(الحلقة الرَّابعة عشرة)
لقد جاء في كتاب الطَّبيب والشَّاعر اللبنانيِّ قيصر خوري، الذِّكريات ص 160، عن تلك الفترة ما يلي:
حينما استعَرت الحرب بين حكومة ( فيشي) والحلفاء على حدود سورية، لبنان وفلسطين وعندما اشتدَّت وطأة غارات الطَّائرات ليلاً على حيفا، ولم يعُد بوسعنا سُكناها، هاجرنا منها، وألقَينا عصا التَّرحال في بيت جالا بلد الكِرام، وبلد البساتين وبلد الصِّحَّة.
وهنا يتذكَّر والدي أنَّه كانت تملأ سماء حيفا، في فترة الحرب الكونيَّة الثَّانية، مناطيد بيضاء كان يُطلقها الإنجليز في سماء حيفا، كي تشوِّش على ردارات الطَّائرات الإيطاليَّة والألمانيَّة التي استهدفت قصف حيفا من الجوِّ، في عدَّة مواقع، من أماكن سكنيَّة ومنشآت صناعيَّة خاصَّةً مصانع تكرير النَّفط، الريفاينري، والميناء وكذلك مراكز تجمعَّات الجيش البريطانيِّ فيها، فقد رأت دول المحور، ألمانيا وإيطاليا، في هذه المنشآت مواقع استراتيجيَّة يجب ضربها، ممَّا يعني إضعاف القوَّات الإنجليزيَّة في المدينة، حيث ازداد طمعهم وجشعهم وجود حكومة فيشي في فرنسا، التي كانت بمثابة دمية المانيا النَّازيَّة، والتي حكمت الجزء الشَّمالي من بلاد الشَّام، سورية ولبنان، فاتَّخذوا من هذه الأقاليم نقطة انطلاق لضرب المصالح الإنجليزيَّة في شمال فلسطين، خاصَّةً حيفا..
ويذكر الرَّفيق اسطفان خوري، ابو يوسف، في لقائي معه في كتابي “حماة الدِّيار” ما
يلي، قبل أعوام قليلة:
“ويذكر أيضًا البالونات الضَّخمة التي كانت تسبح في سَماء المنطقة أثناء الحرب العالميَّة الثَّانية لِتَمويه الطَّائرات الألمانيَّة التي كانت تُغيرُ على مصافي تكرير البترول “الرِّفاينَري” وعلى مكاتب شركة النَّفط العراقيَّة، آي بي سي، في مدينة حيفا”، هذا وقد كتبت صحيفة “الدِّفاع” الصَّادرة في يافا، صاحب الإمتياز ورئيس التَّحرير الأستاذ ابراهيم الشَّنطي، في السَّادس والعشرين من شهر شباط، عام الفٍ وتسعمائة وإثنين وأربعين: “لمراسل “الدِّفاع” الخاص-إنطلقت صفَّارات الإنذار في السَّاعة الثَّامنة والدَّقيقة الخامسة من مساء أمس، من الغارات الجويَّة، فهرع النَّاس إلى الملاجئ وانتشر رجال فرق الوقاية في مختلف مناطق المدينة، ودام الإنذار مدَّة نصف ساعة، أُعلن بعدها زوال الخطر. ولم تُشاهد طائرات في سماء المدينة”، وكذلك كتبت الصَّحيفة نفسها في التَّاسع من ايَّار، عام الفٍ وتسعمائة واربعةٍ واربعين ما يلي: “إطلاق صفَّارات الإنذار بالغارة في حيفا، إقتراب طائرات معادية (إيطاليَّة/ألمانيَّة خ.ت.) لأوَّل مرة منذ ثلاثة أشهر..
وقد استمرَّت دور السِّينما في عرض حفلاتها طول مُدَّة الإنذار”، وفي صحيفة “الصِّراط المستقيم”، صاحب الإمتياز والمحرِّر المسؤول، عبد الله القلقيلي، الصَّادرة في الحادي عشر من شهر حزيران عام ألفٍ وتسعمائة وواحد وأربعين، على رأس الصَّفحة الأولى، “بالبونط” العريض: “غارات طويلة تشنُّها طائرات الأعداء على حيفا في السَّاعة الواحدة من صباح اليوم”.
واقتبسُ هنا من محاضرة للأستاذ والمؤرِّخ اسكندر عمل، ما يلي:
“بعد أن احتلَّت المانيا النَّازية شمال فرنسا، سمحت لعميلها الجنرال بيتان بإقامة حكومة في الجزء الجنوبيِّ من فرنسا، وكانت عاصمة هذه الحكومة مدينة فيشي، وبطبيعة الحال أصبحت مناطق الإنتداب الفرنسيِّ في سوريَّة ولبنان تحت سيطرة حكومة فيشي، ومن المعروف أنَّ حكومة فرنسا الحرَّة بقيادة الجنرال شارل ديغول كانت قد وعدت سوريَّة ولبنان بالاستقلال بعد انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، لكنَّ فرنسا نكثت بوعدها ولم تمنح سوريَّة ولبنان الاستقلال كما وعدت أثناء الحرب”..
لكنَّ الشَّام التي تأبى الذُّلَّ والهوانَ سطَّرت ملاحمها البطوليَّة ضدَّ المحتلِّ الغازي بأسطر من دماء وشقاء ووفاء ورجاء بالنَّصر الأكيد بإرادة الشُّعوب التي “إذا هبَّت ستنتصر” فكانت فاتحة الجلاء والتَّحرير في معركة ميسلون وإن خسر فيها الثُّوَّار لكنَّهم استبسلوا فيها: ” استبسل السُّوريُّون في معركة ميسلون ولم يستسلموا رغم عدم التَّكافؤ في القوَّات العسكريَّة والعتاد ونوعيَّة الأسلحة، فقد قُدِّرت القوَّات الفرنسيَّة بناءً على بلاغ رسميٍّ بتسعة ألاف جنديٍّ تعزِّزها عشر طائرات وخمس بطاريَّات ميدان جبليَّة وبطاريتين من عيارات مختلفة، وعدد من الدَّبَّابات وكميَّة من الرَّشَّاشات وكانت هذه القوَّات بقيادة غوابيه”.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى تمَّ طردُ وكنس المحتلِّ من الأرض الشَّاميَّة المقدَّسة وتمَّ الجلاء، جلاء المستعمر، في السَّابع عشر من نيسان من العام الفٍ وتسعمائة وستَّةٍ وأربعين وأصبحت الشَّام لأهل الشَّام..
كم لنا من ميسلونٍ نَفَضَت عن جناحيها غُبارَ التَّعبِ
كم نَبت أسيافُنا في ملعبٍ وكبَت أفراسُنا في ملعبِ
من نضالٍ عاثرٍ مصطخبٍ لنضالٍ عاثرٍ مصطخبِ
شرفُ الوثبةِ أن ترضي العُلى غلبَ الواثبُ أم لم يغلبِ
أحاول أن أدخل جِلباب أبي دون علْمِه، لأكتب عن أهله وأحبَّائه وأترابه في حيفا يومَ نكبتِها، لأعيش معهم تلك الفترة، لأجدَ أنَّ عمرَه كان يوم سقوطِها لا يزيد عن الخمسة عشر ربيعًا، وتمرُّ عليه، كلَّ عام، كما كلَّ يوم أو كلَّ لحظة من عمره، آلام الحزن والحسرة واللوعة وخسارة كلِّ شيء، دون أن يفقد الأمل، بأمل عودة الأهل والخلان والأصحاب الأحباب والأتراب والغُيَّاب، وعودة كلِّ الحقِّ لأصحاب الحقِّ ولكلِّ ذي حقٍ..
“ما بظل على ما هو إلا هو”..
تأكلُ كبدي هذه الذِّكرى الأليمة والموجعة حتَّى الصَّميم، وتعبث في صمَّام قلبي الرَّئيس إذ ما زلتُ أقفُ محاصَرًا في جامع السُّوق (الصَّغير)، هاربًا مع اترابي من مدرستي، أختبئ في كلٍّ حفرة، ووراء كلِّ شجرة أو خلف صخرةٍ أو بين الأعشاب العالية، خفتُ أن يضعوني في الدَّير مع باقي التَّلاميذ، ويوصِدوا الأبواب علينا، تحضيرًا لتهريبنا إلى لبنان، فإذا وصلنا لبنان ستخرج والدتي وشقيقي البكر ليُفتِّشا عنِّي، كذلك باقي العائلات، سيقصدون لبنان لملاقاة فلذات أكبادهم، وإن حدث هذا، سنبقى هناك ولن نستطيع العودة إلى حيفا، وتكون خطَّة بني صهيون قد اكتملت، وهذه هي الطَّامة الكبرى، لقد غفل القيِّمون عن أنَّ هذه المبادرة، كان يُمكنها أن توقعنا في فخٍ عويصٍ شائكٍ، لا رجعة فيها، تُرحِّل لاحقًا من تبقَّى في هذا الوطن..
لقد نشرت صحيفة “فلسطين” في الثَّاني عشر من آذار عام النَّكبة، أنَّ دير المخلِّص في لبنان قد أوى خمسين طفلاً من بلادنا، بعد أن رحلوا إلى هناك بمبادرة، من المطران حكيم، حيث كان هناك مخطَّطًا لترحيل المزيد، وجاء في الصَّحيفة:
“ليكونوا هناك في حرز امينٍ تحت رعاية رهبان وراهبات الدَّير.. ولا شكَّ في أنَّ سيادته
سيُتابع اهتمامه الأبويِّ بترحيل باقي الأطفال دون تفرقة بين الأديان والمذاهب”..
خفتُ من أصوات المدافع ومن ضجيج التَّفجيرات وقصف الرُّعود، في ذلك اليوم الحارِّ القائظ، لا أقدر، أن أخرجَ من جيب عباءة والدي، خوفًا منهُ عليَّ، وحرصًا منه على حياتي المهدَّدة من القنَّاصة، التي رمَت برصاصها الحاقد على كلِّ ذي حركة في الأحياء العربيَّة، يخاف أن يحدث لي ما حدث لوالده، جدِّي سمعان برصاصهم الحقود، بعد أن تمترسَت فوق أسطح العمارات الشَّاهقة في شارع سيركين، لقد كانوا يُطلقون النَّار من على شُرفات عمارة سلام أو مبنى سلمون أو في دار الإذاعة في شارع البرج، ومن منطقة “هتعسيا” ونوافذ سوق “تلبيوت” ومن “مطاحن فلسطين الكُبرى” قرب “عامود فيصل”، ومن “محطة سكَّة الحديد الشَّرقيَّة”، يُطلقون النَّار على المارَّة في شارع يافا ومار يوحنَّا ووادي النِّسناس، وردًّا على هذا تبلورت مجموعات وطنيَّة غيورة في الحارات العربيَّة لتقف أمام هذا التَّطاول من طرف العصابات لتحمي أهلها وأحياءها وبيوتها، يدافعون عن وادي النِّسناس وعن شارع يافا وشارع العراق ووادي الصَّليب وشارع ستانتون والبرج..
لقد اعتمدت سلطات الاحتلال البريطانيِّ، على سياسة فرِّق تسُد، بين جماهير الشَّعب الواحد وبين العرب واليهود، ففي بعض المدن والقرى كانت الطَّائرات البريطانيَّة ترمي منشوراتها التَّحريضيَّة على المناطق المأهولة بالسُّكان تحرِّض السُّكَّان على بعضهم البعض، بحسب الانتماءات الدِّينيَّة أو المذهبيَّة أو القوميَّة، وتفرِّق بين “الأفندي والفلاح”، أو بين سكَّان المدن والقرى، كما حدث في مناطق جنين وقراها ونابلس ويافا وضواحيها، بهدف إثارة الفتنة، واتَّبعت هذه الطَّريقة في باقي مناطق الوطن، أمَّا في حيفا فكان الجنود البريطانيُّون يعتلون أسطح المنازل ويُطلقون النَّار على المارَّة الآمنين والعُزَّل، فإن كان المصاب عربيًّا يظنُّ العرب أنَّ اليهود قد أطلقوا النَّار عليه، وإن كان المصاب يهوديًّا يظنُّ اليهود أنَّ العرب قد رموا بالرَّصاص عليه لأنَّه يهوديٌّ، وذلك من أجل تأجيج المعارك وإثارة حدَّتها، وكانت السُّلطات الإستعماريَّة البريطانيَّة تدعم عصابات صهيون منذ أن احتلَّت بلادنا، بحُجَّة الإنتداب، حتَّى آخر يومٍ لها في مدينتي حيفا..
(نتواصل، انتظروا وشكرًا)