قراءة في المجموعة القصصية: “بين الذات والوطن” لمصلح كناعنة. \\\ سلمى جبران

 

الذات بين الوطن والوطن

قلمٌ يكتبُ بالألوان، وعينٌ ثالثة تصوِّرُ المشاعر وكلماتٌ ترسمُ مشاعِرَ وصورًا، ومشاهدُ تدمِجُ بين المكانِ والزمان والإنسان فَتَتَلاشى الفُروق والحدود بينَها!! هذا ما يدور بين غِلافيّ المجموعة القِصصيّة: “بين الذات والوطن” للكاتب مصلح كناعنة، حيثُ يُوحي الغِلافُ الأوَّل بالتساؤُل: هل الوطن هو الظلّ، أم صاحبِ الظلّ أم الأرضُ التي يَقَعُ عليها الظلّ؟!!

“قصّة بالألوان” ُتحوِّلُ الكلمات إلى مشاعر بالصور والنصّ إلى مشاهدَ دراميّة.

مشهد1: امرأة تهربُ من بيتِها إلى الشارع “تتلفّظُ بكسورِ كلماتٍ معجونة بالدم والدموع، تختطفُ التفاتات سريعة (إلى الخلف) نحوَ البيت، ثُمَّ تُحْكِمُ اختفاءَها خلفَ جذعِ الزيتونة الهَرِمة ودموعُها تسيلُ على خدّيْها بلا انقطاع..” لاحقًا يبدو أن هذا البيت هو الفصل1 في الوطن1 والزيتونة الهَرِمة هي كلُّ ما يحوي البيت!

مشهد2: يخرجُ الرجل من البوابة الخضراء بِزِيِّهِ الرسمي غيرِ الكامل وبعنفِهِ الذكوري العسكريّ ليتفقّدَ ما جرى بلا مبالاة واضحة ويَصفِقُ البَوّابة بعنفٍ شديد ويدخل.

مشهد3: المرأة خلف َجذعِ الزيتونة الهَرِمة تراقبُ وتختبئ وترتجف وتنتحب!

مشهد4: الرجل يخرج بزيِّهِ الرسميّ الكامل مرتّبًا وبخطواتٍ ثابتة متّزنة يدخلُ سيارتَه وينطلقُ بعيدًا عن البيت خلفَ البناياتِ البعيدة.

مشهد5: تتحوّلُ المرأةُ خلفَ جذعِ الزيتونةِ الهَرِمة إلى بُقعةٍ حمراء صغيرة وتتحرّكُ نحوَ الرصيف بمحاذاةِ السور.

مشهد6: تَنْشَقُّ البَوّابة الخضراء ويبرزُ وجهٌ طفوليّ لطفلةٍ حافيةِ القَدَمَيْن ترتدي بيجامة ورديّة مقلّمة.

مشهد7: تختلط ُالبيجاما الوردية المُقَلّمة بالبقعةِ الحمراء المرتجفة وتمسكُ اليدُ الكبيرة باليدِ الصغيرة وتختفيانِ خلفَ البَوّابةِ الخضراء.

مشهد8: بعد ساعة تخرجُ البقعةُ الحمراء مغمورةً بالأسْوَد وبيدِها طفلة ٌعسليةُ العينين وذهبيةُ الشَّعْر بفستانٍ أحمرَ حولَهُ شريطٌ أبيض. وتركبان سيارة أجرة برتقالية وتنطلق حتى تختفي خلفَ البناياتِ البعيدة.

مشهد9: في المساء وَقَفَتْ سيارتُهُ أمامَ البَوّابة الخضراء ومشى بخطىً ثابتة إلى أن اختفى خلفَها!

مشهد10: بعدَ لحظات خرجت منها بدلةٌ بلا معطف، وربطة عنق مُرْتَخِية وبدا هستيريًّا كطفلٍ أبعدوهُ عنْ أهلِهِ. صرخَ وعربدَ وتكلَّمَ بالهاتف ثم انطلقت السيارة كالصاروخ واختفت خلْفَ البناياتِ البعيدة.

فصل الوطن2: بعد فترةٍ طويلة أصبحت البيجاما الحمراء امرأةً شابة شرقيّة، شعرُها ليلٌ وجبينُها أُفقٌ وفستانُها ثلج ووجهها حديقة ورد، ما أجمَلَها من أُغنية. وأصبحت عشتار عهدًا جديدًا وكانَ الكلامُ الرصين يتدفَّقُ بهدوءٍ من ثغرِها المبتسم كما تدفَّقَ الكَوْن من خصوبة رحمِها أوّلَ مرِّة، والوجهُ الصغير أصبح يترفَّقُ يانعًا وانبثقَ فتاةً تحتضِنُ عشتارَها!

وبعد فترة نعود إلى الوطن1 ويتكرّر مشهد بقعةِ الأحمر القاني، بلا اسمٍ ولا مُسمّى، يرتجِفُ رُعبًا وألمًا…

تعمّدْتُ أن أبرزَ الفصولَ والمشاهدَ في هذه القصّة الأولى لأنّها تجاوزت بأُسلوبِها الأسطوريّ حدَّ الفرد ورسَمَتْ نَمَطًا فاقَ الخيال بواقعيتِهِ وتحدّى الواقع بخيالِهِ وببصَرِهِ وبصيرتِهِ! وكان فيها أكثرُ من لحنٍ وأكثرُ من لازمة. وشكّلَتِ اللازمة علامةً مَلْحَميَّة يتفاعلُ فيها البكاء والغناء والصَّخَب والهدوء والمَوْت والحياة!

أمّا قصّة “الموقع الجغرافي لأم ثابت” فحوَّلَتْ أم ثابت إلى موقع، وتحوّلَ التصوير بالكلمات من الجوّ، فأصبحت أم ثابت موقِعًا. وتحوّلت عربةُ الشاب ذي الرِّجْلِ الواحدة والعين الواحدة واللحية الطويلة التي تقسِمُها نُدْبةٌ إلى لِحيتَيْن، تحوَّلَتْ إلى موقع.. وأصبَحَ الموقعُ يبيعُ أسلحةً وورودًا بلاستيكيّة وأوراق شدّة عليها آية الكرسي… وتحوّلَ المشهدُ إلى سخريةٍ مُرّة(sarcasm)…وذكَّرَني بِحِكايَةِ جَدّي عن بواريد صَدِئة في مخازن ثورة ال36! وبجانب هذا الموقع دكّان أقفاص الدجاج الذي لا تفارقُ الدجاجة ُمنهُ القفصَ إلّا إلى الذ بح وما بينَ العيش في القفص والموت في الهواء الطلق، مشوارُ الانتقال هو الأسوأ! وتختلطُ المشاهد بالآهات وبإيقاع المكان! ويدخل مشهد ضمم النعنع والزعتر والميراميّة لتعلنَ وجودَ وطن1 إلى جانب وطن2 حول الجدار، ووطن3 حول أبي ثابت، فتحتمي أم ثابت من أبي ثابت بالجدار علَّهُ ينقُلُها إلى وطن عشتار، حيث لا أثَرَ لأبي ثابت الذي حوَّلَهُ الجدار من ربّ أسرة إلى ربِّ العِباد! ومن عِربيد إلى ناسِك ومن زَوْج إلى جلّاد ومن عامل بناء إلى آدم الذي يَصبُّ جامَ غضبِهِ على حوّاء لأنها ارتكبتْ خطيئةَ الوعي وفَتَحَتْ عينيْهِ على عَوْراتِ رجولَتِه. في هذه القِصّة تمتزجُ السخرية السوداء بجمال نساء وطبيعة وطن1، فتقعُ أُمّ ثابت بين رائحة أبي ثابت وطن2 وبرودة الجدار وطن3، فتخاف أم ثابت أكثر ما تخاف من نفسِها!

في قصّة “بين الذات والوطن”، أكثر ما يعبّر عن المجموعة ويصرخ إبداعًا هو التضادُّ الحادّ بينَ القطيعة والاتصال عبْرَ مربّعاتِ السياجِ الفاصِل وبينَ التاريخ وكذبتِه! وفيها المدن مغتربة عن ذاتِها والناس مغتربة عن ذاتِها، وعندها يحدثُ هَوْلُ خسارةِ الوطن وخسارةِ الذات، خاصّةً وأنَّ الشرف متجسِّد في لحمِها! سمعتُ الدرويش في الخلفيّة يقول: سقَطَ القِناعُ عنِ القِناع! هذه القصة من أجمل القصائد الدرامية التي قرأتُها وسمعتُها! استحضارُ عشتار في هذه القصص ليس صدفةً، فهي إلهةُ الحبّ والحرب والجمال والتضحية والحروب في بلاد الرافِدَيْن!! اللحظة التي خسِرَتْها كانت هي الحياة، وما عداها لم يكن إلا وَهْمًا يتطلَّبُهُ الآخرون!!!

في قصة “الانطفاء” فقدانُ الذات هو فقدانُ الوطن، ف”هوَ” يعيشُ في الوطن فُقدان وفي الغربة فٌقدان! ص25، وهو يشاهد القنواتِ الأجنبيّة لأن القنوات العربيّة لا يستوعبُها! هو العربي المُتأجنِب المطابق للعربي المستعرب! أما هي فدمُها مهدور في الوطن ومهدور في الغربة! ص27.

قصة “الدمعة الأخيرة” مسرحيّة روحيّة Allegory تتحدّى الاسم والمكان والزمان والوطن والغربة وتجنِّحُ في عالمٍ من الخيال والواقع والروح والجَسَد وتصوِّر يوتوبيا وصورةْ Negative للعِشّاق في الوطن!

وأيضًا قصة “العشق والكلمات” فيها مبالغة حدَّ الجنون في وصف العشق وفيها إيرونيا جميلة ودقيقة تصل إلى أنّ المبالغة بالكلمات تقتلُ التجربة.

وقصّة “المخفي أعظم” هي لوحةٌ عميقةُ الأطراف وداكنةُ الألوان تحكي رواية صَمْت كل امرأة اغتُصِبَتْ وتصرُخ: وقاتلُ الجِسمِ، مقتولٌ بِفِعْلَتِهِ وقاتِلُ الرّوحِ لا تدري بهِ البَشَرُ!

“حكاية الأرنب المُستأسِد” أسطورة تتحدّى كثيرًا من الأساطير القديمة ولا تقِفُ طويلًا عندَ أيٍّ منها! فهي تصوِّرُ التّضاد بين المظهَر والجوهَر وبيْنَ الموْجود والمنشود وبينَ المُكتَسَب والمولود. بحثْتُ قدَرَ الإمكان عن أُسطورةٍ تُشبِهُها ولم أجِدْ ولكنْ في نهايتِها خطَرَتْ في ذهني قصّة قايين وهابيل ونهايتُها ذَكَّرَتني بِمقطعٍ من لاعب النرد:

“يموت الجنودُ مِراراً ولا يعلمونَ
إلى الآن مَنْ كان منتصراً!
ومصادفةً، عاش بعض الرواة وقالوا:
لو انتصر الآخرونَ على الآخرين
لكانت لتاريخِنا البشريّ عناوينُ أخرى

“شوكة في حَلْقِ القَدَر” قصّة تلقي ضَوْءً على كلّ الزوايا المعتمة في قبو التقاليد الذي تقبع فيه المرأة في هذا الوطن! ليس واضحًا لي ولا أدري إذا كانَ جمالُها الساحِر قد أُعطيَ لها من القَدَر عقابًا أو تعذيبًا، كصخرةِ بروميثيوس الذي أحبَّ البَشَر وأعطاهُم النّار فحُكمَ عليه بربطِهِ على صخرةٍ لا فِكاكَ منها كي تأكُلَ كَبِدَهُ النسور، أم أن جمالَها الأُنثوي حوَّلَ الذكورَ حولَها إلى نسورٍ تأكُلُ كَبِدَها؟! فهي في كلِّ الأحوال وعلى الرغم من الوحشيّة التي لاقَتْها من أهلِها، أحسَّت أن حجابَها يضايقُها ويحجُبُ النور عنها ويُقيِّدُ حُرّيَّتَها واعتبرتْهُ حجابًا للعقل لا للرّأْس! وكأنّي بها تلفُظُ أنَّةً من “أنّات وطن”:

 

 

يُرْهِقُني عُقْمُ حياتي في وَطَني،

فلماذا أنشُدُ منفىً

وأنا أحيا في وطني منفى!!!

هذه القصّة صُوِّرَتْ من الجو، من الأعلى وعندما هبطت الكاميرا على الأرض وما يحدثُ في الواقع تعرَّفنا على ظاهرة عرسان الكونتينر التي تصدِّرُ المرأة من وطن الغُربة إلى غربة الغُرْبة!

قصّة “ثمن البطولة في زمن الهزائم” تلخِّصُها جملة فيها ص 84: “كل من يكذب على نفسِهِ هو في نهاية الأمر كذّاب يكذب على كلِّ البَشَر!” فيها تشريح دقيق للأحزاب والإيديولوجيا وتفضح السلطة التي عادت لتوِّها من أوسلو. وفي عصب القصة ثالوث الاضطهاد: الطبقي، الاستعماري والذكوري. فهي عانت من هذا الثالوث بكل أقطابِهِ. ص92 ” تحدَّيتُ الخوفَ من الموت واقترَبْتُ من فُوّهات البنادق في مَيْدان المعركة ولكنّني كُنْتُ أُقاوم نظرات الرفْض والإقصاء من شباب يتحرَّشون بي وكأنّني أرتكب جريمة بحق شرَفي وشرف أهلي والمُجتمع قاطبةً”. “وحتى عندما أُصِبْتُ برصاصةٍ في القلب عذّبتني ولم تقتلني.. لكي أتعذّبَ وأتحوَّلَ إلى أُسطورة وإلى بَطَلَة وأعادت أمجادي التي لم يعترفوا بها مسبقًا بل تحرَّشوا بي. رفعني البعضُ إلى مراتِبِ الأبطال وأنزلني آخرون إلى حضيض العاهرات، وعيّروني لأنّني لم أكن محجَّبة في ساحة الوغى! صادروا إنسانيَّتي واختزلوني إمّا إلى بطلة في أساطيرِهِمِ الزائفة وإمّا إلى جسد أنثوي في حيِّزِ الحرام، وصَرَخَتْ في وجوهِهِم: أنا لستُ بطلة ولكنّني لا أستحقُّ الشتائم، أنا لستُ مسيحيّة ولا مسلمة، أنا مجرّد إنسانة كانت في المحلّ الصحيح في الزّمن الخطأ، تمنّيْتُ لو مُتُّ فعلًا، تمنَّيْتُ لو أنّني جعَلْتُ الوطن أكثرَ جاهزيَّةً لروحي قبلَ أن أُضحّي بها!” قال الشاعر أحمد مطر: نموتُ كي يحيا الوطن!   يحيا لِمَنْ؟ … نحنُ الوطن!

إن لم يكن بنا كريمًا آمنًا ولم يكن محتَرَمًا ولم يكن حُرًّا

فلا عِشنا ولا عاشَ الوطن!

وهكذا هيَ تعيشُ في الوطن الذي يَخْلَقُ اللا وطن وتعيشُ في اللا وطن الذي يَخْلَقُ وَطَنًا.

في كلِّ القصصِ العَشْر لا توجد أسماء لشخصيّات القصص، ما عدا أم ثابت فهو اسم موقع وكُنية وفيه يتصارع الثابت والمتحوِّل بكلّ قوّة وتتحوَّلُ الشخصيّات إلى prototype وأنماط تبحثُ عن وطن!

هذه المجموعة القصصية هي رواية تستخدم كاميرا الروح والمشاعر والفكر وتتنقَّل بين الأرض والجو والفوق والتحت واليمين واليَسار! تتحدّى الإنسان والزمان والمكان وتتجاوزُهُم… أسلوب تصوير درامي بدون أسماء، تتحوّل فيهِ الصورة إلى ذات والذات إلى صورة بالألوان، والمشاعر تتحوَّلُ إلى حَرَكاتٍ يُعبَّرُ عنها بلغةِ الجسد. تتحوّلُ المرأة إلى طيرٍ يبكي ويُغنّي والرجُل إلى دائرة مُفْرَغَة يدورُ فيها ويصلُ البداية بالنهاية والنهاية بِبِدايةٍ ثانية وثالثة… وفي الحياة يختلطُ الطول والعرض والمسافات والمساحات والأحجام والألوان وتتحوّل مشاهد القصص إلى Grotesque خيالي واقعي متميِّز. اللغة رائعة مبدعة محلِّقة! هل لي أن أسأل كيفَ تكوَّنَتْ البقعة الحمراء وراءَ الزيتونة الهَرِمَة فأصبَحَتْ “هيَ”، وكيفَ مَشَتِ الَبدْلَةُ وحيدةً فأصبَحَتْ “هُوَ”!؟

بورِكْتَ، مصلح كناعنة، وبُورِك َهذا الأدبُ الفريد: “بينَ الذات والوطن” والذي يبحثُ عنِ الذات بين الوطن والوطن!

سلمى جبران

 (ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 30.03.2020)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .