رواية لليافعين صدرت عن مكتبة كل شيء في حيفا للأديب الرّوائيّ المقدسيّ جميل السّلحوت، الرّواية التي تقع في أكثر من خمسين صفحة من القطع المتوسّط، وشخصيّتها الرئيسة الفتى اليافع كنان من حيّ جبل المكبّر في القدس، الذي يزور القدس في رحلة مدرسيّة يتعرّف فيها هو وزملاؤه إلى أبواب المدينة وسورها قبل أن يدخلها، ويتّجه من باب العمود عبر حيّ الواد إلى المسجد الأقصى، فيتعرّف إلى أبوابه ومآذنه وقبّة الصّخرة، ثمّ يقرّر كنان مع بعض أصحابه بعد أن انبهروا بالمدينة ومسجدها، أن يتعرّفا إلى المزيد من معالم القدس التّاريخيّة، فيزورانها مرّتين أخريين، إحداهما لكنيسة القيامة ومعها مسجد عمر وكنائس أخرى، والزّيارة الثّانية كانت للمسجد الأقصى، حيث تعرّف وزملاؤه على معالم أخرى من المسجد، منها المسجد المروانيّ والمكتبة الختنيّة… وبعد زيارة لجدّه المريض في مشفى هداسا الواقع في بلدة عين كارم غربي القدس، يصرّ كنان على معرفة القرية الجميلة فيزورها مع أبيه، ليتعرّف على تاريخها وبعض معالمها. جاءت الرّواية لتؤكّد أهمّيّة تعريف أبنائنا بمدينة القدس بكلّ التّفاصيل المتعلّقة بالمكان من معالم تاريخيّة ودينيّة وآثار وغيرها، وكلّ التفاصيل المتعلّقة بالتّاريخ، بل نحن بحاجة مسيسة وملحّة لمثل هذا الأمر في وقت تتعرّض فيه المدينة لحملات الطّمس والتّهويد، وفي وقت يعمّ الجهل بها أجيالنا في داخل فلسطين وخارجها، فلا تلقى المدينة الاهتمام الكافي في مناهجنا، أقصد كلّ المناهج في البلاد العربيّة والإسلاميّة، وقد حرم جدار الفصل والمنع الكثير من أبنائنا من زيارة المدينة والتعرّف إليها. من هنا جاءت أهمّيّة هذا العمل الكبير الجليل، وهذه تعدّ مبادرة ثقافيّة أدبيّة عظيمة، وفتحا جديدا عنوانه: اكتبوا للقدس وعنها وفيها، عرّفوا أبناءنا بها. ستتجاوز الكلمة والرّواية والأدب كلّ الجدران.
جاء عنوان الرّواية: (كنان يتعرّف على مدينته) لافتا في إضافة المدينة إلى الضّمير العائد على كنان، فلم يقل يتعرّف على مدينة القدس، وهذه إضافة ملكيّة واختصاص. وكذلك استخدام الفعل المضارع يتعرّف على وزن يتفعّل والذي يفيد السّعي إلى المعرفة وتقصّدها وبلوغها، وابتدأ بكنان للفت النّظر لأهمّيّة اليافع في هذه المعرفة. والرّواية قدّمت وجبة دسمة ومعلومات قيّمة بلغة بسيطة تناسب السّنّ الذي وجّهت إليه، كانت المعلومات موثّقة بالتّواريخ. جاءت في إطار السّؤال والحوار. وجاء المسار المكانيّ دقيقا ولافتا، إذ لم يكتف الكاتب بتفاصيل بعض الأمكنة، حتّى أشار إلى رحلة ثانية وثالثة لكنان وزملائه خارج نطاق الرّحلة المدرسيّة، وهذا أمر ذو أهمّيّة، وتوجيه للأبناء ألا يعتمدوا في معرفة المدينة على الجهود المدرسيّة الرّسميّة، فجعل الكاتب كنانا وزملاءه يسعون بأنفسهم في معرفة المدينة واستجلاء معالمها. وربط الكاتب بطريقة فائقة بين المدينة وبعض أحيائها، ذلك من مثل وصف طريقين يؤدّيان إلى المدينة من جبل المكبّر بلدة كنان، فكانت فيهما إشارة إلى الأحياء التي تقع جنوب المدينة، وتلاصقها تماما بحيث يستطيع الفتيان أن يصلوا إلى المدينة سيرا على الأقدام. وتقصّد الكاتب الوقوف عند بعض اللّحظات التاريخيّة والمعالم العمرانيّة، من مثل الإشارة إلى قصر المندوب السّاميّ، وذكر بيتين من قصيدة أبي سلمى عبد الكريم الكرميّ الشّهيرة فيه.
لفت الكاتب النّظر إلى بعض المعلومات الخاطئة أو الخرافيّة التي تسود بين النّاس، وصوّبها، منها: أنّ الصّخرة كانت تقف في الهواء، أو أنّ تلك الحجارة الضّخمة في سور المدينة من صنع الجنّ. ومن المعلومات الخطيرة التي أشار إليها بالتّصحيح أنّ الصّخرة وقبتها هي جزء من المسجد وليست كلّ المسجد، وهذا ما يلتبس على كثيرين.
سعى الكاتب في توجيه القرّاء من اليافعين إلى قيم كثيرة منها، وجوب الالتفات إلى كلّ المعالم المكانيّة والعمرانيّة التي نمرّ بها وضرورة تأمّلها والتفكّر فيها. ووجّه القارئ إلى احترام قدسيّة المكان، والمحافظة عليه، والمبادرة بإنكار أيّ محاولة للمسّ به ولو كانت بكتابة أو خدش في الرّخام أو بعض جدران المسجد، كما حدث في رحلة كنان المدرسيّة. ولفت انتباههم إلى قيمة المحافظة على النّظافة، بل إلى قيمة المبادرة والتّطوّع في تنظيف إحدى ساحات المسجد الأقصى كما فعل كنان ورفاقه يوم الجمعة. ولفت انتباههم أيضا إلى قضيّة الاعتماد على النّفس في البحث عن المعلومة، وأهمّيّة المطالعة في تاريخ المدينة، وقد تقصّد الإشارة إلى المخطوطات في مكتبة المسجد الأقصى، وجاء بمعلومات عن المكتبة الختنيّة يجهلها كثيرون. ومن تلك القيم التي بثّها في روايته، والتي تسود المدينة المقدّسة التّسامح، فكنيسة القيامة تزار ويُحترم النّصارى ويحافظ على مقدّساتهم التي هي جزء من المدينة، ويراعى الاختلاف العقائديّ، وقد أشار الكاتب وبطريقة لطيفة في أثناء جولة كنان ورفاقه في كنيسة القيامة، إلى عقيدة الإسلام في أنّ المسيح عليه السّلام لم يُصلب. والحقّ أنّ هناك قيما كثيرة وجليلة بثّت في ثنايا التّعريف بالمكان، فأعطت الرّواية بعدا تربويّا كبيرا.
ورأيت الكاتب ومن طرف خفيّ ينتقد الأباء والأمهات وأولياء الأمور في تقصيرهم بتعريف أبنائهم بالمدينة ومعالمها. يقول كنان: ” جئت مع أبي إلى هذا المسجد أكثر من عشرين مرّة، كنّا نصلّي في المسجد القبليّ ولم أدخل هذا المكان مطلقا”. ص46
جاء الكاتب في الصّفحات الأخيرة على ذكر بلدة عين كارم، وجاءت زيارة كنان لها عابرة، وذلك في أثناء زيارته لجده في (مشفى هداسا) في البلدة عينها. فأحببت لو أنّ الحديث طال في البلدة القديمة من القدس وجعلت عين كارم وغيرها من القرى الغربيّة في رحلة خاصّة. وأحببت أيضا لو تكرّرت الزّيارات لمواقع في المدينة فيها تفصيلات كثيرة يعرفها الكاتب تمام المعرفة. وهذا أمر لفت انتباهي إلى أنّ كنانا قد يكون رحّالة صغيرا، ويجوب القدس وقراها في شطريها، القائم منها والمهدّم والمهجّر أهلها. فأرى أنّ أجيالنا وشبابنا بحاجة لمثل هذا التّوثيق اللّطيف من خلال تجوال وأحداث لافتة تربط الشّخص بالمكان، والذي يكون بعيدا عن السّرد التّاريخيّ المدرسيّ المملّ. والحقّ أنّ مثل هذا العمل يحتاجه كثيرون ومن أسنان مختلفة ولا يقتصر على اليافعين.
11/3/2020