يسعدني جدا أن أكون معكم في هذه الأمسية للاحتفاء بالناقد الدكتور نبيه القاسم الذي خصص جل وقته لمتابعة الحركة الأدبية في بلادنا، فهي خطوة هامة يقوم بها نادي حيفا الثقافي يستحق عليها التقدير والثناء، خاصة وأن نبيه القاسم ناقد معروف قدّم خدمة جلّى للأدب العربي الفلسطيني منذ حوالي نصف قرن من الزمن، ألّف خلالها حوالي أربعين كتابا. سأحاول اقتفاء أثر مسيرته النقدية منذ البدايات حتى اليوم، بشكل موجز، كما يتيح لنا الوقت من خلال الإجابة على التساؤل التالي:
ماذا قدّم الناقد نبيه القاسم للحركة الأدبية في بلادنا؟ وهل اقتصر دوره على متابعة الإنتاج المحلي أم تعداه إلى ما هو أبعد؟
نبيه القاسم المعلم المبدع غير التقليدي
أعود بذاكرتي إلى بداية سبعينيات القرن الماضي حين كنت طالبا في المدرسة الثانوية، فأتذكر أنّ هناك معلما شابا ينضم إلى أعضاء الهيئة التدريسية في مدرسة الرامة الثانوية التي كانت من أهم الصروح التعليمية في بلادنا في تلك الفترة، وذلك بفضل مجموعة مميزة من المعلمين المربين الأجلاء، وكانت هذه الخطوة، بحد ذاتها، تحمل الكثير من التحديات. ينجح نبيه القاسم في أن يكسب سمعة طيبة ومكانة مرموقة بين مجموعة من المعلمين الأعلام في تلك الفترة. ثم ما يلبث أن يؤلف كتابا مساعدا للطلاب والمعلمين في فهم مادة اللغة العربية بعنوان “النصوص التحليلية” سنة 1972.
يتابع القاسم دوره التربوي والتعليمي وينضم إلى طاقم الكلية الأكاديمية العربية في مدينة حيفا، ويتسنّم العديد من الوظائف الإدارية والأكاديمية فيها، وبذلك يجمع ما بين التعليم الثانوي والعمل الأكاديمي.
نبيه القاسم الناقد – البدايات
بدأ نجم نبيه القاسم يسطع في سماء الدراسات والنقد منذ منتصف العقد السابع من القرن المنصرم، وكان مفهوم النقد، آنذاك، غير واضح المعالم، ولم يكن الدرب معبّدا، بل كان مليئا بالحفر والمطبات. وكان على من يختار هذا الطريق أن يتحدى المبدعين قبل أن يتحدى القراء.
كان النقد، ولا يزال، يعمل على أن يكون الخيط الذي يربُط بين المنتوج الفني وبين المتلقي، وقد استجاب العديد من نقاد العالم العربي لهذه الفكرة وقاموا بعملية شرح المنتوج الأدبي وتبسيطه ليصل إلى المتلقي، وكان الناقد نبيه القاسم مثل كثير من النقاد في العالم العربي الذين وجدوا أنّ من واجبهم تبسيطَ النص الأدبي وتيسيرَه للقارئ العادي، فقدموا خدمة كبيرة للقراء عامة. حريّ بنا أن نذكر بأن مستوى التلقي في سبعينيات القرن المنصرم ليس هو نفسه في هذه الأيام، وذلك لأسباب عدة لا مجال للخوض فيها. ومن يراجع ما كتبه القاسم في بدايات طريقه فسيرى أنه كان يلجأ كثيرا إلى الاستعراض لتبسيط المادة وجعلها متيسرة ومستساغة لدى القارئ.
كان المذهب الواقعي، وبالذات مذهب الواقعية الاشتراكية، هو المسيطر على الإبداع العربي عامة والفلسطيني خاصة، بتأثير من المنظومة الاشتراكية العالمية، وكان ينتمي إليها الأدباء “الملتزمون”، خاصة أنها دعت إلى رفع قيمة ومكانة العامل والفلاح. كان لهذه المدرسة دور هام جدا عالميا، وقد وجد الكثير من أدباء العالم العربي أنفسهم جزءا من هذه المدرسة التي تمثل واقعهم وطروحاتِهم، وكان نبيه القاسم في تلك الفترة من المتأثرين بها، كما ينعكس في دراساته ومقالاته النقدية. وقد بالغ البعض من النقاد والباحثين والمتلقين، الذين اهتموا بالفكرة والمضمون أكثر مما اهتموا بالشكل الفني، أما القاسم فقد سار في الطريق الوسط، جامعا بين الشكل والمضمون وكان ذلك في حينه يعتبر خطوة هامة باتجاه تحدي الشائع والمألوف. إذ كان مقياس جودة الأدب هو الموضوع الذي يطرحه الكاتب أكثر من النظر في جودته الفنية.
نبيه القاسم ابن بيئته
ولد نبيه القاسم في أواسط أربعينيات القرن المنصرم، وكان طفلا صغيرا عندما وقعت النكبة، وحين بلغ سن الشباب شهد نكسة حزيران 1967. وكان لهذين الحدثين تأثيرات عدة على المستويين، العام والخاص، سياسيا، فكريا، اجتماعيا وأدبيا. فالإنسان العربي يُحبط مرتين خلال عقدين من الزمن. وكان على المواطن الفلسطيني أن يبحث عن لقمة عيش تضمن البقاء له ولعياله، حيث الخوف والقلق يبسطان نفوذهما، فالصدمة كبيرة ومجلجلة أفقدت الكثيرين توازنهم، فهي أشبه بهَزة أرضية لها أبعادها وارتداداتها وتأثيراتها المستقبلية.
انبرى بعضهم يبحث عن “سيف السلطان” محتميا به، ومن يبحث عن “سيف الحق” يحارب به. وكان نبيه القاسم من أولئك الذين وقفوا إلى جانب شعبهم يدعم بقاءه بالحبر والفكر، فتصدى لمخطط فصل الطائفة المعروفية عن جذورها العربية الفلسطينية، من خلال مساهمات هامة داعمة تكللت بإصداره كتابه “واقع الدروز في إسرائيل” (1976).
كان من الطبيعي أن يواجه الأديب الفلسطيني هذه الصدمات من خلال كل الوسائل الفنية المتاحة كي يحافظ على توازنه النفسي والعاطفي والوجداني. ولعل من أهم أبعاد النكسة “الإيجابية” هو لقاء الفلسطيني بالفلسطيني الذي جمع بين من تبقى هنا، وبين من يعيشون في المناطق المحتلة سنة 1967. فاتسعت الدائرة من خلال اللقاءات المباشرة التي تجمع بين الأدباء الفلسطينيين من كلا المنطقتين، تلك اللقاءات التي أثْرت الأدب الفلسطيني من خلال إقامة أيام دراسية وندوات أدبية وفكرية، كان للناقد القاسم دور هام في تسويق أدبنا لأخوتنا في الضفة وفي قطاع غزة. فشارك في الحوارات الأدبية عبر كل الوسائل المتاحة في حينه مما ساهم في نقل صورة عما يجري هنا في الداخل للعالم العربي وللفلسطينيين في أماكن تواجدهم في الشتات.
كان للنكسة تأثير مباشر على الأدب والأدباء، ليس في فلسطين فحسب، بل في العالم العربي أجمع، فقد كُسر حاجز الخوف من الأنظمة، وقام قسم من الأدباء بمعالجة النكبة والنكسة من خلال الأعمال الأدبية على اختلافها، شعرا ونثرا. يصدر القاسم مجموعته القصصية “ابتسمي يا قدس” (1978)، يعالج فيها الواقع العربي الفلسطيني، فضلا عن عدد من الكتب الدراسية التي تواكب أعمال العديد من الأدباء مثل، “دراسات في القصة المحلية” (1979)، و”دراسات في الأدب الفلسطيني المحلي” (1987)، و”القصة الفلسطينية في مواجهة حزيران” (1989)، وغيرها.
نبيه القاسم الناقد- مرحلة البلوغ
أعلم جيدا أني في تقييماتي هذه، وفي رؤيتي هذه، أدخل في أرض وعرة، سيما وأن تقييم دور ناقد ودراسة ما قدمه ليس أمرا يسيرا، لأن ذلك يتعلق بالبيئة والمحيط المحلي والعربي والعالمي، على حد سواء. فما يحدث هناك له تأثيره المباشر هنا، فالنظريات الأدبية الحديثة غربية المنشأ، ويتطلب ذلك وقتا حتى تنتقل من مصادرها الأولى لتصل إلى العالم العربي وإلى اللغة العربية، مع ما تثير من صدى وردود فعل مؤيدة ومعارضة. وكلنا يعلم دور المدرسة الشكلانية الروسية التي كان لها دور هام في توجيه أنظار الباحثين باتجاه الشكل خاصة في طرحها العميق: “ما الذي يجعل نصا ما نصا أدبيا”. وضعت هذه المدرسة اللبنات الأولى للمدرسة البنيوية وما بعد البنيوية، التفكيكية والسيميائية ونظريات جماليات التلقي.
وكان من الطبيعي أن يتأثر أدبنا بهذه المدارس الحديثة، وأن يطلع النقاد والدارسون عليها لتطوير الأدوات الفنية التي تسعف الناقد للخوض في نص أدبي حديث، أو إعادة النظر في تقييم نص أدبي قديم أو كلاسيكي. ومن يتابع دراسات نبيه القاسم ومقالاته النقدية في العقدين الأخيرين فسيرى بوضوح تأثير هذه النظريات وانعكاساتها في رؤيته النقدية خاصة بعد تقديمه دراسته الأكاديمية الجادة “الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف” (2005). فقد بدت الرؤية المنهجية أكثر وضوحا من حيث تقسيم البحث، ومبناه وحواريته مع مصادر أخرى ومراجع عدة. لكن القاسم لم يغرق في غياهب النظريات، لم يلتزم بإحدى هذه النظريات ولا هذه المدرسة أو تلك بل نراه يأخذ منها ما يراه يتناسب مع رؤيته الفكرية والفنية، مع ربط المنتوج الأدبي بواقعه وبيئته ومحيطه.
يُفرض على الناقد أن يكون موسوعي الثقافة حتى يتجرأ على دخول عالم النقد، وعليه، إضافة إلى قراءة ما يصدر من إنتاج أدبي، أن يتابع ما تنشره المدارس الأدبية، وأن يواكب حركة التنظير الأدبي التي لا تتوقف عند محطة واحدة. يحتاج هذا الأمر إلى صبر وأناة، وإلى تخصيص معظم الوقت للمتابعة. ونبيه القاسم لا يكِلّ ولا يمَل فهو أكثر النقاد متابعة لما يصدر من إنتاج.
إنتاج نبيه القاسم متنوع ومتشعب، يجب النظر إليه طوليا وعرضيا، عموديا وأفقيا؛ امتدت دراساته وأبحاثه لتشمل الأدب الفلسطيني المحلي، ثم حلق فوق الأسوار والأسلاك الشائكة ليصل إلى الأدب الفلسطيني في الشتات، وامتدّ جغرافيا ليصل العالم العربي الأوسع، يتوقف عند أهم الأعلام العرب مثل، العقاد، لويس عوض، عبد الرحمن منيف، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، محمد مندور، نصر أبو زيد وأدونيس، كما حاور أعلاما عبريين لامعين مثل ساسون سوميخ، دافيد تسيمح وسامي ميخائيل. وفي الأدب العالمي فقد كتب عن غارسيا ماركيز وباولو كويللو.
خلاصة
أن تكون شاعرا وكاتب قصة ورواية، عليك أن تتمتع بموهبة أدبية، خاصة في البداية، ثم تأتي أمور أخرى لتطوير الأدوات عبر الممارسة والثقافة. أما أن تكون ناقدا فعليك بداية أن تكون موسوعي الثقافة، ثم تتطور الأدوات عبر الممارسة ليكون النقد الحقيقي عملية خلق جديد ورؤية شمولية، طولية، عرضية وعمودية. وأما من يقول بتابعية النقد فهو إنما يقلل من شأن الناقد ودوره ومكانته، لأن النقد هو عملية إبداع على إبداع.
واكب نبيه القاسم الحركة الإبداعية في فلسطين، منذ بداية سبعينيات القرن المنصرم وحتى اليوم، بل عاد في دراساته إلى جذور الأدب الفلسطيني شعرا ونثرا، وله في ذلك دراسات طلائعية، ولم يتوقف عند ذلك بل رأيناه يتابع الحركة الأدبية في العالم العربي، في مصر ولبنان وسوريا والعراق.
لم يخصص القاسم قلمه لمتابعة إنتاج كبار الأدباء الفلسطينيين فحسب، بل رأيناه يأخذ بيد الكتاب الصغار سنا والأدباء في بداياتهم، يقرأ إبداعهم مشيرا إلى نقاط القوة ونقاط الضعف، تماما كما يفعل الأب مع طفله الصغير حين يرافقه في أولى خطواته.
تناول نبيه القاسم إنتاج بعض الكتاب الطلائعيين، رافقهم في بداية مشوارهم الأدبي مثل محمد علي طه، محمد نفاع، توفيق فياض، مساهما في نقل إبداعهم إلى العالم العربي الذي كان يجهل جهلا تاما ما يدور على ساحة الأدب في بلادنا. فإن كان محمود درويش، سميح القاسم وإميل حبيبي قد عبروا بوابة فلسطين، في فترة سابقة، إلى ساحات الأدب العربي والعالمي، إلا أن الأسوار ظلت تحاصر غيرهم من كبار أدبائنا، فكان نبيه القاسم سفيرا ينقل أخبار أدبنا وأدبائنا إلى العالم الأوسع، ولعل هذا هو الدور الأكبر الذي قام به الناقد الدكتور نبيه القاسم، إذ قدم أدبنا للعالم العربي على طبق من فضة ليتذوّقوه ويشموا رائحة ترابه ونعناعه، وليتعرفوا على عنفوانه ومكامن قوته وتحديه لآلات القمع وسلاسل السجن وكاتم الصوت، في حين كان هناك من يعمل على تسويق أشباه الأدباء في محاولة لتزييف صورة العربي وأدبه في هذه البلاد.
لا تستطيع أن تكون مبدعا إلا إذا كنت إنسانيا ذا فكر متفتح يسعى إلى تطوير مجتمعه فكريا وسياسيا، وقد رأيناه داعما للإبداع التقدمي الفلسطيني والعربي والعالمي، هذا الإبداع الملتزم بالحق الإنساني بالحياة بحرية وكرامة. وقد تجلى ذلك في العديد من مقالاته الفكرية والسياسية، كما رأيناه نصيرا للمرأة، كما تجلى في متابعته لإبداعهن وحثهن على الكتابة والإبداع والانخراط في الحياة اليومية، عاملة ومعلمة ومحاضرة، ولنا خير مثال على ذلك كريمته الباحثة الأكاديمية د. رباب سرحان.
وبهذه المناسبة نقول للكتّاب إن نبيه القاسم ورفاقه من النقاد ليسوا بقادرين على بث الروح فيما يسميه البعض أدبا. قلت وأعيد ما قلته ذات أمسية أدبية، لا يستطيع أطباء العالم لو اجتمعوا كلهم أن يعيدوا الحياة لمن فقدها، وهذا ما ينطبق على ما يولد ميتا مما يسمى أدبا، إذ لا يستطيع كل النقاد لو اجتمعوا أن يبعثوا الحياة في نص ولد ميتا.
نبيه القاسم قام بدوره، دعم وشجّع وأرشد وحذّر، فما علينا إلا أن نقدم له أسمى آيات الشكر على ما قدم لنا ولأدبنا، ومن كان لديه قول آخر فإني على ثقة تامة أن صدر القاسم يتسع لكم جميعا.
( نص الكلمة التي ألقاها الناقد د. رياض كامل في نادي حيفا الثقافي احتفاء بالناقد د. نبيه القاسم يوم الخميس 27.2.20)