“هاي بلادي وهاي الدَّار” هو عنوان فيلم وثائقيّ جديد، توثيقيّ وتثقيفيّ ، من سيناريو وإخراج الفنّان القدير د. ناظم شريدي، وهو تحقيقٌ لفكرةٍ تبلورت في فؤاده من أجل تنشيط ذاكرة شعبنا لتاريخه ومأساته التي يعيشها في كلِّ أماكن تواجده في جميع أنحاء المسكونة، حيث يقوم الفنّان المحبوب رائد كبها بتقديم الفيلم وإنشاد الأناشيد الوطنيَّة الملتزمة فضلاً عن تعليقاته.
حين تسمع أو تقرأ عنوان الفيلم تشعر بالفخر والتَّحدِّي وتستعيد مقولة “هاي السَّاحة والميدان” أو الاعتزاز بأخرى “هاي دار العزِّ وإحنا رجالها”.
يتكوَّن الفيلم من أربعة أجزاء، حيث تدور عجلات الشّريط مع دوران فراشات فُلك الفنَّان رائد وهي تمخر عباب بحر عكا ويافا وشواطئهما وتدور كذلك مع عجلات ذكريات قرية لِفْتَا (قضاء القدس) المنكوبة، ليُبيِّن للمُشاهد البيوت المهدَّمة/العامرة والمُهجَّرة/المأهولة والطَّبيعة الخلابة التي امتازت بها أحراش فلسطين بخَضَارها وأشجارها ومياهها العذبة وبيوتها وأحيائها وعزِّها الذي كان..
يبدأ الفيلم بدعوةٍ، لسهرة حِنَّاء عروسِ بحرِ المدينتين وعروسِ قرية لِفْتَا المدمَّرة،
التي تظهر تارةً فرحةً وأخرى حزينةً، تارةً راقصةً وأخرى تفكر في عريسها اللاجئ وأهلها الذين شُرِّدوا، تارةً امرأة عاديَّة وأخرى تبدو لك أنَّها جفرا الفلسطينيَّة التي تنتظر عودة أحِبَّائها، وهي على شاطئ البحر. يكتب الدَّعوة ويقرأها الفنّان رائد كبها، حيث يخصُّ فيها جميع الفلسطينيِّين في البلاد ومناطق اللجوء والشَّتات والسُّجون، ويرجو منهم اصطحاب الأطفال، لكنَّ السَّهرة والفرح لم يكتَمِلا..
فكلُّ مدينة وقرية هي عروس فلسطين وما أكثر عرائس وطننا وما أجملها وما
أغلاها، ولا يكتمل العرس بدون العروس، لأنَّها الخير والبركة ورمز التَّكاثر
والولادة والعطاء السَّخيِّ، وما زالت العروس تنتظر عريسها وسهرة حنَّائها وما
زال العريس ينتظر عروسه.
المحطَّة الأولى للفيلم هي مدينة عكَّا، التي لا تخاف هدير بحرها، عكَّا صلاح الدِّين
وسميرة قيصر عزَّام وأحمد الشُّقيري ومحمَّد جمجوم وعطا الزِّير وفؤاد حجازي، عكَّا التي دحرت جيوش نابليون.
يقوم الفنَّان رائد بزيارة مقبرة المدينة وقبور الشُّهداء الثَّلاثة، ومحمَّد جمجوم وعطا الزِّير وفؤاد حجازي، وبعد أن يتلو الفاتحة مع أطفال عكَّا، يقرأ لهم وللمُستمِعين رسالة الشُّهداء، واقتَبِسُ منها:
“..والعمل بجدٍّ واجتهادٍ على مكافحة شقاء الدُّنيا لإحراز السَّبق في مضمار الحياة التي ستقضونها إن شاء الله بالعزِّ والهناء.. يجب الزغردة والغناء..ونستقبل الموت بسرور من أجل استقلال أُمَّتنا..”.
ينتقل بعدها إلى يافا، بلد البرتقال الحزين كما جاء في عنوان رواية غسَّان كنفاني وهي أيضًا عروس بحر فلسطين، ويسرد لنا الفنَّان رائد كبها نكبة يافا العربيَّة، حيث شرَّدت عصابات صهيون، شْتِرْن والهَجَنَاه، أهلها، وبقي فيها أربعة آلاف يافيّ من أصل مائة وعشرين ألفًا، لقد هجَّروا خمسة وتسعون بالمائة من السُّكَّان، وركَّزوا الباقي في حيِّ العجمي، غيتو العجمي، وأحاطوه بالأسلاك الشَّائكة مدَّة سنتين، بعد أن دمَّروا حيَّ المنشيَّة ومسحوا بيوته بالأرض مسحًا ومحوه عن وجه يافا، وبقي مسجد حسن بك بمئذنته المُنتصبة الشَّامخة، الشَّاهد الثَّابت القابض والرَّابط والباقي على صدورهم كالجدار وكما قال شاعرنا الكبير توفيق زيَّاد “وفي حلوقكم كقطعة الزُّجاج كالصَّبَّار” وشاهدًا على عروبة يافا وعلى أنَّ الغزاة مرُّوا من هذا الحيِّ.
لقد منعوا رفع الأذان من المسجد وما زال، فوجد المخرج د. ناظم شريدي، أنَّ من واجبه أن يتحدَّى هذا القرار الظَّالم والعنصريّ بامتياز، بالصَّوت والصُّورة، إذ
رفع الفنَّان رائد كبها الأذان من على مسجد حسن بك، بينما ترى المارَّة على
الشَّاطئ المحاذي للمسجد لا يأبهون لمأساتنا وغير مبالين لجُرحِنا النَّازِف..
ويسرد لنا، بعدها، حكاية سرقة حذاء رئيس البلديَّة تشيتش، واستيائه من هذه
السَّرِقَة، لكنَّه بَلَعَ ضِفدعًا قذِرًا عندما سأله سائلٌ يافيٌّ، كيف يتوقَّع شعور العرب عندما سُرِقَ لهم المسجد وبلدهم وكلَّ بلادهم بعد أن طردوهم من بيوتهم!
اشتهرت يافا ببيَّارات البرتقال، الذي كان سفير فلسطين للعالم، حيث يُصَوِّرُ د.
ناظم بعدسته، صورة حيَّة من مشهد قطف البرتقال من البيَّارات لنقْلِهِ في
الحافلات إلى خارج يافا، وفي صورة أخرى نرى برتقالاً متروكًا على الأرض دون تدبير أو تجميع أو برتقالاً يتدحرج من على درجات الشَّاطئ وتدعسه الكلاب..
يحدِّثنا الفنَّان رائد كبها أنَّه التقى بابن لاجئ يافيٍّ يسكن أمريكا، وله ولدان راضي ويافا، لكنَّه يُصِرُّ على أن يُنادَى بأبي يافا، لتبقى مدينته مرسومة في ذهنه وذهن أطفاله وليشرح لجميع السَّائلين ما معنى الاسم الذي يحمله..وعندما ترك رائدُ اليافيَّ، عائدًا إلى البلاد بكى صديقه حزنًا ولوعةً وأسىً وأجهشت يافا، ابنة الثَّانية عشرة، بالبكاء على يافا أكثر من والدها، وطلب أبو يافا منه أن يسلِّم على أهله وبلده وبلاده وأن يرسل له حفنة تراب من أرض بيَّارات يافا..
ينقل المُخرج أيضًا، للمشاهد بعدسة كاميرته، مأساة شعبنا، الذي ذاق التشرُّد والتَّهجير والذَّبح، حين يُقابل امرأةً، من حيِّ المنشيَّة والسَّاكنة في حيِّ العجمي، في ظروف قاهرة، وهي تسردُ رواية إخوتها، الذين هُجِّروا من يافا عبر مينائها عام النَّكبة
إلى لبنان وانقطعت أخبارهم عنها، بعد مجزرتَي صبرا وشاتيلا..
لقد سكن الفنَّانون، المستوطنون الجدد، يافا وهنا يسألهم الفنَّان رائد: كيف يا فنَّان ممكن أن تُبدع وأنت تسكنُ بيتًا طردْتَ أهلَه منه؟ وكيف تحوِّل أماكنها المقدَّسة إلى نوادٍ ليليَّة، فإن لم تستحِ فافعل ما شئت..
أمَّا المحطَّة الثَّالثة في الفيلم فهي قرية لِفْتَا، جارة دير ياسين الذَّبيحة..حيثُ تشهدُ
بيوتُها على”آثار القدم الهمجيَّة” من هدمٍ وردمٍ ودمارٍ وتدنيسٍ لمسجد القرية،
الذي تحوَّل من بابه إلى محرابه إلى وكرٍ للزُّعران والمدمنين والدَّعارة ويبيِّنُ لنا بلقطات خاطفة كالبرق كتابات عبريَّة بذيئة، يخجلُ من نقلها واضحةً أو حتَّى ترجمتها..
يداوم المُخرج والمُصوِّر، وهو يصوِّر أحياء القرية، على إظهار شيخٍ يصبُّ القهوة المُرَّة أينما حلَّ وهلَّ وبجانبه ضارب الطَّبل مشيرًا للمأساة ومنذِرًا بأخرى ودلالة على كرم أهل البلد وحسن ضيافتهم وطيب أخلاقهم، وجاء الغازي واستغلَّ كرم وجود أهل البلد إذْ صار مصير أهل لِفْتَا كمصير الذي لاقى مجير أم عامر..
وبينما تدور عجلات الفيلم لتصوير القرية، وإذ بفارس يمتطي حصانه، يدخل قرية لِفْتَا، (لندخل في الجزء الرَّابع من الفيلم) أسير فلسطينيّ قضى مدَّة محكوميَّته بتهمة حبِّ الوطن لاشتراكه في انتفاضة فلسطين، حيث يقوم بشرحٍ وافرٍ عن عمليَّة الاعتقال والتَّعذيب والشَّبح، لينقل لنا صورة حيَّة عن ساديَّة جلاوزة وجزَّاري “واحة الدِّيمقراطيَّة”، وبعدها ينقلنا إلى بيت العريس، الأسير، في العيسويَّة إذ كان استقبال تحريره عرسًا جماهيريًّا واسِعًا، لكن بدون عروس وبدون حنَّاء، بعد أن قضى سنواته داخل القضبان. يستقبلونه وهو على ظهرِ الفَرَس وأعلام فلسطين ترفرف من حوله وأصوات الأهازيج تصدح عاليًا “واحنا على ظهور الخيل تعلَّمنا الفروسيَّة”. ويقول الفنَّان رائد كبها في هذه المناسبة:
“السُّجناء في كلِّ العالم هم متَّهمون، إلا في بلادنا، السَّجَّان هو المُتَّهم..”
يصوِّر البيوت العربيَّة الجميلة في عكَّا ويافا ولِفْتَا، يصوِّرها لتشهد على أنَّها كانت عامرة بأهلها وناسها، وينقل لنا، وفي الوقت نفسه، بعدسة تصويره بيتًا مدمَّرًا، ويحاول بحدسِهِ الخلاق، تصوُّرَ البيت ذاته بأهله الذين جلسوا، مرَّةً، في ساحة الدَّار يحتسون القهوة، بينما يلعب أولادهم ويلهون..كذلك عندما يصوِّر مئذنة المسجد يصوِّر معها أجراس الكنائس، ويحرص على أن يكون الجامع توأمًا للكنيسة، رمزًا للتآخي في الوطن والقوميَّة وفي الهمِّ المشترك، وينقل لنا بتزامن مقصود وبالتَّناوب صورة البيوت والقصور العامرة وصور عن المخيَّمات، وعن اللاجئين في خِيَمهم، ليشيرَ إلى الكارِثة التي حلَّت بشعبنا..
يأخذ الأطفال حيِّزًا مركزيًّا ومهمًّا في التَّصوير، إشارة من د. ناظم إلى هدف الفيلم، وهو تنشيط الذَّاكرة الحيَّة وترسيخها بعد أن أصابها بعض الشَّلل أو التَّناسي ونقلها إلى أطفال شعبنا حتَّى يتعلَّموا تاريخ بلادهم وأهلهم وإخوتهم وأنَّهم هُم هُم، لا أحد غيرهم، أصحاب هذا الوطن “الذي لا وطن لنا سواه” ويأخذ الفنَّان رائد الأطفال إلى مقبرة الأبطال الثَّلاثة، ومحمَّد جمجوم وعطا الزِّير وفؤاد حجازي، يحكي لهم قصَّتهم ويقرأ معهم الفاتحة على أرواح الأبطال الثَّلاثة وأرواح شهداء فلسطين بعد أن يقرأ على مسامعهم وصيَّتهم..
يقول د. ناظم شريدي: “نريد من فيلمنا هذا أن نُسهم في ترسيخ ذاكرة شعبنا للحفاظ على الهويَّة وإظهار الوجه الإنسانيَّ للإنسان الفلسطينيِّ وإبراز الوجه التَّاريخيِّ والحضاريِّ لمدننا وقرانا الفلسطينيَّة التي كانت قبل النَّكبة تعجُّ وتزخر بالحياة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والاقتصاديَّة إلى أن جاءت الأقدام الهمجيَّة وأوقفت هذا الشِّريان عن الحياة والحركة بهدف الطَّمس ومحو الذَّاكرة وتمييع الهويَّة”.
“هاي بلادي وهاي الدَّار” هو فليم تعليمي وتعريفي، توثيقيّ وتثقيفي لأجيالنا
النَّاشئة، أطفالنا فلذَّات أكبادنا.
يذكِّر الذين نسوا مأساة شعبهم، أنَّ المأساة تتفاقم، يومًا بعد يوم، أكثر وأكثر وأنَّ “المأساة ارتفعت، المأساة اتَّسعت، وسعت، بلغت حدَّ الصَّلبِ” (فيروز)، وهل ننتظر الصَّلب حتَّى نُحرِّك ساكننا؟
جاء الفيلم لِيهزَّ ضمائر المُتناسين واللامبالين والعابثين في مقدَّرات شعبهم، ويحثُّهم على قراءة جديدة ليقظة العرب (إبراهيم اليازجي)، ليكون هذا منهم أضعفَ الإيمان:
تنبّهُوا واستفيقوا أيُّها العربُ فقد طَمَى الخطبُ حتَّى غاصَت الرُّكبُ
وأظنُّ أنَّه يتوجَّب على مؤسَّسَاتنا الوطنيَّة تبنِّي هذا الفيلم المشروع المشروع، لأنَّه مشروع إعادة الذَّاكرة، وأرجو ألا يتوقَّف د. ناظم شريدي عند هذا الفيلم، بل ليكون هذا الفيلم فاتحةً لسلسلة أفلام عن قرى ومدن فلسطينيَّة أخرى ونكبتها..
أهنِّئكَ، يا رفيقي ناظم على عملك الجبَّار وأهنِّئ الفنَّان رائد كبها على هذا المجهود الكبير والصَّوت المخمليّ الطَّرُوب ولجميع أفراد طاقم التَّصوير والعمل الفنِّي الرَّائد، ألف وألف تحيَّة اعتزاز وتقدير وبطولة..