كان يراقبها وهي تستعد للخروج؛ كانت جميلة جدًا، رغم شرود نظراتها، وشحوب وجهها، وقد زادها جمالاً ووقارًا لباسها الأسود المحتشم، ونقابها الناصع البياض الذي وضعته بتمهّل وعناية فوق رأسها، وشدّته بدبوس صغير وراء أُذنها، ليبرز حُسن عينيها الدعجاوين وخدودها المكتنزة.
نعم هي زوجته الغالية الجميلة، وأم أولاده التي استولت على قلبه قبل عقدين من الزمن، ولكنها سلبته راحته وهدأة باله؛ في قرار طائش، أجوف “من وجهة نظره” اتخذته وهي في أوج عطاءها، متجاهله مركزه الاجتماعيّ، ودون سابق إنذار..
وعندما همّت بالخروج، توسّل إليها بصوت متهدج أقرب للبكاء بأن تبقى في البيت، فالبرد في الخارج يقصّ الِمسّمار، ومتوقع أن تمطر في كل دقيقة وثانية، كما قال الراصد الجويّ، ولكنها أجابته بحماسٍ وهي تتدثر بشالها الصوفيّ الناعم وبدون أن تلتفت إليه:
– إنها ليلة الجمعة المباركة.. ولن أفوّتها حتى ولو كلّفني ذلك عمري كله..
وقف بجانب النافذة ينفث سيجارته بعصبية، وكاد يموت من الغيظ عندما شاهدها تقف بجانب مسكب الزهورات، حيث قطفت قصفة حبق، فَرّكَتْ بها كفيّها الغضتين.. ومضت في طريقها للخلوة، تتأبط كتابها وكأنها تتأبط لقيا ثمينة لا تُريدها أن تفلت من يدها..
– تبًا لغباء النساء وعنادهن! حتى عطورها الفاخرة التي ابتاعها لها من أشهر الماركات العالمية، تنازلت عنها.. ومن أجل ماذا؟ من أجل التزامها بتقاليد دينية بالية!
منذ عرفها وهي امرأة عنيدة صعبة المراس، ولا تفعل إلاّ ما يدور برأسها.. ولكنها هذه المرة بالغت في العناد لدرجة أنه لم يعد باستطاعته ردعها، وهو طبيب العيون المشهور والجرّاح المعروف الذي عالج المئات من الحالات المستعصية؛ ولكنه عجز عن مداواة زوجته من هذا العارض المفاجئ الذي أصابها..
ولا أحد ينكر نجاحه الباهر في مشواره الطويل، فهو رجل عصاميّ مثقف؛ لم ينشأ كأمير محاط بالخدم، والحياة حفرت في قلبه ندوبًا كثيرة، وخلال دراسته في إحدى الدول الاوروبية عانى الكثير، ولكنه صمد وأصرّ أن يقطف ثمار نجاحه بكلتا يديه. ولكن تلك العلوم الجديدة التي اكتسبها في الغربة..؟ غيّرت من معتقداته الكثير.. بل غيرت كل نظرته للحياة وللشرق، وهذه الثورة المعرفية الحديثة التي قلبت العالم رأسًا على عقب، عزّزت في أعماقه تلك المفاهيم الثورية التي غذّتها نرجسية الإلحاد والحداثة الغربية، التي أنكرت الإيمان والمؤسسات الدينية؛ وثبّتت عزيمته على المضيّ قدمًا وفق نهج ماركس وسارتر وراسل ونيتشة وداروين وفرويد.
وها هي زوجته العزيزة تضرب بعرض الحائط كل شيء..؟ وتذهب إلى الخلوة..
ما يوجد هناك في الخلوة..؟ مجرد مكان بسيط تنقصه كل مباهج الحياة!
وزمرة من الناس يرددون نفس الكلمات..
وصحيح أنها صبرت كثيرًا على إلحاده وتفوهاته الجريئة المجرّدة من الإيمان من الله.. والتي كان يعلنها على الملأ.. وسخريته الفاضحة من زيارة الأماكن المقدسة؛ وعدم مرافقته لها..
ولكنه صبر كثيرّا على عنادها وصلابة رأيها، ليتحمّل أحداهما الآخر..
وقط لن ينسى فرحته عندما التقى بها لأول مرة في إحدى الأمسيات الأدبية، كانت عريفة الحفلة، شابة في منتهى الجمال والكمال، بهره حُسْنها وقوة شخصيتها وبلاغة لسانها؛ ماركة أصلية، لم يحلم أن يجدها في قريته الصغيرة..
وكان قرار الزواج سريعًا.. كوّنا أجمل عائلة، وهي كانت امرأة قويّة، جّادة، أنهت دراستها الأكاديمية بنجاح منقطع النظير، وأمّنت لنفسها وظيفة على مستوى عالٍ..
ومرّت الأيام تحمل في جعبتها الكثير من السعادة والهناء والعيش الرغيد للعائلة الصغيرة التي سمح لها وضعها الماديّ بأن تتجول في معظم دول أوروبا وتنعم بخدمات أرقى الفنادق..
حتى أتى هذا اليوم المشؤوم من وجهة نظره هو، عندما قررت زوجته المحترمة، أن تتنازل عن كل شيء.. ومن أجل ماذا؟ من أجل جنة لم يصبو إليها..! وهو الرجل العلمانيّ الذي يظنُّ أن كلّ “الدُنيا” في متناول يديّه، وأنه بمقدور العلم أن يفعل المُعجزات، ما دام الله يقف منعزلاً عن الوجود ليمنح كل هذه الصلاحيات للعقل البشريّ، ليتحكم بهذه الكون الفسيح.. وليته أدرك أنه “وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً..”
مرت أيام عصيبة على هذا البيت الجميل الذي أغدق الله عليه كل خيرات الحياة وسلبه راحة البال؛ وفي أحدى الصباحات الشتوية الماطرة، انفجر الوضع بينهما دفعة واحدة، عندما طلبت منه زوجته، أن يوصلها للعمل ويوصل الأولاد للمدرسة، كان السيل قد بلغ الزُبى، بين هذا الرجل العلمانيً، وتلك المرأة العنيدة، ومن تظن نفسها؟ لتفعل به كل ذلك والأولاد!
– تعالي إلى هنا.. إلى هنا تمامًا.. قفي أمامي هنا.. ناداها بصوت عالٍِ..
ولكنها تابعت تحضير الزاد لأولادها دون أن تنبس ببنت شفة، أو تلتفت إليه..
– كيف تجاسرت على تمزيق رخصة القيادة دون حتى أن تخبريني.. ها.. كيف؟ وهل يوجد عند الله متسع من الوقت ليصنّف من تقود سيارة ومن لا..!؟ أنت تدركين أنني رجل مشغول، لا أملك وقتًا حتى لِأحُكَّ جلدة رأسي.. من ضحك عليك لتُمزقيها؟ أنا والبيت والأولاد، بأمسّ الحاجة إليك.. كيف فعلت ذلك بنا..
كم أنت أنانية وقاسية، لم تفكري إلا بنفسك!
التفتت إليه هذه المرة وأجابته بنبرة صارمة جدّية:
– بل لأنني أريد الجنة! لا أريد هذه الدنيا..
– عن أي جنة تتحدثين؟ ها.. هيا أخبريني.. ومن أعطاكِ مفتاح الجنة..؟ لديك أجمل عائلة، أحلى بيت، زوج ناجح، وظيفة محترمة؛ ماذا ينقصك يا سيدتي.. تكلمي.. أنت تعيشين في أجمل جنة..
– أريد رضى الله.. رضى الله ورحمته تغنيني عن كل شيء..
أخذ نَفَسا عميقًا، بعد أن أحسّ بضيق في صدره؛ ونظر إليها نظرة قاسية وهجم عليها كالمجنون صارخًا في وجّهُها: – اليوم..! اليوم..؟ ستُحسم كل الأمور بيننا.. أو تقنعيني بجنتك! أو أقنعك بناري..
تظاهرت أنها لم تسمعه.. وتابعت عملها..
– يا لك من امرأة عنيدة..
تركت ما بيدها وأجابته بصوت هادئ، حنون:
– الله يهديك..
وحاولت أن تطفيء غضبه بكلمات عفوية صادقة:
– افهمني يا قلبي.. عندما يريد الله عزّ وجلّ أن يهدي إنسان، فلا يستشيره.. الهداية من عند الله..
– خلصينا عاد يا امرأة.. أنت الأكاديمية الفهمانة، تقولين ذلك..! العالم وصل القمر، جزّء الذرَة، استنسخ البشر.. وأنتم ما زلتم تعيشون في وهم الجنة والنار..؟
– أرجوك أخّفض صوتك.. لا أريد أن يسمعك الأولاد.. إن شاء الله سيكون خيرًا.. أنا متوكلة على الله.. قالت ذلك وهي تنظر من النافذة إلى عالم أخر.. عالم مجهول.. لم يره زوجها الحبيب قط.. لا من خلال بصره أو بصيرته..
دقائق ثقيلة مرّت عليهما.. وهما يتجادلان..
وكيف ستصمد روح تلك المرأة الطاهرة، بين إلحاد زوجٍ، وفي مجتمع ممزق بعثرته المدنية الحديثة.. والدوّامات السياسية.. والركض وراء الكماليات..
وكيف سيتقبل رجلٌ علمانيّ مثقف، هذه القفزة النوعية التي غيّرت كل ملامح حياته في غضون أيام قليلة..؟
تلك اللحظات الدرامية..؟ لم تستمر طويلا.. إذ سرعان ما سقط الرجل على الأرض، جثة هامدة، لتنقله زوجته وأولاده بسرعة البرق، لأقرب مستشفى..
أيام عصيبة مرت ولم يستيقظ الرجل.. وكانت تجلس بجانبه تبكي بصمت.. هذه الجلطة الدماغية، ربما لن يصحو منها للأبد، كما أخبرها زملاؤه الأطباء..
ولكن في ذلك اليوم السعيد، عندما فتح عينيه بصعوبة.. ونظر لكل الإتجاهات.. ثمة أشعار سماوية كانت تملأ أذنيه.. أشعار روحانية، شفيفة، لم يسمعها قط في شعر هوميروس وقيس بن الملوّح وشكسبير ولا حتى نزار قباني..
تراتيل خافتة، ناعمة.. تُناجى الله العليّ القدير..
ونوتات غريبة.. كانت تعزف على أوتار قلبه..
أغمض عينيه مرة أُخرى.. وفتحهما عدة مرات.. وحاول أن يستجمع قواه لكي يجلس، ولكنه لم يفلح..
ولكن ثمة رائحة غريبة، زكمت أنفه.. رائحة جميلة، زكية، أرجعته سنوات طويلة.. إلى الوراء.. عندما كان صبيًا يافعًا، يذهب مع جدّه لأيام العُشر المباركة.. ويقضي في الخلوة أجمل الساعات، تُعطّره بركة المشايخ الأفاضل.. وتدفئه أنفاسهم الطاهرة..
نظر إليها بخوفٍ وسألها: – أين أنا.. كم الساعة الآن؟
ثم حاول رفع يده.. ولكن يده كانت ثقيلة بل ثقيلة جدًا..
-أين أنا..؟ سألها مرة أُخرى.. وهو يجول بعينيه المرهقتين في أرجاء الغرفة الصغيرة..
– اهدأ يا عمري.. قالت له وهي تمسح جبينه وكفيّه بزيت مزوّر، مُعطّر من المقام الشريف..
– لم يكن لنا مناص سوى أن نجلبك إلى هنا بعد الجلطة الدماغية التي كادت تودي بحياتك.. والحمد لله، الله أشفق عليك وعلينا، ولم يُخيّب دعواتنا لك بالشفاء..
نظر حوله وهو غير مُصدّقٍ نفسه.. وتذكّر المشادّة الكلامية التي حدثت بينها.. والتي من بعدها لم يعد يذكر شيئًا..
تأمّل الصور المثبّتة على الحائط.. آيات قرآنية مقدّسة، كتبت بماء الذهب، وصور أولياء ومشايخ تنبض بالخير والمحبة والإيمان..
شعر بسكينة تغمر روحه.. وبرّد وسلام يطفئان نار قلبه.. وصفاء ذهنيّ لم يحظ به من قبل..
كان النور يغمر الضريح، وضباب أبيض كثيف يُغطي كل شيء حوله..
وثمة نور غريب تسلل إلى قلبه..
نور خافت، لطيف، أنار جوانب نفسه.. وطرد ظُلمات روحه..
ولأول مرة شعر بجذوة الإيمان تشتعل في ثنايا صدره..
نظر إلى زوجته التي كانت تبكي بحرقة..
وقال بثقة المؤمن الواثق بالله:
– الحمد لله على كل شيء.. الحمد لله..
– نعم.. الحمد لله على كل شيء، أجابته ودموع الفرح تغمرها..
وكانت تشكر الله عزّ وجلّ في سريرتها على سلامة زوجها، وهدايته له، وتستغفره على قسوتها وأنانيتها التي كادت تهدُم بيتهم السعيد، فالزواج مودة ورحمة.. وصعود السلم درجة درجة..