كتبت جميلة شحادة:
لا شك أن عنوان أيّ مؤلف، سواء كان ديوان شعر أو رواية أو غيرهما، يكون العتبة التي يلج منها القارئ إلى داخل المؤلَف. وفي كثير من الأحيان يتمّ تخطي هذه العتبة بسهولة ودون التوقف عندها؛ غير أنه في أحيان أخرى لا تسمح بعض العتبات بمرورها دون التوقف عندها وتأملها، كما هو الحاصل في كتاب: “الخاصرة الرخوة” للأديب المقدسي جميل السلحوت. إذ لا يمكن للقارئ أن يتخطى هذا العنوان دون أن يسأل نفسه وخاصة القارئ العارف لمفهوم “الخاصرة الرخوة”: ما لأديب مثل جميل السلحوت يروي الروايات ويكتب القصص والمقالات الاجتماعية والأدبية والثقافية اللاذعة ويؤلف قصص الأطفال، يكتب هذه المرة عن أمور ومصطلحات عسكرية؟ فالخاصرة الرخوة هو مصطلح مأخوذ من قاموس المصطلحات العسكرية، ويقصد به منطقة الضعف بالنسبة لدولة ما، أو منطقة ما؛ وأظن أن الكاتب قد نجح باختيار الخاصرة الرخوة عنوانا لروايته؛ إذ أنه بذلك أثار عنصر التشويق عند القارئ لقراءة الرواية، وأدى به إلى ان يطرح الأسئلة، وهذا بالطبع أمر جيد، فطرح الأسئلة هو البداية للبحث عن الأجوبة، والتنقيب عن المعلومة.
رواية “الخاصرة الرخوة” والتي صدرت عن مكتبة كل شيء في حيفا بداية هذا العام (2020) وتقع في 260 صفحة من الحجم المتوسّط، تحكي عن المرأة الفلسطينية، وتكشف عن معاناتها في مجتمع سلطوي، ذكوري، محافظ؛ وتفضح التعصب الديني والفكر التكفيري المتزمّت. فقد تطرق المؤلف إلى ثلاثة نماذج للمرأة الفلسطينية في روايته: بطلة الرواية، جمانة، وهي النموذج الذي يمثل الفتاة الفلسطينية المتعلمة والمثقفة والجميلة والمهذبة، والتي حظيت بتربية سليمة من أسرتها وبالذات من والدها اللاجئ، الذي كان يرفض تزويج أي من بناته قبل أن تنال الواحدة منهن شهادتها الجامعية (ص. 9 ، 10)؛ ولعل المؤلف أراد بذلك إظهار تمسك اللاجئ بالعلم والشهادة الجامعية؛ ليثبت وجوده ويعيش بكرامة، بعد أن فقد أرضه ووطنه وأصبح رأس ماله، العلم والشهادة الجامعية.
جمانة التي تزوجت بغير رغبتها من أسامة المتزمت دينيا، استطاع الكاتب من خلال زوجها هذا، أن يسلط الضوء على فئة من المجتمع الفلسطيني المتزمتة دينيا، والتي تحمل فكرا تكفيريا. جمانة ورغم علمها وثقافتها، ظهرت للقارئ من خلال سطور الرواية؛ ضعيفة، مغلوبة على أمرها، قليلة الحيلة، مسلوبة الإرادة (ص. 137 ، 138 ، 149 )، فاستصعب القارئ أن يعي هذا التناقض بين العلم والثقافة والضعف والإستكانة. كقارئة انتظرت لحظة ردة فعل جمانة على سلوك زوجها وكيفية تعامله معها، وشعرت بغيظ تجاه خنوعها وسلبيتها حتى أني فقدت الأمل بأن يكون لها رد فعل يعيد لها إنسانيتها وكرامتها. فجاءت النهاية لترد لجمانة اعتبارها، حيث طلبت الطلاق من زوجها أسامة، وحصلت عليه، فاستعادت حريتها، وتمكنت بذكائها من الاحتفاظ بابنها معها.
أمّا عائشة؛ فمن خلال معاناتها، سلط الكاتب الضوء على الفئة الجاهلة في المجتمع الفلسطيني، والتي ما زالت تتمسك بالعادات والتقاليد البالية، والتي كانت عائشة ضحية لها. عائشة تلك الفتاة القاصر التي تطلقت بعد ثلاثة أشهر من زواجها برجل جاهل ومن بيئة جاهلة، وعانت الظلم والبؤس والألم النفسي بعد أن اتهمها زوجها بشرفها. ولما تزوجت ثانية من رجل يكبرها بعشرين سنة، وولدت مولودها الأوّل، ظهرت الحقيقة، وتبيّن أنّها ما زالت تحتفظ بعذريّتها بسبب بكارتها المطاطية التي كان زوجها الأوّل لا يعرف شيئا عن غشاء البكارة المطاطي.
أمّا صابرين ابنة عم أسامة (زوج جمانة)؛ فبالرغم من أنها من ذات البيئة المحافظة التي نشأت فيها جمانة وابن عمها أسامة، إلا أنّها اتخذت لها أسلوب حياة مختلف، حيث تخلت عن مبادئها في غياب دور الأهل في التوجيه والإرشاد، وأحبت شابا من عائلة غنية تختلف تربيته وأسلوب حياته عن أسلوب الحياة في البيئة التي ولدت ونشأت فيها. أقامت صابرين علاقة معه، ثم تزوجته، وبعد ولادتها مولودتهما الأولى، طلقها بسهولة؛ ليعود الى حياة المجون.
جميل السلحوت كاتب الرواية، استطاع بروايته أن يسلط الضوء على الخاصرة الرخوة للمجتمع الفلسطيني وهي المرأة، ونجح في تصوير معاناتها وبؤسها في مجتمع ذكوري، متسلط، ومتزمت فكريا ودينيا؛ وليس هذا فحسب؛ بل جاءت الرواية لتبعث برسائل تنويرية وتثقيفية عديدة.
رواية “الخاصرة الرخوة” كتبت بلغة سهلة، سلسة، لم يعتمد فيها الكاتب المفردات الشائكة والمعقدة، وممّا لفت انتباهي، هو كثرة استعمال الكاتب للأحاديث النبويّة والآيات القرآنية في كتابة النص الروائي، وبرأيي لقد أثقل الكاتب بذلك على النص الروائي.
وأظن، بما أن الكاتب فلسطيني مقدسي؛ فقد كان لا بد له إلا أن يتطرق إلى السياسة فأقحم الاحتلال في النص الروائي عن طريق سلوك شرطي مع جمانة (ص. 83)، لكنه برأيي لم يوفق الكاتب بذلك وظهر الأمر متكلفا، وضريبة مضافة بدون قيمة.
وأخيرا وليس آخرا، رواية “الخاصرة الرخوة” مستمدة من واقع المجتمع الفلسطيني وواقع المرأة فيه، وجدير بكل من يريد أن يعرف هذا الواقع بل حري بنا جميعا بأن نقرأ الرواية.
24-2-2020