنا هذه الفقرة: “وذكّرتنا بـ (مغامرات السندباد، الليدي أوسكار، ساندي بل…. إلخ)، البرامج التلفزيونية الكرتونية التي كانت تملأ طفولتنا بالمتعة والسرور، ولازالت تملأ حياة الأطفال حتى يومنا هذا”)، أعتقد الآن أن حياة “الأطفال” اليوم ليست كما اعتقدنا في حينه، فالأجهزة “الذكية” ووسائل “التواصل” الاجتماعي قد سرقت طفولتهم وبراءتها.
ا
29/5/2020
عرابة البطوف – الجليل.