ذاكرة برهوم ليست ذاكرة فرديَّة، انَّها الذَّاكرة الجماعيَّة للعرب الحيفيِّين، الذين تجذَّروا في أرضهم والحيفيِّين الذين هاجروا وهُجِّروا من بلدهم. والذَّاكرة الجماعيَّة هي الضَّمان وهي الشَّاهد وهي التي تزرع فينا الأمل في العودة والبقاء.
ورأى د. خالد تركي ببصيرته الوطنيَّة، أنَّ عليه أن ينقذ هذه الذَّاكرة الجماعيَّة وأن يعيدها إلى أذهاننا، عن طريق من تبقَّى منها لأنَّ ضياع البقيَّة بعد “عمرٍ طويل” هو مأساة وكارثة، ولا يمكن توقُّع نتائجها، ولكن لا شكَّ في انَّها ستكون مأساويَّة حقًّا.
صحيح أنَّ هناك حقائق تاريخيَّة نعرفها، ولكنَّ هناك محاولات عديدة لطمسها وتغييرها وتغييبها، وعلينا أن نكون متيقِّظين لها ونأتي ببراهين ممَّن كانوا حريصين على كتابة تاريخ هذه المدينة والذين أتوا بإثباتات تؤكِّد عروبة حيفا كالمؤسَّسات العلميَّة والصُّحف والحياة الرِّياضيَّة وأماكن العبادة من مساجد وكنائس.
المأساة كانت مؤلمة والتَّهجير والشَّتات كانا من نصيب الأكثريَّة السَّاحقة من سكَّان هذه المدينة، العرب الفلسطينيِّين، ولكنَّهم كما يقول د. تركي ” في العُبِّ يحملون الكوشان وفِي الجبِّ يخبِّئون المفتاح، وفِي الجيب يقبضون على جمرة أملٍ في العودة إلى ديارهم..”. “الدَّهر عكروت والأيَّام جارت” كما قال جدُّه يوسف الذي فقد إبنه تركي وهو في ربيع العمر بعد انفجار قنبلة من بقايا جيش بني عثمان أو البريطانيِّين وهو ليس الوحيد الذي قضى نتيجة مخلَّفات جيوش الاحتلال الذين توالوا على هذه الأرض، فقد كان ظلمهم يلحقنا حتى بعد انقلاعهم عن أرضنا.
المأساة كما يراها كاتبنا هي في اخوتنا العرب الذين أضاعونا وأضاعوا فلسطين ويستشهد بنزار قباني حيث قال:
“سقوا فلسطين أحلامًا ملوَّنةً وأطعموها سخيف القول والخطبا
وخلفوا القدس فوق الوحل عارية تبيح عزَّ نهديها لمن رغبا
يا من يعاتب مذبوحًا على دمه ونزف شريانه، ما اسهل العتبا
أليس هذا حالنا اليوم أيضًا، لكنَّ شعبنا رغم كل ذلك، متشبِّث بحقوقه كما يقول الكاتب “إنَّ ارتباطنا بأرضنا وحبَّنا لوطننا وثيقان..كارتباط الجنين بحبل السُّرَّة وهو في رحم أمِّه..”.
لا ينسى كاتبنا أن يصف المدارس في حيفا، بأسلوب جذَّاب ورائع ولكنَّه ينتبه بحسِّه الطَّبقيِّ الى أنَّ “الطُّوش كانت تعلق “بين طلاب مدرستي الأسقفيَّة والفرير على أسباب طبقيَّة بين ” الأغنياء الفقراء”..
رغم قسوة المدراء، وكانوا رجال دين، عادةً إِلَّا أنَّ نشيد الصَّباح كان “موطني”، والصَّف الذي درس فيه برهوم كبقيَّة الصُّفوف كان فيه تلاميذ من مختلف الأديان..كأنَّهم عائلة واحدة..لا يعرفون العنصريَّة أو التَّزمُّت..ينشدون الأناشيد الوطنيَّة الصَّباحيَّة. ويذكر برهوم أنَّ معلم اللغة العربية كان نعمة الصباغ..
يذكر برهوم اسماء معلِّميه ومعظم أسماء أولاد صفِّه والصُّفوف الأعلى منه “والأدنى” منه وهذا وإن بدا عاديًّا فهو جزء من الذَّاكرة الجماعيَّة التي لا نريد لها أن تضيع..
نتعرف من صفحات الكتاب بشكل سلس شيِّق على أحياء المدينة، في فترة الانتداب وعلى بعض شوارعها ونعيش تلك الأيَّام ونحن نمرُّ بها اليوم وقد تغيَّرت أسماؤها واختفت معالمها القديمة، فهناك أحياء لم يبقَ منها إلا الاسم كوادي الصَّليب واختفت اسماء شوارع الحيِّ كشارع أبي العلاء وعمر ابن الخطاب وخالد بن الوليد وهارون الرَّشيد وحاتم الطَّائيِّ..واليرموك واليمن..
أما بحر حيفا فله نصيب الأسد في الكتاب، من وصفٍ لشاطئ البوتاجي وتلِّ السَّمك وابونصُّور، حيث يغرق القارئ في بحر من الوصف الجميل “هل سيعود إميل البوتاجي وشقيقاه ثيوفيل ووليم، إلى تلِّ السَّمك..فيجلس أحد الأخوة يراقب البحر والصَّيَّادين العائدين..ما أكثر هبات ربِّ العباد على العباد في هذا الشَّاطئ وما أكثر”سلاطعينه وأخطبوطاته وأصدافه وما أطيبها وما أشهاها، زد على ذلك وفرة الأصداف البحريَّة التي كانت تؤكل نيِّئة بدون طهي كالتُّوتياء والبطلميس والصَّدف البحريِّ وحلزون البحر”، إسمه معه تلُّ السَّمك.
.ويتساءل كاتبنا:
هل سيجد أبو نصُّور مكانًا لجلوسه ليدخِّن نرجيلته على شاطئه الشَّعبي مع كأس شاي أو كأس من “حليب السِّباع” قرب مستشفى حمزة الحكوميِّ..
أما صور العودة التي يطرحها كاتبنا فهي قمَّة في الرَّوعة ويطرحها بشكل تساؤلات يُفهَم منها الشَّغف لتلك الأيَّام والأمل في عودتها يومًا..
هل سيعود عمَّال القطارات لترميم المحطَّات..
هل سيعود إميل البوتاجي إلى شاطئه..
هل سيجد أبو نصور مكانًا لجلوسه على شاطئه..
هل سيعود أبو معروف إلى حانوته في سوق الشوام..
هل سيعود أبوغلامبو ليرقص بلباسه و”دناديشه”..
هل سيعود الغجر لبرامجهم التَّرفيهيَّة أيَّام الأعياد والمناسبات..
هل سيعود ذلك الأرمنيُّ إلى ساحة الخمرة ليبيع وابنته أقراص الكبَّة..
هل ستعود عائدتنا إلى شارع ياقوت الحمويِّ..بعد أن غادرت الوطن من أجل الوطن..
وهل سيعود أهل حيفا لترميمها كما كانت وأفضل..
إنَّ الأسئلة التي يطرحها د. خالد تركي، هي أسئلة إنكاريَّة، أي أنَّه مقتنع أنَّ العودة لا شكَّ آتية وهو لايريد الاستفهام من خلالها، فهو مقتنع تمام الاقتناع بحقِّ الفلسطينيِّين بالعودة الأكيدة إلى وطنهم، فقد هُجِّروا منه عنوةً وهذا ما يؤكده المؤلِّف في هذا الكتاب وفِي كتبه الأخرى أيضاً.
أمَّا إطالته في الحديث عن موت تركي ابن جدِّه يوسف فهو هادف يعبِّر فيها عن الحداد والألم على فقد الوطن وأبناء الوطن، يرى فيه ألمًا جماعيًّا ليس لعائلة الفقيد فحسب، بل لأمَّته ووطنه..
أبدع المؤلف في صياغة الأحداث وجعلها ممتعة رغم مرارتها وشدَّنا لقراءة الكتاب، فأسلوبه الجذَّاب، الذي اعتدنا عليه في مؤلفاته السَّابقة، تميُّز بأنَّه سهل ممتنع يهدف إلى إيصال جزء هامٍّ من تاريخنا بشكل ممتع.
إنَّ أسلوب د. خالد السَّرديِّ مميَّز وتستطيع معرفته حتى لو لم يكن الاسم مكتوبًا فالقصص الممتعة تشكِّل لبنة من لبنات كتابته وهي مأخوذة من الواقع الذي عاشه والده وأجداده وهم عيِّنة من المجتمع الذي عاشوا تفاصيله.
الاستشهاد بالآيات القرآنيَّة والأحاديث الشَّريفة وبشكل موفق يعبِّر عن الهدف الذي صبا إليه. وهذا في المصطلحات الأدبيَّة يُعتبر إشارات ثقافيَّة تُثري النَّصَّ وتجعله ثقة لقارئه ومُقيِّمه وعلى سبيل المثال لا الحصر “فاستوصوا بالنِّساء خيرًا” ، ﴿..ولا تفرَّقوا..﴾، ﴿..ولا تستوي الحسنة ولا السَّيِّئة.. ﴾ ، ﴿..يومٌ لابيعٌ فيه ولا خلَّةٌ ولا شفاعةٌ..﴾..
كذلك يرى في شعر المقاومة إشارات ثقافيَّة تؤكِّد ما يأتي به من مواقف وأحداث فيستشهد بنزار قباني حين يقول: ولو فتحتم شراييني بمديتكم سمعتم في دمي أصوات من راحوا . ويستشهد كذلك بمحمود درويش: عودوا أنَّى كنتم
غرباء كما أنتم
فقراء كما أنتم
يا أحبابي الموتى عودوا
حتى لو كنتم قد مُتم..
ويستشهد كذلك بالشَّاعر الطَّبيب قيصر خوري:
وإذا لم تنل هذي البلاد حقوقها
فتحيا كما تحيا الشُّعوب وتسعد
فخيرٌ لها أن لا تعيش ذليلة
لأنَّ حياة الذُّلِّ للموت موردُ
ويقتبس كذلك من شعر عمر أبو ريشة، عن معركة ميسلون:
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيها غبار التعبِ
كم نبت أسيافنا في ملعب
وكبت أفراسنا في ملعب
شرف الوثبة أن ترضي العلى
غلب الواثب أم لم يغلبِ
ومن الشَّاعر توفيق زياد كذلك:
ونصنع الأطفال
جيلاً ثائرًا
وراء جيل
كأنَّنا عشرون مستحيل
في اللد والرَّملة والجليل
ومن الشَّاعر سميح القاسم:
يدُك المرفوعة في وجه الظَّالم
راية جيل يمضي
وهو يهزُّ الجيل القادم
قاومتُ..فقاوِم
وعن الشَّاعر والمناضل داود تركي ينقل لنا، عن حيفا:
بلد بناهاالظاهر العمر قد صابه بغيابنا الخللُ
ترنو إلى الأحباب أعينه ويرومهم حتى بها الطَّللُ
إصدار مكتبة كل شيئ لهذا المؤلَّف الهام يُغني المكتبة العربيَّة بمادَّة لو لم تصدر لغابَ فصلٌ هامٌّ من ذاكرتنا الجماعيَّة فمبروك للمؤلِّف والنَّاشر..