يكتفي البعض بقصر حديثهم عن هذه الظاهرة باعتبارها مجرد منح دراسية ، متجاهلين حقيقة أن القضية تتعدى الدراسة الاكاديمية الذاتية الى تحويل أقلية قومية مهمشة، تعاني التمييز المكاني والمعرفي، وتفتقر للإمكانيات المادية، وتعاني من الملاحقة والاضطهاد ، إلى أقلية واعية أكاديميًا وعلميًا تضاهي الاكثرية العنصرية اليهودية (وخصوصا القادمون من اوروبا) عن طريق برنامج منظم مدروس، قادهُ الحزب الشيوعي الاسرائيلي منذ سنوات الستينات مستغلا علاقاته الوطيدة مع الاحزاب الشيوعية في الدول الاشتراكية وذلك للمساهمة السباقة في تقوية الرأسمال البشري ,والتأهيل العلمي والمجتمعي للأقلية الفلسطينية في إسرائيل ، وهو باعتقادي أرقى ما تستطيع أن تقدمه حركة سياسية لتغيير وجه شعبها وإخراجه من التخلف إلى التقدم.
إن من آثار النكبة الصادمة عدا زعزعة الهوية وفقدان الأرض وغالبية أهلها ، هو انقطاع التواصلِ الجغرافي والثقافي مع باقي مكونات الشعب الفلسطيني والعالم العربي ، وأن غالبية المثقفين والمتعلمين واصحاب رؤوس الأموال الفلسطينيين قد هُجِّروا عام 1948 وبقيت أقلية غير منظمة غالبيتها من العمال والفلاحين ذوي الامكانيات المادية المحدودة، ولهذا كان الجانب الاكاديمي في آخر سلم أولويات العائلات التي اهتمت أولا بالطعام والمسكن ، وتعزيز سبل الصمود والبقاء، ولهذا فقلة قليلة منهم فقط استطاعت أن تنهي المدرسة الابتدائية، وقلة أقل استطاعت ان تنهي المدرسة الثانوية بسبب قلة المدارس وبسبب الاوضاع المادية الصعبة , مما اضطر الاهل إلى إخراج أبناءهم الى سوق العمل باكرا للمساهمة في الأعمال الزراعية للوصول إلى الاكتفاء الذاتي المعيشي الاولي، وبالرغم من كل ذلك لا يمكن الا التأكيد على دور الحزب الشيوعي في الحفاظ على الهوية واللغة العربية والثقافة والحضارة وتجديدها وهي من أولى المعارك التي قادها الحزب للحفاظ ولتقوية البنية الوطنية والثقافية لشعبنا.
نتيجة لما ذكر أعلاه استطاع عدد قليل الحصول على شهادة إنهاء الثانوية حيث تبدأ مرحلة أخرى من المشقات والمصاعب وهي قبول عدد محدود من الطلاب العرب خاصة في مواضيع مثل الطب والمحاماة، ناهيك عن تكلفة التعليم الباهظة ،ومن كان يملك كلفة التعليم كان عليه أن يواجه مشكلتين حتى البدء بالدراسة ، الأولى الحصول على تصريح من الحاكم العسكري والثانية، الدراسة في أجواء عنصرية ومعادية حيث أن الكثير من اليهود كان يرفض تأجير الطلاب العرب شقق للسكن ، ولهذا نستطيع القول أن قلة قليلة من الطلاب العرب استطاعت إكمال تعليمها الجامعي، ولكن يبقى السبب الاساس والرئيسي لهذا الوضع والمسؤول الاول هي الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل التي اعتمدت سياسة التجهيل ومستوى التعليم المنخفض في الوسط العربي وفصل المعلمين الوطنيين وابتزازهم سياسيا ، والعراقيل التي وضعتها الجامعات للحد من وصول الطلاب العرب ناهيك عن التمييز في العمل والمسكن والمنح الدراسية .
عندما أرسل الحزب الطلاب للدراسة الاكاديمية في الدول الاشتراكية كان يعرف حاجة مجتمعنا الماسة لهذه الشريحة لكي تساهم في النهضة البنيوية للمجتمع الفلسطيني وتعزيز قدراته الذاتية للمساهمة في معركة البقاء في الوطن, ففي حين كان عدد الاكاديميين قليل جدا استطاع الحزب الشيوعي خلال الفترة التي استمرت من اواخر الستينات حتى سنة 1991 من ابتعاث آلاف الطلاب الى تلك الدول وعادوا الى احضان شعبهم ليساهموا في نهضته، فكان في أغلب القرى أن أول طبيب ومهندس او محامي او باحث نفسي من هؤلاء الخريجين ، وقد يدعي بعض المغرضين أن الحزب استغل المنح لتقويته ، وهنا أجيب أن الحزب لم يرسل إلا رفاقه او أبناء رفاقه الذين هم أصلا في الحزب ولم يشترط على أحد الانضمام للحزب للحصول على منحة، وكانت معاييره ثابتة وصارمة في اختيار هؤلاء الطلاب كالتحصيل العلمي والوضع الاقتصادي والنشاط السياسي وباعتقادي هي شرعية وصحيحة في كل مكان وزمان.
لماذا نقول ابتعاث وليس فقط الارسال للتَعَلُم ؟
1- الحزب لم يلق هؤلاء الطلاب إلى غياهب الجب، وقال اسبحوا كما تشاؤون ، بل كان على كل طالب أن يمر دورة تثقيفية مركزة لإعداده لأي حوار أو نقاش سياسي كي يكون قادرًا على طرح الموقف السياسي الصحيح، بدون مزاودات وبدون الوقوع في المخاطر الأمنية، لكي يحمي الطلاب من طيش الشباب والانجرار نحو مواقف لا تحمد عقباها، وكان يعد الطلاب لعملية التثاقف المستقبلية، لانهم سيلتقون مع طلاب من عدة ثقافات ولأنهم سيعيشون وسط حضارة تختلف عن حضارتنا وعاداتنا ، وما زلت أذكر كيف أنهى طيب الذكر إميل توما الدورة التحضيرية حينما قال :” تذكروا أنكم سفراء شعبكم ،فكونوا خير سفراء”.
2-الحزب كان يبني تصورا شاملا من خلال مسح احتياجات شعبنا في مختلف المجالات وكان يوجه وينصح المتقدمين باختيار المواضيع اللازمة ، وبالرغم من أن الغالبية العظمى اختارت دراسة مواضيع ومهن حرة ومستقلة نسبيا مثل الطب والهندسة والمحاماة وذلك انطلاقا من اعتبارات سوق العمل والحواجز البنيوية فيه ، ورغبتهم في الاندماج فيه بسهولة ،الا أن قيادة الحزب كانت دائما تسعى لتوجيه الطلاب الى مواضيع أخرى كالعلوم الانسانية والمسرح والموسيقى والرسم من باب استقراء .nation buildingالاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والثقافية كجزء من مسؤولية الحزب التاريخية في بناء الامة الأمة
3- الحزب كان يتابع دراسة وإنجازات الطلاب أثناء الدراسة ، ويرسل كل سنة ممثلا عنه للقاء الطلاب والاستماع الى مشاكل الطلاب الخاصة والعامة ويحاول ايجاد الحلول لها ، ويتواصل مع الاهل ويخبرهم عن صحة وسلامة ابناءهم ، ولم يتوانى إذا لزم الأمر عن إعادة الطلاب ومنعهم من متابعة التعليم ، لأنه كان بهذا يعد مجموعة منظمة مستقرة لقيادة النهضة العلمية والأكاديمية في مجتمعنا الفلسطيني في بُعد بناء الموارد البشرية الواعدة.
4- الحزب كان يسعى أن يأخذ توزيع المنح اوسع انتشار , وكان يراعي التقسيم الجغرافي والجندري في توزيعها ، حيث يأخذ بالحسبان احتياجات ومتطلبات كل شريحة مجتمعية، مساهمة منه بأن تحظى كل الفئات بالاهتمام المطلوب، ولهذا كان يبذل جهودا جبارة لزيادة اعداد المنح ، وكانت عملية اختيار المرشحين للدراسة من اصعب القضايا واعقدها ، وأحيانا كلفت الحزب غضب واستياء الكثيرين.
5- الحزب كان يعرف أن النظام الاشتراكي وعلى رأسه الأحزاب الشيوعية يرفضون مبدأ “شراء العقول ” اي استغلال الموارد البشرية للشعوب المتبعة في الدول الرأسمالية ، حيث كان لا يُسمح للطالب البقاء في بلد التعليم ، انطلاقا من موقف مبدئي وهو إعداد الكوادر العلمية خدمة للشعوب وتطورها، بخلاف ما يجري في باقي الدول فقد يحصل الطالب على منحة دراسية اكاديمية ويستمر بالعيش خارج بلده بسبب الاغراءات التي قد يقع تحت طائلتها وبهذا لا يستفيد شعبه او وطنه من علمه.
ان دراسة هذه الظاهرة تؤكد على النهضة الشاملة التي جلبها هذا المشروع والنقلة النوعية التي أحدثها في المجال العلمي والثقافي بين أبناء شعبنا الذين للأسف ما زال البعض منهم يحاول فاشلا النيل من الانجازات التي تم تحقيقها نتيجته بالذات , ولا ابالغ إذا قلت انه يصلح لان يكون مشروعا بحجم دولة او ثورة تحررية.
لن أتطرق في مقالي هنا للدور الذي لعبه هؤلاء الخريجون في النهضة البنيوية والعلمية لشعبنا كي لا أستبق نتائج البحث العلمي الموسع الذي تجريه رابطة خريجي جامعات روسيا والاتحاد السوفياتي بالبلاد بإشراف البروفسور خالد عرار صاحب الشهرة العالمية في الابحاث العلمية في مجال التعليم حول دور خريجي الاتحاد السوفياتي في نهضة الاقلية الفلسطينية في إسرائيل وسياقها الزماني والمكاني والوطني والعلمي ، ولكني اشكر ممنونا دول المنظومة الاشتراكية وخاصة شعوب الاتحاد السوفياتي على دورهم الانساني والسياسي ومساهمتهم في كسر الطوق المعرفي المفروض علينا وإتاحة الفرصة لنا التعلم هناك ، وأن أشيد بدور الحزب الشيوعي الطليعي حيث نظم وأدار الموضوع كمهمة وطنية من أجل بناء ونهضة الأقلية الفلسطينية في إسرائيل في مسعاه نحو بناء الأمة.
د. سمير خطيب
رئيس رابطة خريجي جامعات روسيا والاتحاد السوفياتي بالبلاد