(الحلقة الخامسة عشرة)
لقد كانوا يقتلون اليهوديَّ ويرمونه في مناطق سكن اليهود، وبالعكس يقتلون العربيَّ ويرمونه في منطقته العربيَّة، وكلٌّ يظنُّ أنَّها جريمة الطَّرف الآخر، ويبدأ الإحتقان والتَّهديد والمشاحنات الإنتقاميَّة، وهكذا تتجدَّد الإشتباكات العنيفة والمواجهات..
فكنتَ تجد العصابات يتَّخذون مواقعهم على حدود التَّماس مع المناطق العربيَّة بعُدَّتهم وعتادهم يستفزُّون السُّكَّان ويتحرَّشون بالنِّساء والأطفال والعجزة ويثيرون بهم الرُّعب والخوف والذُّعر، لقد كانوا يقصدون أكثر السُّكَّان العرب الذين يسكنون المناطق المُتاخمة للمناطق اليهوديَّة.
يقول والدي لقد كانت لليهود مخازن للاسلحة والذَّخائر في منطقة الهدار وفي أقبية معهد التِّخنيون، وفي بيوتهم، بينما كنتَ تجد عند العرب قطع اسلحة معدودة وقديمة، “فَشَك معَفشِك ومْبَرِّد”، من مخلَّفات الحرب الكونيَّة الأولى، أو ذخيرة من بقايا “ثورة السِّتَّة وثلاثين”.
وقد جاء في كتابي “يوميَّات برهوم البلشفيِّ” (ص 79) ما يلي:
فقد اشترى داود، أخ برهوم الأكبر، الذي حمل همَّ العائلة جمعاء على كتفَيْهِ إلى جانب هموم شعبه ووطنه، مسدَّسًا ألمانيًّا من نوع بارَابِلُّو، بأربعين ليرة فلسطينيَّة، أي ما يُقارب معاشه الشَّهريِّ أو يزيد. حيث كان يحرس حارته ورفاقه وهي المنطقة الواقعة بين شارع ياقوت ومار يوحنَّا. يومها كان متمركِزًا وراء متراسٍ، ووجهه نحو عمارة شركة الكهرباء، الواقعة في نهاية شارع مار يوحنَّا، بتقاطُعِهِ مع طريق اللنبي، وحين كان موجِّهًا انتباهه إلى ذلك التَّقاطع، أتاه صديقان متطوَّعان لُبنانيَّان من مدينة بعلبك، مدينة الشَّمس، وعلى رؤوسهما كوفيِّتان بيْضاويان وعقالان أسودان وهما نايف كحيل، شابٌّ أشقر الشَّعر أزرق العينيْن ذو قامة عالية ومليئة وابن عمِّه محمَّد كحيل مثيله في الهيئة، ليُبَدِّلانه، قائلين له: زيح هيك يا داود وروح ارتاح. لكنَّه حال إخلاء موقعه لهما، وإذْ برصاص الجيش البريطانيِّ يأتيهما من الخلفِ من بارودة جُنديٍّ بريطانيٍّ كان قد ترجَّل من مُصَفَّحتِهِ، فقتلهُما غَدْرًا، فَيُصيب رصاصه المُتطوِّعَيْن اللبنانِيَّيْن من أبناء كحيل ليُسقِطهما شهيدان من أجل حيفا، ويُحدِّد برهوم مكان استشهادهما، حيث كان في شارع مار يوحنَّا رقم خمسة عشر. ويُقال أنَّ هناك من وشى للإنجليز بوجودهما هُناك في تلك النُّقطة.
لقد كان لكلِّ مُدافِع مسدَّس مختلف عن المُدافع الآخر وكذلك ذخيرته، حتى أنَّه إذا انقطعت عنه الذَّخيرة لا يجدها عند رفيقه، وفي حالات أخرى كانت الفتية تنظِّف الرَّصاص “بورق الزّجاج” لتُصبح سهلة التَّعبئة في مخزن البواريد الفرنسيَّة القديمة كانوا قد حصلوا عليها من اللجنة القوميَّة..
ويذكر برهوم كيف أنَّ “الهجاناة” كانت تُطْلِقُ العنان للبراميل لتتدحرج من علٍ لتصل الوادي أو الأماكن الواطئة، فمرَّةً دحرجوا برميلين من البارود من درج الطَّنطورة إلى وادي النِّسناس وقد أحدث تفجُّرهما إصابات بالغة لعدد من المارَّة والمباني، وطبعًا كان هدفهم من هذا القتل والتَّدمير، التَّرهيب والتَّخويف والتَّهجير والنُّزوح.
كان يتأجَّج لهيب النَّار والحرب كُلَّما تقرَّرت الهُدنة لوقف إطلاقه، أو إن دامت أكثر
من يوم، لم يرتح الإنكليز ولم تَغْمض لهم مُقلة بسياستهم “فرِّق تسد” لأيّة مُصالحة.
فيتذكَّر برهوم أنَّ الإنكليز أتوا برجل دين يهوديٍّ إلى حيِّ وادي النِّسناس، حيث تركوه هُناك لِيُعتدى عليه وكانت فِطنة أهل الحيِّ كبيرة حيث نقلوه إلى منطقة الهدار من حيثُ أحضروه. وحدث العكس أيضًا، إذ أخذوا عربيًّا وتركوه في المنطقة اليهوديَّة لكنَّ اليهود أرجعوه إلى حيِّه سالِمًا ومتفادين بذلك عرقلة دوام الهُدنة. حالة مُشابهة يذكُرها طيِّب الذِّكر أبو طوني حنَّا نقَّارة، في مذكَّراته التي جمعها أبناؤه في كتاب “حنَّا نقّارة محامي الأرض والشَّعب” أنّه إن دام وقف إطلاق النَّار بضعة أيَّام انزعج الانكليز. إذ راحت القنَّاصة تحتلُّ مراكز عالية في المدينة في الأماكن المُتاخمة لمناطق السَّكن العربيَّة كعمارة سلام (الحولة) وعمارة الخيَّاط وسطح عمارة البريد في شارع البرج وسطح عمارة سلَمون لتوجيه الرَّصاص باتِّجاه اليهود تارةً وباتّجاه العرب تارةً أُخرى، ليندلع أو ليتجدَّد إطلاق النَّار وتتجدَّد الحرب..
امَّا علي الحاج خضر، أبو خضر، الذي أتيت على ذكره في صورته المدرسيَّة في أحراش الكرمل فهو ابن الحاج خضر الخمرة، هو علي خمرة، فقد قادته الحياة الصَّعبة وشظف العيش ومعاناة أبناء شعبه تحت نير الإحتلال البريطانيِّ المتآمر مع الحركة الصَّهيونيَّة والرَّجعيَّة العربيَّة على شعبنا العربيِّ إلى الحركة الشُّيوعيَّة والإنخراط في صفوف عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ، حيث كان في طليعة المقاتلين والثُّوَّار الذين دافعوا عن حيفا لمنع التَّهجير والتَّشريد، حيث جمعهم للدِّفاع عن أحياء حيفا حيث تواجدوا في شارع ستانتون والبرج كخطٍّ دفاعيٍّ اوَّل ليمنعوا وصول العصابات إلى احياء حيفا العربيَّة، وبعد أن نفذت ذخيرته انسحب من المعركة إلى الميناء لكنَّه بعد أن عاد إلى حيفا واصل كفاحه بعد سقوط حيفا في صفوص الحزب الشُّيوعيِّ إلى آخر يومٍ في حياته..
لا استطيعُ أن أطلَّ على العالم من عُبِّهِ الدَّافئ، احتراسًا منِّي على نفسي.
لقد دخلتُ جلباب أبي ووجدتُ في عبِّه أمني ومأمني، سكينتي وسكوني ومسكني، حيث حاولتُ الوصولَ إلى حيِّ وادي النِّسناس الذي أسكنه وعائلتي، فكلُّ من رأيته في طريقي إلى هناك اسمعه يتساءل في رعبٍ، أين المصير!
لقد كان جوابي، وأنا ابن الخامسة عشرة، لهم قاطِعًا، حيث كان صوتي وصوت والدي واحِدًا في نغمة واحدة، صوت توأم من حنجرتين، وفي لحظة واحدة تخرج كلماتنا من بيت الصَّوت عاليةً، نصرخ بملء حنجرتنا، من أقحاف رؤوسنا، كلمة واحدة لا ثانية
لها ونقول لهم بإصرار: البقاء ثمَّ البقاء ثمَّ البقاء..
..”أنا الأرض في جسدٍ لن تمُرُّوا”
لن يمُرُّوا فوق أرضي، لن يمُرُّوا..
انتقلتُ عبر معابري الالتفافيَّة والخاصَّة التي أعرفها، كما أعرفُ الخطوط والأخاديد على كفِّ يدي، ولا يعرفها حتى الدُّومري (التَّأمُري أو التُّؤمري وهو الشَّخص الذي يتفقَّد الحارات وأزقَّتها ليلاً ويُنير فوانيسها وقناديلها ويُطفئها صباحًا) مررتُ بالجامع الكبير حيث كانت الحبوب والبقوليَّات تملأ ساحة الجرينة مبعثرةً، بعد أن عاث الغزاة فيها بعثرةً، حيث خلطوا الحبوب بعضها ببعض، وسكبوا عليها الماء القذرة والزَّيت وغير ذلك حتَّى لا تصلح للبيع أو للأكل، تمامًا كما كان يفعل الإنجليز حين كانوا يدخلون بيوت السُّكَّان العرب، “أنَّ الانكليز لم يتركوا في البيت لا زيتًا ولا قمحًا إلا وخلطوه بالشِّيد وطاردوا الدَّجاج ومعسوا رؤوسه بالشِّيد (“أطفال النّدى” ص 72)..
لقد كانت ساحة الجرينة وحارة الكنائس مرتعي وملهى صباي ومُلهِمة لأحلامي، فعبرتُ إلى السُّوق الابيض ووقفت عند مدخل كنيسة مار يوسف لرعيَّة اللاتين في ساحة الخمرة وإذ بجنود يدخلونها ببساطيرهم القذرة ويعتلون اسطحة الكنيسة (عملية تدنيس للمقدَّسات) وقد بدأوا يُطلقون النَّار على المارَّة من العرب دون توقُّفٍ، وانتقلتُ هاربًا من منطقتي التي كنتُ محاصَرًا فيها إلى شارع يافا ومن ثمَّ صعدتُ إلى شارع ستانتون، كانت المتاريس تُحدِّد التَّنقُّل بين هذا الشَّارع والمناطق الأخرى، لمنع وصول المساعدات التَّموينيَّة والعسكريَّة والتَّوجيهيَّة وفوق كلِّ متراس تجلس كتيبة تراقب وتمنع الإنتقال بين مناطق المدينة، فرضوا منع تجوُّل مُحكم “شياطين دارسينها ومخطِّطين لها منيح”، حيث كان هناك أيضًا إطلاق نار ومواجهات غير متكافئة بين العصابات بسلاحهم وذخيرتهم وعتادهم، جديدة ومستوردة حديثًا، وبين أهل البلد الذين قاوموا بما تيسَّر لهم من أسلحة قديمة من بقايا بني عثمان أو بالسلاح الأبيض، ومن شارع ستانتون خرجتُ صعودًا، “اتَلفَّت” حولي، إن كان الجنود ورائي أو يراقبونني، أو إذا كان أحدهم يُسلط بندقيَّته نحوي، أذهب إلى شارع البرج بطرق التفافيَّة، على أمل الوصول إلى مقرِّ عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ، الواقع في درج الموارنة رقم ستَّة عشر، بين شارع الرَّاهبات وستانتون، لا أمل بوصولي إلى هناك، تابعت سيري إلى حيِّ وادي النِّسناس، فوجدتُ عصاباتهم تقتحم البيوت، الآمنة، لكنِّي وجدتُ أملاً عظيمًا ورجاءً كبيرًا، “نعم نستطيع قهرهم، نعم نحقِّق المستحيل” فيما رأت عيناي من مقاومة للسُّكَّان في الدِّفاع عن البيوت وعن الحيِّ، فقد استعاد الثُّوَّار البيوت التي اقتُحِمت في الوادي، رأيتُ أعضاء العصابات ينزلون من درج الطَّنطورة، وقد تجاوز عددهم المائتين وهناك من زقاق صيدا وشارع قيسارية وشارع العريش كانوا يُطلِقون النَّار على بيوت الأهالي والمارَّة العزَّل، يكوِّنون غطاءً عسكريًّا للعصابات كي تسيطر على وادي النِّسناس، الحارة الفوقى، وأعود إلى جلباب والدي، لا أطيق نفسي داخله، لكنِّي أرى كلَّ شيء “والبركة بشبابنا يابا” الذين أبلوا بلاءً حسنًا، حيث هرب رجال العصابات “الهجناة” تاركين خسائرهم وعتادهم، فلُّوا وهربوا وانضبُّوا وتركوا كذلك جرحاهم على الأرض ينزفون..
(نتواصل، انتظروا وشكرًا)