من يعتقد أنّ اسرائيل قد أبقت على اتّفاقات مع السلطة الفلسطينيّة، فليراجع حساباته، فاسرائيل تريد التّوسّع و”سلام القوّة”، وما الحديث عن “سلام عادل” سوى هرطقة كلاميّة، فالمخطّط الصّهيونيّ طويل المدى ويجري تنفيذه بخطى ثابتة، وما تخلّت اسرائيل يوما عن أطماعها التّوسّعيّة، ولنتذكّر ما قاله اسحاق شامير رئيس وزراء اسرائيل الأسبق عندما ألزمه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب على المشاركة في مؤتمر مدريد عام 1991 بسبب مشاركة العرب في الحرب على العراق، حيث قال شامير:”سأفاوض الفلسطينيين عشر سنوات ولن أعطيهم شيئا”. وها هي اسرائيل قد فاوضت السلطة الفلسطينيّة أكثر من ربع قرن ولم تعطها شيئا، بل أخذت منها. وقد انتصرت اسرائيل على العرب مجتمعين دون حروب عندما تنازل العرب عن الذّهاب إلى مدريد ضمن وفد واحد، وقبلوا بذهاب وفد فلسطيني تحت مظلّة الوفد الأردنيّ معتمدين على حسن نوايا “الصّديقة أمريكا”.
ومنذ وصول ترامب إلى الرّئاسة الأمريكيّة في العام 2016، كشفت أمريكا عن وجهها الحقيقيّ، وما عادت تتعامل مع القضيّة الفلسطينيّة من باب إدارة الصّراع، وتخدير شعوب المنطقة، وباشرت بدعم حكومة نتنياهو على رؤوس الأشهاد في تصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ، الذي تتخطّى أهدافه حدود فلسطين التّاريخيّة. ولن تتوقّف هذه الأهداف عند ضمّ الجولان السّوريّة المحتلّة، بل ستتعدّاه إلى الأردّن كاملا وإلى شمال السّعوديّة، وإلى أراض لبنانيّة، وإلى سيناء المصريّة، أو كما قال هنري كسينجر وزير الخارجيّة الأمريكيّة الأسبق “ستحتل اسرائيل سبع دول عربيّة احتلالا كاملا”. وسيتحقّق الحلم الإسرائيليّ “حدودك يا اسرائيل من الفرات إلى النّيل”. وهذا يعني أنّ المنطقة العربيّة ستصبح كاملة تحت السّيطرة الأمريكيّة الإسرائيليّة.
وفي تقديري أنّ قادة أمريكا وإسرائيل يضحكون بملء الشّدقين عندما يسمعون تهديدات فلسطينيّة بإلغاء جميع الإتّفاقات إذا ما قامت اسرائيل بضمّ المستوطنات والأغوار، لأنّها عمليّا وعلى أرض الواقع مضمومة، وأنّ حلّ الدّولتين أصبح في خبر كان، وأنّ قانون “القوميّة الإسرائيلي” و”اسرائيل دولة اليهود” قد شطب حتّى مجرّد الحديث عن “الدّولة الواحدة”.
فهل أبقت “فصعة القرن” الأمريكيّة الإسرائيليّة شيئا يمكن التّفاوض عليه؟ وبعيدا عن اللغّة الدبلوماسيّة، ولضرورة المصارحة والوقوف على الحقائق التي تنفّذ على الأرض، فإنّه ليس من باب المبالغة ولا من باب التّشاؤم، فإنّ أمريكا وإسرائيل وبتواطؤ عربيّ رسميّ “تمدّ الحبل للسّلطة الفلسطينيّة، لتشنق نفسها بنفسها”، وإلا كيف يمكن تفسير القرصنة الإسرائيليّة لأموال المقاصّة الفلسطينيّة التي تجبيها اسرائيل، والتي تمثّلت بقنص مبلغ سبعة وستين مليون شاقل شهريّا، وهي مبلغ يعادل ما تدفعه السّلطة الفلسطينيّة لأسر الشّهداء والأسرى، ثمّ تبع ذلك قنص حوالي اربعين مليون شاقل فرضتها محكمة اسرائيليّة كتعويض لأسر قتلى اسرائيليّين قضوا نحبهم بعمليّات مقاومة. والآن جاء الدّور على البنوك العربيّة العاملة في الأراضي الفلسطينيّة بإغلاق حسابات الشّهداء والأسرى، لتضع السّلطة في مواجهة مع شعبها. وهذه الإجراءات الخاصّة بالشّهداء والأسرى ليست ماليّة فقط، بل هي تعني أنّ الاحتلال مشروع، “فالأرض أرض اسرائيل جرى تحريرها من المحتلّين العرب، ومن يقاومها فهو إرهابيّ”. وهذه السّياسة الأمريكيّة الإسرائيليّة المتدحرجة، ستتبعها حرب مفتعلة لتنفيذ الطّرد الجماعيّ لملايين الفلسطيّنيّين من أرضهم ووطنهم، وسيتبعها مطالبة الدّول العربيّة بدفع تعويضات عن أملاك اليهود العرب الذين هاجروا إلى اسرائيل، ودفع تعويضات عن الخسائر الإسرائيليّة في الحروب ضدّ اسرائيل “المسالمة” منذ نشوئها وحتّى يومنا هذا. فهل ما يجري يشكّل سببا كافيا لطرفي الإنشقاق الفلسطينيّ لإنهاء الصّراع على سلطة تحت الاحتلال؟ وهل هذا كفيل بصحوة عربيّة؟ والحديث يطول.
9-5-2020