بقلم: د. راوية جرجورة بربارة
مساء يشبه شباط الذي نحن في أواخره، إن شبط وإن لبط فبصمة نبيه فيه، لأنّ بصمتَه كرائحة الصيف وسْط الضبابِ، بصمتُه النقديّة الثقافيّة كَبوح الشمس التي تذكّرك بالدفء الآتي، وبالنور الآتي ثقافيًّا وتربويًّا وأكاديميًّا، بصمتُهُ النقديّة كخيرِ الشتاء الهاطل، على اعتبار ما قاله فرانك كلارك: “النقد مثلُ المطر ينبغي أن يكون يسيرًا بما يكفي ليغذّي نموَّ الإنسان دون أن يدمّر جذورَه”.
وكيف لي أن أكون معك اليوم أيضًا؟ وقد ترافقْنا في أمسيات وأمسيات، أمسيات كنّا فيها زملاء في القراءات النقديّة، وأمسيات كنتَ فيها ناقدًا لأعمالي، وأمسيات شاركتك فيها احتفاءك بإصدار جديد؛ وكلّ مرّة تصعب المهمّة أكثر وأكثر، لأنّ تجربتنا المشتركة كبيرة إلّا أنّك نبعك الذي لا ينضب هو مُعيني ومَعيني يحثّني على تناول جديدك وكأنّ شيئًا لم يكن، وكأنّني لم أدعُك في مقالة سابقة “نبيه منبّه الحركة الثقافيّة الفلسطينيّة”، وكأنّني لم أكتب عنك وأحتفي بك! لكن، كيف تسوّل لي نفسي ألّا أشاركك، فالاحتفاء بالعمل الجديد، بتلك القدرة على العطاء، بذاك التصميم على التجدّد في التناول، يدفعني للإعادة والاستزادة؛ أنت تزيد من كتاباتك ونقدك الأدبيّ، وأنا أزيد في أداء واجبي الثقافيّ تجاه هذه الظاهرة، ظاهرة نبيه القاسم؛ وأقترح هنا على الباحثين في حركتنا النقديّة المحليّة، وعلى طلبة الدكتوراه في النقد الأدبيّ وفي اللغة العربيّة وآدابها في علم الاجتماع، أن يبحثوا في تطوّر آليّات النقد عند نبيه القاسم، وفي موضوعات النقد التي تطرّق إليها في أدبنا الفلسطينيّ عامّة، والمحليّ خاصّةً، والنسويّ تقاطعًا مع الأدب العربيّ، ذاك أنّه بنقدِه لا ينقضُ، ولا يكوّم أكوامًا من حجارة العمل الأدبيّ ويتركها حطامًا، بل على العكس تمامًا، نراه في نقده يرمّم لنا المفاهيم التي فلتت منّا أثناء قراءتنا، وعن هذه المفاهيم الهاربة التي يُحسِن نبيه اللحاقَ بها وإمساكَها، ستكون مداخلتي، رغم أنّه من الصعوبة بمكان أن تتناول في أمسية أدبيّة كتابَ نقدٍ، لكن “حاجتنا إلى النقد لا تقلّ أهمية عن حاجتنا إلى البناء.” اقتباسًا من عبد الكريم بكّار
لا يمكن أن نمرّ على نتاج نبيه مرّ الكرام، فهو علامة فارقة في تاريخ حركتنا الثقافيّة الأدبيّة، والأدب لا تقوم قيامته دون نقدٍ يجاريه سلبًا أو إيجابًا، والنصّ لا يصلُح ولا يخلُد إلّا بقارئٍ نبيهٍ ينبش تراب الكلمات ليرى جذور النصّ كما فعل د. نبيه مع كاتبنا الفلسطينيّ-العسقلانيّ اللندنيّ ربَعي المدهون، حين نبشَ له نصّ رواية “مصائر، كونشرتو الهولوكوست والنكبة” ونبّهَنا إلى خدعةِ الولوج إلى النصّ عبر حركات الكونشرتو التي اختلف النقّاد في عددها ثلاث أو أربع حركات، وكيف أنّ الراوي في كلّ حركةٍ في الرواية قدّم شخصيّات تأخذ دورها على مسرح الأحداث، وتخرج مودّعة بعد تأدية دورها لتأتيَ غيرُها وتتابع الطريق. إنّ هذا الالتفات للعلاقة بين العنوان/عتبة النصّ وبين مبنى الرواية يجعل قراءة النصّ سلسة، مفهومة أكثر، ويستطيع القارئ المنتبه لهذه الحقيقة أن يجاريَ النصّ بالبحث عن الشخصيّات المنتقلة والمختلفة وإيجاد العلاقة بينها.
وهذا ما يميّز قراءة د. نبيه ونقدَه، هذا النبش غير الاعتياديّ، وقراءته المختلفة التي تبدو سهلة، لكنّها سهلة ممتنعة، فهو كناقد لا يُغرِق القارئ الباحث بالنظريّات الأدبيّة، ولا يحاول البحث عن النظريّة التي كُتِب النصّ وِفقَها قدرَ محاولته أن يسبر أغوار النصّ كغوّاص ماهر ليكتشف اللآلئ والمرجان، التي لم ينتبه إليها غيرُه من النقّاد، وظنّوا أنّها عفويّةُ الناقد، وغاب عنهم أنّها مِراسٌ قرائيٌّ متمكّن منفتحٌ سجّل للنقد مدرسةً بعيدةً عن الانطباعيّة قدر اقترابها منها، بعيدةً عن زخم الأكاديمية قدر اقترابها منها، هكذا استطاع أن يقرأ نقدَه القارئُ العاديّ والقارئُ المختصّ ليجدَ كلٌّ منهما ضالّته النقديّة، وهذا السهل الممتنِع في النقدِ ربّما كان عن وعيٍ، ربّما في اللاوعي هو أسلوب نبيه، ربّما جاء بعد علاقاتٍ تضاربت مع كتّاب عادوه لنقدِه، ففتح للنقدِ بابًا آخر، بابَ التعاطي مع النصّ من الداخل، تاركًا كلَّ الحيثيّات الخارجيّة، منشغلًا بأمور المفاهيم، والأساطير، والتعابير، والشخصيّات، والكلمات ومّا وراء الكلمات، ولأنّ باب النقد الذي يفتحه يكون بمصراعيْن، نراه يعاود النظر في الحيثيّات الخارجيّة: مَن هو الكاتب الحقيقيّ للنصّ؟ من هو الكاتب الضمنيّ؟ متى كُتب النصّ؟ أين كُتب النصّ؟ ما هي علاقة المرويّ بالواقع؟ أي أنّه يدخل الرواية ليستخرج منها ويأتي للرواية من الخارج مع كلّ المعطيات الزمكنيّة التاريخيّة السياسيّة التي كُتب فيها النصّ؛ وعن هاتيْن القراءتيْن ما بين التفكيكيّة والبنيويّة سأعطي أمثلة من إصداره الجديد “رحلة مع غوايات الإبداع”.
قبل أن أبدأ برحلته مع غوايات الإبداع، سأبدأ معه من مكانٍ شخصيّ، فحين كتبتُ روايتي “على شواطئ الترحال”، انتبَه بقدرته القرائيّة إلى ما وراء السطور، إلى ما لم ينتبه إليه غيرُه من النقّاد الذين شغلتهُم قضيّةُ الرواية وفكرتُها المركزيّة ولغتُها عن قراءة التفاصيل الصغيرة، تلك التفاصيل التي تبني اللبُنات في البنية الروائيّة، والتي توثّق أحيانًا، والتي تبقى شاهدة على الحدث، وتكون قد حادت عن مسرى القصّ الأصليّ ودخلت في مسارب التفرّعات الروائيّة فهمّشها النقّاد.
ألَم ينتبه د. نبيه حينها أنّ روايةَ “على شواطئ الترحال” هي أوّلُ عمل فلسطينيّ يتطرّق إلى موضوع المهجّرين في غير قراهم، وكيف يعاملون حتّى اليوم كمهجّرين وليس كأبناء بلد، في كلّ ما يتعلّق بالتعاطي الاجتماعيّ والسياسيّ في القرية.
أيّها النبيه! هل تعرف لماذا أوافق كلَّ مرّةٍ على مشاركتك، ولماذا لا ينضب مَعيني معك؟ لأنّنا لو تشارَكْنا في أمسية، لا أقلق من أن نتناول نفس الأمور، فأنت تنبش في جهة، وأنا أنبش في أخرى؛ ولأنّني لو جئتك كقارئةٍ لأعمالِك كما أفعل اليوم أشعر أنّني أدخل مغامرة غير مسبوقة، مغامرة جديدة، فما أقوم به يسمّى ميتا نقد، نقد على النقد، أي أنّني سألعب بالنار ..فكيف لي أن أدخل حلقة النار وأخرجَ سالمة؟؟ ألا أكون كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ سأحاول أن أرافقك في رحلة غوايات الإبداع دون أن أقع في غواية النقد والانطباع.
إذًا، أعرفتَ لماذا أوافق كلّ مرّة على مشاركتك، لأنّك صاحبُ التفاصيل الصغيرة الدقيقة الذي ينبش في التاريخ والأسطورة، والمكان، والشخصيّات، ونقرأك بسلاسة، ونقول كقرّاء: شكرًا، ساعدتَنا على استيعاب حقائق غابت عنّا، وقد صدق من سمّاك “نبيه” فاسمٌ على مسمّى، وتلك نباهتك تتجلّى مثلًا في قراءتك لنصّ “راكب الريح” للكاتب الفلسطينيّ الكبير يحيى يخلف، ولننتبه معًا إلى:
- ربْطِ النصّ بالواقع؛ القراءة على القراءة- قراءة ما وراء النصّ: فرغم أنّ نصّ راكبِ الريح يعيدنا في الرواية إلى أواخر القرن الثامن عشر، إلّا أنّ نبيه يربطها من حيث لا ندري بالواقع الفلسطينيّ الراهن، ومأساويّة الراهن العربيّ الذي نعيشه، فيقول بأنّ “التاريخ يعيد نفسه جملة يتيمة تتكرّر وتُستعاد كبدهيّة مقبولة. ومثلها “لا ظالمَ باقٍ، ولا دولة خالدة، والزمن دوّار، يوم إلك ويوم عليك” وقد أراد بذلك أن يوصلَ لنا ما قصدَه أو ما لم يقصده الكاتب- ولا خلاف لنا بهذا الشأن_ فقد فهِم نبيه فيما فهمَ من الرواية أنّ هذه العودة التاريخيّة، هدفها هو الآنيُّ، والمستقبل؛ هدفها أن تعطيَ مثالًا حيًّا على دولٍ مرّت من هنا، وأناس حطّت ورحلت، وامبراطوريّات حكمت وعربدَت وزالَت، وهذه العبرة تقوّي قارئ الحاضر المرّ بأنّ الأيّام ستمرّ، وبأنّ الزمن دوّار؛ وهذه قراءة من اجتهاد د. نبيه تؤكّد مراسه ووعيه القرائيّ وقدرته على ربط الأمور بعضها ببعض، فلا يجوز أن يكون النصّ عبثيًّا هدفُه التسلية فحين يختارُ الكاتبُ يافا مكانًا، يكون اختياره مقصودًا لغايةٍ في نفس يعقوب، وحين يروي لنا عن تعاقب الدول احتلالًا، والقدرة على الصمود، فهذا القصّ ليس ضربًا من الخيال ولا من العبثيّة، على اعتبار المقولة إنّ “النقد تفسير خاطئ ومعكوس: ينبغي أن تتم القراءة من أجل فهم الذات، لا من أجل فهم الآخر”، وهذا ما فعله نبيه حين حلّل لنا سبب العودة التاريخيّة في الرواية، وربط لنا أحداث القرن الثامن عشر مع واقعنا، فما أجمله من تحليل يأخذنا من تجربة القرون الماضية، لنرسو في الحاضر مع تجربةٍ علّمتنا أنّ الزمن دوّار ولا شيء يبقى على حاله.
- البنيويّة السرديّة التي نبّه لها نبيه، بأنّ الإطار البنيويّ لتحليق راكب الريح هو تحليق تخييليّ على جناح حكايات بساط الريح، تلك الحكايات التي حدث جزءٌ منها فعلًا، وجزء لم يحدث، بل تخيّله الكاتب، وكلّ هذا ليقول بأنّ التحليق مع الريح في الرواية، لم يكن من حكايا جدّتي: “يا جدّتي حدّثينا، هيّا احملينا احملينا، على بساط الريح هيّا احملينا وروحي”… من يجايلني في هذه القاعة سيعرف أنّ هذه افتتاحيّة حلقات “على بساط الريح”، وحكايا الجدّة التي نشأنا عليها، وحكايا يحيى يخلف التي كانت على بساط التخيّل، جاءت لتُفهمَنا بانّ وجودَنا هنا هو واقعٌ تاريخيّ، وكم مرّةً من هذا الواقع حلّقنا في الخيال والإبداع، والشجاعة، وعشنا قصص العشق، والحبّ، والأهل، والحارة، والبيت والدمار، وعاد بنا بساط الريح إلى واقعنا المنتظَر، وأنتَ بنقدك أثرتَ هذه النقطة، على اعتبار أنّ “النقد هو حاملٌ أمينٌ لكلّ مواريث التاريخ، ولكلّ ملامح الحاضر، ولكلّ عوامل تشكيل المستقبل” أمين مرسي
- النبشُ في الشخصيّات التي شكّلت الرواية، لا على مستوى الحدث الروائيّ فحسب، بل على المستوى الأسطوريّ الذي تحمله كلّ شخصيّة في اسمها وصفاتها، فها هو ينبش في “ألف ليلة وليلة”، وأسطورة اندروميدا وذات السن الذهبيّة وأسطورة ميدوسا، إنّه الناقد الذي لا يهدأ له بال إذا لم يفكّ ألغاز النصّ.
نرى من هذه الأمثلة القليلة مسارًا نقديًّا واضحًا يعتمد التفصيليّة، والاهتمامَ بالتفاصيل الصغيرة، والتركيزَ على المضامين المختلفة وما تحمله في ذاتها، وفيما وراء النصّ، وهذا كلّه لأنّ نبيه كغيره من النقّاد الجادّين يعتبر الرواية “ديوان العرب”؛ فبعد أن كان الشعر هو ديوان العرب يسجّل مآثرَهم وأيّامهم وحروباتِهم وتاريخَهم وأنسابَهم ومأكلَهم ومشربَهم وعاداتِهم وتقاليدَهم، أصبحت الروايةُ هي المؤرّخ الحقّ واحتلَت مكان الصدارة، فأصبحتْ على روائيّتها توثيقيّة، تأريخيّة تحمل الهمّ الجمعيّ، وفي حالتنا، الهمّ الجمعيّ الفلسطينيّ كما نرى في تحليله لرواية “عين خفشة” للكاتبة رجاء بكريّة، و”نوم الغزلان” لمحمّد علي طه، و”يعدو بساق واحدة” لسامح خضر. ونبيه ينبّه من خُدّج الرواية، يخاف من هذا الانفلات في الصياغات واللّغة وتفكيك الحدَث، يخاف من الفوضى التي يمكن أن تصيب الرواية لكثرة الروائيّين على قلّتهم!
وهنا يساورني القلق، إذا كنت د. نبيه على نباهتك تقف موقف الناقد العراقيّ عبد الله إبراهيم، الذي تورد له اقتباسًا في مقدّمة كتابك “حذار من غشماء السّرد الذين يعبثون بمعاييره ويفسدون شروطه، وهم عددٌ غيرُ قليلٍ من هواة الكتابة غيرِ المؤهلّين لخوضها، وأصطلِحُ عليه “خُدّج الرواية” الذين ظهروا بدواعي الجهل والغرور من غير استيفاء شروط السرديّة.”
ولماذا يساورني القلق؟ لأنّ هناك فرقًا بين غشماء السّرد، وبين من لا يستوفي الشروط السرديّة، وعلينا أن نكون دقيقين في حكمنا، ففي قضيّة غشماء السّرد موقفي كموقفكما، أمّا بالنسبة لمن لا يستوفي الشروط السرديّة، فبدر شاكر السيّاب، ونازك الملائكة وكلُّ من سار على نهجِهما لم يستوفِ الشروط العروضيّة، وإذا بالقصيدة تعتمد التفعيلة وتصبح حداثيّة تسير على نبض الواقع، والرواية الحداثيّة لا يمكن لها أن تبقى هناك عند حدود شروط السرديّة الكلاسيكيّة، واختياراتك الموفّقة تساند رأيي، فما اخترتَه في مسار رحلة غوايات الإبداع، كان خروجُ بعضِه عن المسار المعتاد هو الإبداع المنتظَر بذاته، وخروج بعضِه عن شروط السرديّة المشروطة أخذه في رحلة الغواية.
وباختياراتك، وقراراتك، وجرأتك، “فالنقد في السرّ مساومة” حسب اعتبارات يوسف إدريس، وأنت لم تساوم، تجرّأتَ وجاهرتَ، لأنّك عرفتَ من أين تؤكَل كتفُ النصّ، لا بالمساومة، ولا بالمناطحة، بل بالنبش الأكاديميّ، وبنبشك للتفاصيل الصغيرة فتحتَ للنقد طاقةَ الغواية وطاقة الإبداع وأخذْتَنا معك في رحلة ما بعد النصّ، أخذتنا في رحلة القراءات المتعدّدة، فأنت تقرأ النصّ قراءة أوّليّة تجمع فيها المعلومات الظاهرة للعيان، ثمّ تقرأ قراءة تحليليّة فتربطَ ما بين الحدث والواقع، وما بين المتخيّل والواقع، وما بين التحليق والهبوط؛ وتقرأ النصّ قراءة ثالثةً هي القراءة التأويليّة التي تأخذ النصّ إلى أبعادِه المشتهاة، أبعاد القارئ الذي يحيي النصّ بقراءته وثقافته وتجربته، القراءة التي تتركك مندهشًا من قدرةٍ على سبرِ الأغوار وفكّ الألغاز، لتصل قمّة المتعة بما بين يديك، وتقدّم للمكتبة الفلسطينيّة المحليّة ذخرًا من التحليل النقديّ الهادف، منعشًا بذلك أدبًا لا يلتفت إليه الكثيرون في عالمنا العربيّ، مبقيًا للأجيال القادمة زادًا ثقافيًا لا يستهان به.
د. راوية جرجورة بربارة
(ألقيت المداخلة في الأمسية الاحتفائية مع د. نبيه القاسم في نادي حيفا الثقافي يوم 27-02-2020 )