لست ضدّ الدعاء والصلاة لله والتضرّع والابتهال لدرء المخاطر واستدرار النعم والآلاء، ولست ضدّ من يصلّون ويتضرّعون ويبتهلون، من كافّة الأديان والمعتقدات، فقد تشكّل هذه الأدعية الموجّهة لله الخالق والمحيي والرزّاق والمميت جزءًا من الإيمان الدينيّ وتلبّي حاجة روحانيّة صادقة الوجدان وسليمة الطويّة، والدين بهذه المثابة يشكّل ويبني شخصيّة الإنسان، بل شخصيّة المجتمع وقيمه الروحيّة، ولا حياة بلا إيمان روحانيّ، والدعاء لله هو شكل من أشكال الطقوس الدينيّة التي تقرّب الإنسان الضعيف من خالقه ومحييه ورازقه ومميته القويّ القادر على كلّ شيء وتقوّي إيمانه به، فما الحياة الدنيا الفانية إلّا متاع الغرور، وما هي إلّا دار الممرّ للآخرة دار المقرّ، وهي خير وأبقى، “وكلّ من ع دينه الله يعينه”. ولكنّ الدعاء والصلاة وغيرهما من أشكال التضرّع الإنسانيّ لله، لم تُسقِ عنزًا وحدها زمن عمر (رض) وكان لا بدّ من القطران لتستسيغ العنز شراب الماء، وهذا الخليفة العظيم العادل والمتواضع، عمر بن الخطّاب من زمن الإسلام السمح الحنيف والإيمان الصادق العفيف والعدل بين الناس والتواضع والرأفة والمحبّة، وليس من اليوم والإسلام على طرق ونحل وحركات وملل، وعلى أصوليّة تتنكّر لمبادئ الأصول، وإرهاب يحرق ويهدم وينهب ويقتل ويناصر العدوّ على الأخ ويبيع الوطن وكنوزه وثرواته وأمجاده لأعدى أعدائه. هذا القطران العمريّ هو الذي جعل العنز تستمرئ الشرب منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، هذا القطران العمريّ هو الأخذ بالأسباب، وهو العلم والمعرفة والتكنولوجيا في الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين.
أنا من الذين يؤمنون أنّ الإنسان والإنسانيّة سوف ينتصرون على هذا الوباء “الكورونا” رغم خبثه وعدم رؤيته وسرعة انتشاره، ورغم ما أحدثه في العالم، كلّ العالم من شرقه إلى غربه ومن جنوبه إلى شماله، وأصاب كلّ البشر بأسودهم وأسمرهم وأبيضهم وأصفرهم، وكلّ الناس من أتباع الانتماءات الدينيّة، بمسلميها ومسيحيّيها ويهودها وبوذيّيها، وبكلّ من كان بلا دين، أصاب الجميع بلا تفرقة بين فقير وغنيّ أو بين عامل وصاحب عمل أو بين رئيس حكومة ووزير صحّة أو بين لاعب كرة قدم أو لاعب كرة سلّة أو بين فلّاح وملّاك، أحدث في الجميع هلعًا وخوفًا، وقتل منهم الكثير وأصاب بالعدوى منهم الأكثر والأكثر وأقعدهم محجورين واجمين في بيوتهم بخوف وتحسّب وبلا حول ولا طول، وشلّ حركتهم ونشاطاتهم في كلّ القطاعات والمجالات، وكأنّه أعادهم جميعًا إلى نقطة البداية على سطر جديد من سطور الحياة، لاستئناف التفكير الإنسانيّ ومراجعة العقل والضمير والوجدان والأحاسيس من جديد، فثمّة مَن يرى العالم والتاريخ ذا فترتيْن: ما قبل الكورونا وما بعد الكورونا، وبعدها وبعد الخلاص منها لا بدّ من صياغة جديدة للمفاهيم الفكريّة والقيم الأخلاقيّة والعلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة والإنسانيّة، وما يتفرّع عن ذلك من أواصر وتفاصيل. ولا يدعيّن أحد من كلّ المجموعات البشريّة المذكورة آنفًا أنّه محصّن بأيّ شكل من الأشكال ولا بأيّ مضمون من المضامين ولا بأيّ سبب من الأسباب. إنّ تبجّح بعض المسلمين كبرميل فارغ يملأ الدنيا “طرطقة” وجعجعة بلا فعل أو طحنًا بلا قمح، على الناس والادّعاء الكاذب بسمو العرق وأفضليّة الدين والتحصّن بعشّ الحمامة الضعيف أو بخيوط العنكبوت الواهية التي سدّت على الكافرين باب الغار ،كان هذا زمن الرسول وثاني اثنيْن والإيمان ولا تحزن إنّ الله معنا، “ولا أوهن من بيت العنكبوت”. وليس اليوم فلا رسل بعد محمّد ولا كتب بعد القرآن ولا معجزات، فرسول الزمان الراهن هو البحث والتجربة وقرآنه هو العلم والاكتشاف ومعجزاته هي الإنجازات المعرفيّة في كلّ المجالات.
سينتصر الإنسان بذلك الرسول الجديد والقرآن الجديد والمعجزات الجديدة على هذا الوباء، كما انتصر على “السارس وأنفلوانزا الطيور وأنفلوانزا الخنازير وجنون البقر والكوليرا والطاعون” وغيرها، بالمختبرات وبالتجارب ومجالات الأبحاث المعرفيّة وبسلطان العلم في المعاهد والجامعات والمستشفيات أوّلًا وثانيًا وثالثًا، لا بالدعاء والصلوات والابتهالات في الكنس والكنائس والمساجد، لا رابعًا ولا خامسًا ولا سادسًا، مع عدم إنكاري لوجودها ولأهمّيّتها لفاعليها وتعويلهم عليها وعلى الله روحانيًّا “وكلّ حزب بما لديهم فرحون”.
أنا لا أعرف حقيقة ما هو عدد الموتى من جرّاء الكورونا وما هو عدد المصابين بالمرض في العالم الإسلاميّ بما فيه العالم العربيّ، ولا أعرف إذا كانت منظّمة التعاون الإسلاميّ منشغلة بهذا الموضوع لدرء مخاطر الفيروس عن المسلمين، ولم أسمع في وسائل الإعلام عن أيّ نشاط لها في هذا المجال، مع أنّها تنشغل بالتساوق مع فيروس صفقة القرن وتقف في صفّ فيروس العدوان السعوديّ على اليمن، وتقبل بذلّ احتلال أولى القبلتين وثالث الحرميْن، القدس الشريف. وهل اهتمّت الجامعة العربيّة بالموضوع وهل عندها مؤسّسة صحيّة تعنى بهذه القضايا، ألم تجمّع معلومات حول الموتى والمصابين، وما برمجته لمصلحة المواطن العربيّ المسكين، مع أنّها نشطت “فارعة دارعة” في كثير من القضايا، فسريعًا ما سلبت عضويّة سوريا العربيّة منها، ولم يسمع لها صوت في العدوان السعوديّ على اليمن، بل هي تؤيّده، وأدلت بجريمتها في تقسيم السودان، وترضى بذلّ الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي العربيّة، وتصمت صمت أهل القبور عن صفقة القرن.
ومع هذا الهوان والإزراء الذاتيّ الذي ترزح تحته الأمّة الإسلاميّة والأمّة العربيّة، ورغم ما يحيق بهما من أخطار، فسنجد أن لا مشرّد في العالم إلّا منهما، ولا لاجئ ولا مغترب ولا فقير ولا جائع ولا مقموع ولا مكبوت إلّا منهما، ولا جاهل ولا مدّعٍ ولا متاجر بالدين ولا سفّاح باسْم الدين إلّا منهما، ولا مسيلمة ولا سجاح ولا ساهٍ ولا مُراءٍ بالصلاة ولا متخلّف عن إيتاء الزكاة إلّا منهما ولا متخلّف ولا مشعوذ ولا متحجّر ولا راضخ للهوان ولا خانع للذلّ ولا خاضع للإملاءات والهيمنات والمشاريع الأميركيّة إلّا من ولاة أمورهما، الذين يؤمرنا أدعياء الدين بإطاعتهم كما نطيع الله والرسول، وبعد كلّ هذا الهوان والجهل والكذب والدجل، ثمّة مسيلمون أو مسيلمات يدّعون حصانة المسلم أمام الكورونا، فلا يصيبه لأنّ الله والإسلام حصّنه أمام الفيروسات جميعًا، – ربّما لأنّه غدا فيروس مثلها فمناعته منه وفيه – هل هناك هراء مثل هذا الهراء! وهل هناك دجل كهذا الدجل! وهل ثمّة كفر كهذا الكفر! وثمّة مسيلمون أو مسيلمات يدّعون أنّ الله سخّر لنا الأمم جميعًا بحكمائها وأطبّائها وعلمائها ومخترعيها كخدّام لنا، فلا حاجة لنا بالعلم والطبّ والمعرفة والاختراع! فهل هناك قبول بالذلّة والمسكنة كهذا القبول!
أمّا ثالثة الأثافيّ، فثمّة مسيلمون أو مسيلمات يدّعون أنّ الله يبتلي الناس ويصبّ غضبه على الكفّار في الصين شرقًا وفي أوروبا غربًا، ولم يمس المسلمين بسوء هذا الوباء، وإذا حدث وضلّ الفيروس طريقه ودخل بالخطأ إلى بلاد العرب والمسلمين، فإنّهم قادرون على الاحتياط منه ودرء أخطاره قبل أن يحلّ أو التخلّص منه إذا حلّ بالدعاء والحبّة السوداء، فهما دواء لكلّ داء! هل هناك لعنة ماحقة بعد هذه اللعنة التي ما أنزل الله بها من سلطان إلّا على أمّة العرب العاربة وأمّة المسلمين البائدة!
إذا كان الله يبتلي الناس، فأنتم أيّها العرب والمسلمون أوّل من اُبتليَ، فهل هناك ابتلاء أحدّ أو غضب أشدّ من الجهل والادّعاء والخمول والتحجّر وقبول الذلّ والهوان، ولكنّ الحقيقة أن لا علاقة لله بجهلكم وهوانكم، فهذا ممّا ارتكبت أياديكم، واعلموا أنّ الله يبتلي الإنسان، كلّ إنسان مرّتيْن، الأولى يبتليه فيها لنفسه عند الخلق والثانية يبتليه فيها لغيره عند الموت. خلق الله الإنسان وسوّاه وعدله وهداه العقل والقوّة والأدوات ليعيش الحياة كما يختار، هو الرزّاق الذي يعينك على الرزق إذا سعيت لتحصيله، ولكنّك إذا بقيت هاجعًا ونائمًا ودعوت الله ليفتح لك باب السماء وينزل عليك المائدة، فقد قال لك عمر بن الخطّاب (رض) أيّها العربيّ والمسلم: ” لا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهمّ ارزقني! وقد علم إنّ السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضّة”، وقال الله في محكم آياته: “وإنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم”.
واللهِ لو أنّ اللهَ وراء هذا الوباء والابتلاء ما تجاوز بلاد العرب والمسلمين ولم يشرّق إلى الصين ولم يغرّب إلى أوروبا، لأنّكم الأولى به، فإذا كنتم بلا حول بحث وعلم وبلا طول اكتساب ومعرفة، فما هي مكانتكم! – هل كان أجدادكم وأصولكم هكذا مثلكم – أيّها الذين أضعتم حقوقكم وبلادكم ومقدّساتكم وبدّدتم ثرواتكم بين شعار الحفاظ على الاستقرار والسلم العالميّ وشعار تفويت الفرصة على العدوّ كي لا يجرّنا إلى الحرب، فمن باب التعاون الدوليّ والتعاطف الإنسانيّ وعمل الخير لله، ابعثوا ببضعة أطنان من الحبّة السوداء المباركة إلى الصين التي تؤيّد حقوقكم التي لا تؤيّدونها أنتم، وإذا لم تكونوا قادرين على التضامن والتعاطف وعمل الخير لوجه الله، كما فعلت كوبا الصغرى أو روسيا الوسطى أو الصين الكبرى، فلن أقول لكم: “اصمتوا”! بل سأقول: “انطمّوا”! ويجب أن تمتثلوا لأمري “وتنطمّوا”، “وحتّى يقضي الله أمرًا كان مفعولا”، وتعودون إلى الله بصدق وإلى أجدادكم وآبائكم الحكماء والعلماء والأدباء بعزيمة وأمل ببناء قوّة مادّيّة تحصّنكم وتدرأ عنكم إلى جانب الإيمان الصادق المعتمد على العلم والعمل وبأمل ومودّة ومحبّة إنسانيّة تبني مستقبلًا لكم ولكلّ الأمم خيرًا عميمًا.
هذا هو الإسلام السمح الحنيف الإنسانيّ، صاحب الحضارة التي أسدت للبشريّة في عصور ظلامها وسباتها وجهلها الفكر النيّر والعلوم الساطعة والعمران الفنّيّ، فلا تشوهوه بالتواكل والخمول ولا تهينوه بقلّة العمل وكثرة الدعاء، فليس ثمّة حصانة خاصّة للمسلم إلّا بحصانة عامّة لكلّ الناس والأمم، وكما قال أحمد شوقي في قصيدته “دمشق”: “ولكن كلّنا في الهمّ شرق” وأنا أختم وأقول: :كلّنا أمام المخاطر وآخرها الكورونا خلق”. ولا حصانة لأحد دون آخر ولا نجاة لأمّة دون أخرى.